زمن الأغنية البعثية... لبنانياً

    أغانٍ لنجوى كرم ووائل كفوري وفارس كرم وآخرين في مديح بشار الأسد

زمن الأغنية البعثية... لبنانياً

رامي الأمين

في مسرحية "فخر الدين" للأخوين رحباني، يقول فخر الدين (نصري شمس الدين) لعطر الليل (فيروز): "أنا السيف، وانت الغنّية". السيف والأغنية قطبا قيم الحرية والثورة والأخلاق الوطنية في مسرحية "فخر الدين"، حيث تتحرر عنجر، أيضاً بواسطة الغناء: "بيي راح مع هالعسكر، حمل سلاح راح وبكّر، بيي علاّ، بيي عمّر، حارب وانتصر بعنجر". الأغنية إذاً سيف ذو حدّين. الأغنية حادّة مثل السيف القاطع. لذا ينبغي الا يستهين أحد بالفنّ، وخصوصاً عندما يكون مؤمناً بالقيم ومخلصاً لها. أما إذا انقلب الفنّ على هذه القيم فلا بدّ أن يطعن في الصدر والظهر ويصيب مقتلاً. كتّاب الأغاني وملحّنوها ومؤدّوها، يتحملون مسؤولية كبيرة في هذا المجال، بحيث يجب ألاّ يأخذوها على محمل السفاهة. الأغنية لسان الوطن ورسولة قيمه في كثير من الأحيان، وهذا ما أرسته تجربة الأخوين رحباني، في كتاباتهما للأغنية الوطنية وتلحينهما لها. غير أن ثمة تجارب عدة، في الآونة الأخيرة، لم تعد تهمّها القيم، وتشذّ عن قاعدة الرحابنة في تحديد مسار الأغنية الوطنية، مذ بدأت الموجة التي ينشدها فنّانون من هنا وهناك، مما هبّ ودبّ، لزعماء محليين وعرب، وخصوصاً عندما تصبح هذه الأغاني كالسيف الذي، حين يوضع في يد (... ) يجرح.

غنّت جوليا بطرس خطاباً للسيد حسن نصرالله توجّه به إلى المجاهدين على الجبهة في حرب تموز (للأسف، استنكفت فضائية "المنار" الحزب الهية عن عرض الفيديو كليب المرافق للأغنية لأن المطربة لم تكن ترتدي في الفيديو كليب المشار اليه لباساً شرعياً. هذا ما تناهى الينا). ثم سمعنا كلاماً كثيراً عن أغان انشدها كثير من الفنانين المشهورين لزعماء لبنانيين، منهم الرئيس نبيه بري، السيد نصرالله، الدكتور سمير جعجع، النائب وليد جنبلاط، والنائب سعد الحريري، وغيرهم الكثير. وهذا قد يكون "طبيعياً" ويندرج في سياق التسويق الساذج، ولا يشذّ عن قاعدة التخاطب السياسي الشعبوي الداخلي في البلاد.

أما الغناء لزعماء من خارج الحدود، وتحديداً إلى رئيس النظام البعثي في سوريا بشار الأسد، فمسألة أخرى، وفيها نظر. يعلم القاصي والداني، التباس علاقة الرئيس السوري بلبنان واللبنانيين، ومدى القهر الذي تسبب به، ولا يزال، نتيجة ممارسات جيشه ومخابراته على الأرض اللبنانية، بالإضافة بالطبع إلى الشبهات حول تورّط نظامه في جرائم الإغتيال.

آخر الغيث، مهرجان "منحبّك" الذي أقيم في مطالع شهر حزيران في سوريا، بعد "مبايعة" الرئيس السوري بشار الأسد بولاية ثانية، بأكثرية  نحو 97 في المئة، وشارك فيه رهط من المطربين اللبنانيين، بينهم نجوى كرم، وائل كفوري، فارس كرم، عاصي الحلاني، رضا، وهدى حداد (غير المطربة هدى حداد، شقيقة فيروز). وقد تسنى لنا أن نطّلع على بعض هذه الأغاني وأسماء مؤدّيها.

