مصير أهل الفن
مصير أهل الفن
د . فاروق المناصير
في صغري كنت محباً للفن وأهله ، عاشقاً للموسيقى العربية وعندليبها الأسمر، حافظاً لأكثر أغنياته العاطفية والوطنية .. حينها انتظمت في أحد المعاهد الموسيقية العربية لدراسة النوتة الموسيقية والعزف على آلة (الأورج) ، ولكن القدر، ولله الحمد والمنّة ، صرفني عن هذا الطريق ، واختار لي طريقاً آخر غير طريق الفن وأهله .
فقد لزمت منذ مراهقتي دراسة القرآن الكريم وحفظه والتعمق في الدراسات الإسلامية والتاريخية ، والانفتاح على الثقافات العالمية ، وخاصة العلمية منها والفكرية والفلسفية والسياسية وعلوم النفس . لقد كان الكتاب هو زادي ورفيق دربي المفضل منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا .
واليوم .. عندما أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام الخوالي ، أحمد الله العلي العظيم الذي غيّر مجرى حياتي بشكل كامل وجذري إلى ما هو أفضل وأنسب لي في دنياي وآخرتي .
أقول هذا الكلام بعدما قرأت مقالاً في إحدى الصحف السيارة المهاجرة عن مصائر بعض أهل الفن ممن شغلوا الناس بفنهم وضجيجهم وشهرتهم التي طبقت الآفاق ، وبثرواتهم التي لا تعد ولا تحصى . ولكن الأمور بخواتيمها كما ورد في الحديث الشريف .
خذ مثلاً على ما أذكر: الممثل المصري (إسماعيل ياسين) المشهور بأدواره الكوميدية الهزلية الضاحكة ، الذي أضحك ملايين العرب من الخليج إلى المحيط ، والذي سميت أفلام كاملة باسمه ، مات مفلساً فقيراً مديوناً ، ترك لابنه من بعده ديوناً مالية يصعب سدادها إلا بعد سنوات طوال .
وها هو (أمين هنيدي) المسرحي الذي كان يُضحك خشبة المسرح قبل الجمهور في كل ليلة ، مات في المستشفى بعد مرض عضال ، ولم يستطع أهله إسخراج جثته لأن ذويه لم يدفعوا مصاريف علاجه البالغة 2000 جنيه فقط ، كان (الهنيدي) يجمع أضعافها في كل مسرحية أو فيلم يظهر فيهما .
أما (عبد السلام النابلسي) فقد أرسله والده إلى مصر للدراسة في الأزهر ليصبح عالماً إسلامياً كوالده ، ولكنه ترك الأزهر الشريف وانصرف عن العلم الشرعي لينخرط في سلك الفن وأهله وعالمه الغريب .
وليغدو بعد ذلك ممثلاً مشهوراً ، ونجماً من النجوم الفن العربي في مضمار الكوميديا الهزلية والضاحكة لعدة عقود .
ولكن نهايته كان الفقر المدقع والعوز الشديد ، وقد نسيه حتى الذي أحبوه وصفقوا له بقلوبهم قبل أكفهم ، وطواه الزمن وعالم الصمت والقبور.
ونفس المصير لاقاه المخرج السينمائي (حسن الإمام) ، الذي لقب بـ (مخرج الروائع) هذا الرجل باع كل شيء في حوزته حتى أثاث بيته ومنزله ، بل اضطر في نهاية المطاف إلى بيع حتى ساعة يده ليشتري بها لقمة تسد رمقه وجوعه ، بعدما تخلى عنه كل أصحابه ، ثم مات بشكل بائس وكئيب ، وهو الذي جمع الملايين من الجنيهات .
أما الفنانة (ليلى مراد) زوجة (أنور وجدي) ، صاحبة الصوت الجميل والوجه الجميل ، وصاحبة الأدوار السينمائية العديدة ، وهي من أصول يهودية ثم أسلمت ، فقد عاشت سنواتها الأخيرة فقيرة حسيرة بعدما انحسر عنها الشباب والجمال والشهرة ، وعاشت في ضنك العيش وحيدة معزولة عن الناس حتى وافتها المنية في شقتها في القاهرة منذ سنوات قليلة .
وقبلها فقدت (عقيلة راتب) بصرها وآخر قرش تملكه ، وأقعدها المرض والعمى في منزلها إلى حين ساعة وفاتها ، عندما زارها (الزائر الأخير) ملك الموت .
وكانت (مريم فخر الدين) و (زهرة العلا) من الوجوه الجميلة والأصوات الدافئة ، ولكن ممتلكاتهما بيعت في المزاد العلني بعدما أعرض عنهما المخرجون ، حتى هددت (مريم فخر الدين) بأنها سوف تتحجب إذا لم يسندوا لها أدواراً ولو كانت صغيرة تافهة ، وذلك لحاجتها إلى المال حتى تستطيع البقاء على قيد الحياة ... مجرد الحياة فقط ، وهي التي كانت تصيف في لبنان وأوروبا وتشتري ملابسها ومكياجها من (باريس) و (بون) .
