حول النشيد الإسلامي
حول النشيد الإسلامي
مروان قدري مكانسي
كثرت
الكتابات حول النشيد الإسلامي
وتنوعت، ومعظم هذه الكتابات تشكو من وهن و ضعف ، ذلك
لأن معظم كاتبيها يتحدثون من
جانب ويغفلون كثيرا من الجوانب ... وترددت كثيراً قبل
الكتابة في هذا الموضوع بيد أن
لفيفا من الأصحاب والأحباب أشاروا عليَّ بأن أكتب
وألحوا وأصروا فاقتنعت وامتثلت
إذ الامتثال أدب تعلمناه من مشايخنا وأهلينا ، وقررت
أن أخوض في هذا المضمار معترفا
ًبقلة بضاعتي وتواضع همتي فأقول متوكلاً على الله
:
بداية : لا يجوز لأحد لم يدرس الفن وأصوله أن يتكلم عن النشيد الإسلامي ، وإلا
فمثله كمن يتكلم عن ناطحات
السحاب ويصفها وهو لم يغادر خيمته في مضارب البدو
.
كاتب هذه
الكلمات من حلب الشهباء ولد وتربى فيها
واستمتع بالعبِّ من أكابر فنانيها وعلى رأسهم
: بكري كردي ( رحمه الله )
مروراً بعبد القادر الحجار ( رحمه الله ) وانتهاءً
بالأستاذ الكبير صبري مدلل ـ
حفظه الله ـ ولا أقول ذلك من باب الادعاء أو المفاخرة
، وإنما من بابين متلازمين ،
الأول : من باب التحدث بنعمة الله ، والثاني : حتى لا
أكون ممن يقول مالا يفعل . وقد
شرفني الله بأن قدمت للساحة الفنية ( في منتصف
السبعينات ) أول شريطين للأطفال
في العالم الإسلامي هما البراعم المسلمة ، وقد قيَّض الله لهما
انتشاراً واسعاً بفضله وكرمه ،
أما خبرتي في مجال الفن الإسلامي فتربو على الثلاثين عاما .
النشيد : مثلث تتساوى فيه أضلاعه الثلاثة : الكلمة واللحن والصوت ، ولا يجوز لأي ضلع أن يتميَّز عن مثيليه ، وبعبارة أخرى : كل الأضلاع تتكئ بعضها على بعض ولا يوصف نشيد بأنه مثالي مالم تتواكب فيه هذه العناصر مجتمعة . والمعلوم لدى الجميع أن المثلث المتساوي الأضلاع لا يمكن أن تعرف قاعدته من ضلعيه على وجه الثبات ، إذ كل ضلع يصلح لأن يكون هو القاعدة .
وأردت بهذا التمثيل أن أصل بالقارئ الكريم إلى أن النشيد الإسلامي الناجح لا تدري أي أركانه أكثر نجاحا وازدهارا : كلماته أم لحنه أم أداؤه ؟ لأنه متكامل متناسق هادف ممتع مريح .. ( وهات من المترادفات ما شئت )
والسؤال المطروح هنا : كيف يبدأ الملحن عمله ؟ هل اللحن يسبق الكلمة ؟ أم الكلمة تسبق اللحن ؟
لا تستغرب عزيزي القارئ من هذا السؤال فلقد عايشت الكثير من الملحنين ( أو ممن يسمون أنفسهم ملحنين ) يسيرون بخلاف الأصول . فما هي الأصول ؟
يأخذ الملحن الكلمة أولاً ويقرأها كثيراً كثيراً ويفهم معانيها ومراميها ( ولا يصنع لحنا ثم يبحث عن كلمات يركبها عليه ) ثم يختار المقام الذي يصلح لهذه الكلمات ويناسبها ويترنم فيه ، ويمنع نفسه عن غيره ، فإذا اختار مقام البيات ـ مثلاً ـ أسر نفسه فيه وحجب نفسه عن سواه حتى يدخل المقام روحه وعقله ويملأ عليه فراغه وحياته ، وقد يعيش ساعات من المخاض أو الولادة المستعصية فلا ييئس ولا يتسرع فمآل الليل أن ينجلي وأذان الفجر أن يرفع ، وساعتها يولد اللحن قويا متماسكا ..
قلت : يبحث الملحن عن المقام الذي يصلح للكلمات ، وقد سألني مذيع قناة ( أقرأ) في المقابلة التي أجريت معي في صيف 2002 هذا السؤال فأجبته : كل نوع من الكلمات يصلح له مقام من المقامات ، فإذا كان الملحن يعدُّ لحناً لكلمات ( ابتهال ) مثلاً فحريٌّ به أن ينكسر إلى الله بلحن يوافق الكلمة فيلجأ إلى مقام الصبا أو الحجاز ، أما إذا كان يلحن نشيداً وطنياً أو عسكرياً فليس له إلا مقام العجم أو مقام النهاوند .. إذن لكل نوع من الكلام مقام خاص يناسبه ، بل أكثر من ذلك ، و سأذكر حادثة قد يظن القارئ أنها غريبة .
في مدينة حلب مساجد كبيرة لا يؤذن فيها إلا جهابذة الفن والطرب ، ولا يتم ترشيح المؤذن إلا بعد مقابلة واختبار ( هذا في الستينات أما الآن فالأمور تغيرت ) وأراد أحد المطربين المشهورين وقتها أن يؤذن في واحد منها ، فذهب إلى الأوقاف ليقدم أوراقه ويتسلم العمل مباشرة وقد أغرته شهرته واستقبال الناس له بترحيب زائد ، أنجز صاحبنا المطرب المشهور كل أوراقه بلمح البصر ولم يبق له سوى مقابلة اللجنة التي تختبره ، فغضب وزمجر وقال أنا فلان وأحتاج إلى مثل هذه المقابلة ؟؟ اعتذر الموظف منه بلطف وقال : يا سيدي ، مدير الديوان لا يعتمد كل هذه الأوراق مالم تكن موقعة من لجنة الاستماع .
دخل صاحبنا إلى اللجنة ( وقد بلغهم غضبه وهيجانه ) وتمالك نفسه واصطنع الأدب وقدم أوراقه قائلاً : هذه الأوراق تحتاج إلى توقيعاتكم . نظر إليه أحدهم من تحت النظارة وقال : ليس قبل أن نختبرك . قال : فيم تختبرونني ؟ أجاب : في الأذان طبعاً . قال : ألا تعرفون من أنا ؟ لم يرد عليه ...إنما قال : ارفع لنا أذان الظهر . الظهر ؟؟؟ وهل يختلف أذان الظهر عن غيره ؟ ( قالها في نفسه ) لكن صاحبنا المطرب تمالك نفسه ، وكتم غيظه ، وأخذ نفساً طويلاً ملأ به رئته ثم رفع عقيرته بـ الله أكبر الله أكبر ولكن على مقام (الحجاز) أوقفه عضو اللجنة قائلاً : نأسف لعدم قبولك ، أنت راسب ، اذهب وتعلم ما يناسب كل وقت ثم عد إلينا .
بعدما عرفنا أن لكل نوع من الكلمات نوعاً من المقامات يصلح له و يوافقه وصلنا إلى نقطة هامة وهي أداء هذا اللحن الذي تمَّ إعداده ، وهذه نقطة تسمى نقطة المنعطف الخطير ، فإذا كان اللحن متكاملاً والأداء ضعيفاً فسد النشيد وضاع هباءً ، وإذا كانت إمكانات التسجيل متواضعة على الرغم من كمال الأركان الثلاثة جاءت النتيجة نفسها و... إذن يجب أن يتوفر في النشيد الإسلامي كل متطلبات النجاح حتى يبرز في صورة لائقة ولا يستغني عنه سامعه من أول مرة يسمعه فيها أو يضرب به عرض الحائط لمجرد فراغه من سماعه .
ثم ماذا عن قلب الأغاني ؟؟؟
شاعت في الآونة الأخيرة ظاهرة قلب الأغاني المشهورة و إلصاق كلمات دينية بلحنها لتصبح بعد ذلك نشيداً إسلامياً ، ولا يقدم على هذه الخطوة إلا منشد مفلس أو ضعيف الخبرة أو متقاعس لا يقوى على تحِّدي نفسه فاستسهل الطريق ، وهي - بغض النظر عن كونها ضعفاً في المنشد - تبدو وكأنها ضرب من ضروب المسخ والتشويه ، بل تظهر كصعلوك دميم يرتدي حلة فضفاضة ، وقد عزا بعض الناس سبب ذلك إلى أنه استثمار للحن طيب لكن كلماته منافية للدين .. هذا تبرير قد يعجب من لا خبرة له ..، أقول لصاحب هذا الرأي : الحجة واهية فالأغنية تبقى أغنية وهذا العمل يخلد تلك الأغنية فإذا ما أنشدت أنشودة من هذا النوع تبادر لذهن السامع أصلها وكلماتها الأولى ونسي ما هو فيه ، وبعبارة أخرى يجب أن يكون للنشيد الإسلامي هويته الخاصة به ولا ينبغي أن يكون مهلهلاً مرقعاً .
بقيت نقطة أخيرة أحب أن أقدمها للمنشدين الملحنين( وقد وقع الكثيرون فيها ) وهي : لا تفرحوا بكثرة الأشرطة التي تقذفون بها إلى السوق فالعبرة بالكيف لا بالكم ، فكثير من الأشرطة نسمعها تكون أناشيدها متشابهة وليس ثمة تغيير بين الأنشودة وأختها إلا تغيير في (القفلة) هنا ، وحركة في (المذهب ) هناك
و ... ليحاول كل منشد أو ملحن أن يبذل قصارى جهده في تقديم الجديد والله معكم ولن يتركم أعمالكم ، والسلام عليكم .