"شمس الأغنية اللبنانية"، الأخت المناضلة الممانعة نجوى كرم تغنّي لبشار الأسد القائد، وللراية السورية البعثية "بدنا نحافظ بدنا نجاهر بهويتنا السورية، ونسلم بشار القائد رايتنا السورية، ويحملنا من نصر لنصر، بدنا الاستقرار بدنا يا بشار". أما الأخ المناضل وائل كفوري، الذي يحتل الشعر مساحة كبيرة من وجهه (يحلق الشعر عن جبهته وتحت عيونه ربما)، نجم ستوديو الفن وأحد "ضحايا" سيمون أسمر، فيغنّي "يا سوريا رشّي طيوب، علّي بوابك دار ودار، نحنا وشعبك صرنا قلوب تـ توسع أمّة بشار". والأغنيتان القومجيتان من إنتاج "روتانا ستايل". هذا فضلاً عن أغنية لبطل الفروسية والسباحة وركوب الخيل فارس كرم، الذي يدبك على وقع أغنية ثالثة في مديح الديكتاتور تقول: "بالدم بالدم ما بيصير مي الدم لا تهتم أبو حافظ لا

تهتم نحنا أبو باسل علّمنا ما نبايع إلا بالدم".

آمل أن أعتقد أن لا أحد، في لبنان المطعون، يستطيع أن يعلّق على هذه النوعية "العالية" من الفنّ القومجي الذي يمجد الديكتاتور والنظام، إلا بما يليق بالقرف الذي يعتريني وأنا أسمع من يطلق على نفسه في كل مكان،

أنه "فنان من لبنان"، مغنّياً الأغاني "الوطنية"، ومتفاخراً بأنه "رايح بكرا ع الجيش"، أو "الي بتقصّر تنورة، تلحقها عيون الشباب".

القرف هي الصفة الوحيدة التي تشفي غليلي بينما أكتب هذه السطور، وبينما أسمع على مضض هذه الأغاني التي وصلت بالإيميل.

قد يكون من الجائز ألا يتم الردّ على كل من نجوى كرم ووائل كفوري والفارس المغوار، الذين لا يجدون حرجاً في الغناء لبشار الأسد، الرجل الذي يريد سحق لبنان وتدميره ومحوه من الوجود وقتل خيرة أبنائه، فهو لا يني يتوعد بلادنا وسياسيييها ورجالاتها بالدمار والقتل. لكني لا أستطيع أن اكبت ما في قلبي. لا استطيع تجاوز العهر والسفاهة اللذين يتلفظ بهما هؤلاء الفنانون الثلاثة المذكورون، ضاربين عرض الحائط بكل الألم الذي عاناه لبنان واللبنانيون جراء السياسات البعثية، وما قامت به المخابرات السورية وعملاؤها في لبنان.

ربما من الضروري في هذه الآونة أن يعود وائل كفوري إلى صفوف الجيش اللبناني من جديد، في زمن صار الجيش جيشاً يواجه ويدافع عن الوطن وشرفه، ولم يعد جيشاً محايداً، كما كانت الحال عندما غنّى هذا الكفوري "أنا رايح بكرا ع الجيش". في ذلك الوقت، كان النظام السوري وبشار يمنعان الجيش من القيام بدوره، على حساب دعم جماعات متطرفة وسلفية. يجب أن يعود الشاب الذي يغنّي "ثلج ورعد وبرد وريح"، ليذوق يوماً حاراً واحداً من أيام الجنود اللبنانيين في مخيم نهر البارد، حيث يواجهون أعداء الوطن من عصابة "فتح الإسلام" وسواها بالتأكيد.

وربما يجدر بنجوى كرم أن تستحي من عمرها الفنيّ، وأن تحترم موقعها، وفنّها الذي قد يكون كثيره غير مقنع على صعيد القيمة الفنية، إن بالكلمة أو باللحن، وألا تهبط أكثر في حفرة الإنحطاط البعثي، عبر غنائها: "بدنا نحافظ بدنا نجاهد بالروح الباسلية، ونسلّم بشار القائد رايتنا السورية،

ويحملنا من نصر لنصر، بدنا الإستمرار، ونبايع بشار...". ربما يجدر بها أن تتخلى عن هويتها اللبنانية التي تتباهى بالتنوع والتعددية واحترام الآخر، وتذهب إلى سوريا وتبايع بشار بالروح والدم، فتتحول من فنانة إلى ورقة في صندوق إنتخاب.

المشكلة ليست في تبنّي موقف سياسي معيّن، إذ يمكن الفنان أن يكون ممانعاً أو متأمركاً، وله أن يتخذ الموقف الذي يريد، شرط أن يتحمل مسؤوليته، وألا يشخصن الأغنية، ويؤلّه القادة والزعماء. فيروز مثلاً غنّت فلسطين والقدس ومكة ودنيا العرب، فضلاً عن الشام وبيروت، ولبنان مطلقاً، لكنها لم تغنّ لحافظ الأسد أو لملك. لا مشكلة في الغناء لسوريا البلد والشعب، لكن الطامة الكبرى هي في الغناء لديكتاتور، يمعن في إيذاء اللبنانيين والسوريين على حدّ سواء. أنا شخصياً لم استسغ يوماً الأغاني التي غنّاها عبد الحليم حافظ لجمال عبد الناصر، ولا تلك التي غنّاها محمد عبد الوهاب للملك فاروق، فكيف لي القبول بفنانة متهافتة تغنّي لبشار الأسد. لا أقبل وديع الصافي عندما يفعل ذلك، واسجّل ملاحظاتي المتحفظة على مقالات زياد الرحباني الذي احترم فنه، عندما يقحم موقفه السياسي في فنه وموسيقاه، فكيف أقبل في المقابل بوائل كفوري وهو ينشّز: "وحياة الشام وبيروت عايش فينا (بشار) وما بيموت، الّي ربانا، ربّانا نكون كبار"!

أما فارس كرم، الذي لم أره يوماً في شارع الحمرا، حيث أُدمن الجلوس والبقاء والحياة، وهو الذي غنّى "شفتا بشارع الحمرا بإيدا في قلم حمرا عم تشيلو من الجزدان"، فلا يفاجئني أن اراه على شاشة الفضائية السورية يغني:

"أمّنتك ع بلادي ع أرض ولادي يا سيف العروبة ما يهاب الأعادي"، ونحن لا نأمن لبشار، هذا الذي أعمل "سيف العروبة"، في أجسادنا جروحاً تنزف ولا تلتئم.

على سبيل المثال لا الحصر، هل يعرف كل من وائل كفوري ونجوى كرم و"الفارس" أن مثقفاً وكاتباً سورياً من طراز ميشال كيلو يقبع في اقبية السجون السورية، فيما هم يغنّون لسجّانه؟

ربما لم يذق أحد منهم طعم السجن أو العذاب، ولم يفقدوا حبيباً أو صديقاً أو قريباً في مفخخة، أو أمام حاجز سوري، ولم يشعروا بالمهانة لإحتلال جيش المخابرات بلادنا لما يزيد على ثلاثة عقود.

نحن من الناس الذين "منضل شو بيحلالنا نغنّي، ما بيلتقى مرات عنا رغيف ومنعيش بأطيب من الجنّة"، على ما تغنّي الكبيرة فيروز.

عجبي من فنانين لا يحسون ولا يشعرون، ولا يراعون مشاعر بلدهم وأهلهم وجيشهم. عجبي من وطنية مزعومة لدى هؤلاء الذين يبيعون أنفسهم لأنظمة الغدر والمصالحات والمفاوضات مع العدو.

إذا كان الفنّ على هذه السويّة الإنحطاطية، فبئس الفنّ، وبئس الفنانون!