وهذه (مادونا) اللبنانية صاحبة الإغراء في اللباس والصوت والأغاني الماجنة ، ماذا حدث لها ؟ لقد تخلى عنها المنتجون والمخرجون واستبدلوها بغيرها من الفتيات الصغيرات ، مما اضطرها إلى بيع حتى منزلها ومأواها ، وفي الختام عرضت ملابسها وفساتينها للبيع حتى تستطيع أن تعيش وتجد لقمة العيش ، وهي التي اشترت هذه الفساتين بعشرات الآلاف من الدولارات. وهي اليوم تعيش حسيرة وكسيرة وفقيرة.
أما (محمد زويد) المطرب البحريني المشهور والذي كان يُحيي الحفلات والأعراس وتُذيع الإذاعات الخليجية أغنياته ، كرمته الدولة بعد وفاته ، ولكن كيف مات ؟ مات كبقية زملاء المهنة والفن ، مات معدماً وفقيراً وتركه أصحابه ورفقاء مهنته ونسيه الناس .
وقد تقاعد (يوسف وهبي) و (أمينة رزق) و (فاطمة رشدي) على معاش تقاعدي يبلغ 32 جنيهاً فقط ، تم رفعها إلى مائة جنيه مصري .
وهناك اليوم أربعمائة فنان يعيشون على القروض والصدقات .
وقد مات الممثل (عماد حمدي) حسيراً كسيراً لا يملك لقمة العيش ، ومعزولاً عن أهله وزملاء مهنته والناس أجمعين ، مات دون أن يشعر بموته أحد .
أما الفنان الوسيم (رشدي أباظة) صاحب البطولات الكثيرة والأفلام العديدة ، وقد كان (زير نساء) من كل صنف ولون وجنس (رشدي أباظة) قبل وفاته دخل في غيبوبة لمدة عام كامل ، صحا بعدها بأيام قبل موته ، وعندما حان أجله كانت الممرضة تلقنه الشهادة ، فإذا بلسانه لا ينطق إلا بكلمة واحدة يكررها على مسمع الأطباء والممرضات ، (هاتي بوسة .. هاتي بوسة) ، نعم .. لقد كانت حياته (عربدة .. وقبلات وخمر) ، وصدق الله العظيم : { فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم } [البقرة : 59]
أما سندريلا الشاشة العربية (سعاد حسني) ، التي كانت تتقلب في الشهرة والأضواء والنعيم في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم ، فقد تجرعت في سنواتها الأخيرة أحزانها وآلامها وأمراضها ، وعجزت عن دفع تكاليف علاجها في مدينة الضباب (لندن) ، وقد كانت تصرف الآلاف على سهراتها وفساتينها ومكياجها وسفراتها إلى أوروبا ، ولكنها عاشت في أيامها الأخيرة حياة الكفاف والفاقة والعوز، واعتزلت الناس وذهب جمالها .. وروحها المرحة ، ثم ماتت من شاهق (منتحرة ، أو مقتولة ، أو زلة قدم) والله هو العالم ، وسوف ينساها الناس حتماً ، كما نسوا غيرها في دروب هذه الحياة : {نسوا الله فأنساهم أنفسهم } [الحشر: 19]
هذه ـ يا صديقي ـ سُنة الله في خلقه عندما يبتعدون عن منهجه وشرعه ، فهو القائل : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } [آل عمران : 140]
وقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : " حقيق على الله ما ارتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ".
وصدق الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه حينما قال : (ما أكثر العبر وما أقل المعتبرين).
غير أن الركون إلى دوحة الخالق الكريم والالتزام بشرعه ، واللجوء إلى رحمته ورضاه والعيش في كنفه ، يقي الإنسان هذا المصير البائس والأسيف ، وخاصة في الكبر والشيخوخة بعد زوال الشهرة ، وانطفاء الأضواء والخسارة المجد والنجومية ، وفقدان المال والجاه ، وقبل ذلك وبعد ذلك الاستقرار النفسي والاطمئنان الروحي ، والعيش بسلام وراحة .
ترى .. لو فكر هؤلاء في هذه العاقبة السيئة وتلك الكارثة الماحقة ، وما هم صائرون إليه من خوف وعوز وفقر مدقع ومستقبل مظلم وحياة بائسة وكريهة .. هل كانوا سيختارون لأنفسهم هذا الطريق الشائك ، وهذا النفق المخيف والمظلم ، وتلك الحياة الزائلة ؟
وصدق من قال : (نبدأ حياتنا مغمورين ، ثم نصبح مشهورين ، ثم نغدو مقبورين ، ثم سعداء مسرورين أو أشقياء مقهورين) .
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة .