مسرحية على خد الحلم

حالة فوضى مسرحية في فضاء التجريد

وليد حمدان

*يتناثر الدخان في فضاء المسرح، ليشكل لنا لاحقا لوحة تجريدية مرئية، تدخل الشخصية الأولى تبدأ بالتحدث إلى الجمهور، تنتهي.. تمزق الورقة.. تخلق حالة جدلية مكونة من النص الآلي المكتوب والمقروء مسبقا، وبين ما تريد الشخصية أن تخبرنا به (عملية تمزيق الورقة أو النص) التحرر من القيود، حيث تخلق الألوان في هذا المشهد تناقضات رمزية فلسفية مبسطة " الرداء/ الثوب والضوء على خشبة المسرح " اللون الأحمر والأسود والضوء ازرق في الخلفية، تتبعها أصوات خفقات أرجل، يدخل الممثلين من يسار المسرح بخط مستقيم وخطوات ثابتة كصف العسكر يصطفون مخلفين لنا ظهورهم، تخفت الأضواء قليلا في الخلفية يغيب الممثل، ويبرز القمر كعنصر رمزي مزمن يرافق أحداث المسرحية طوال الوقت.

بعدها تستدير لنا إحدى الممثلات بجسدها وهي تمسك بحبة تفاح حمراء اللون وتحدق إلى فضاء المسرح، مع الضوء الخافت وتلك الأجواء السوداوية المشحونة، يخيم الصمت على خشبة المسرح برهة ليترك لنا عدة أسئلة عن ماهية العمل أو ربط المشاهد وكيفية تناسقها لاحقا في سياق روح العمل المسرحي.

 عندها تكسر توقعات المشاهد، مع إضاءة الفضاء المسرحي وتحليق الممثلين في سماء الجنة، تجتاح خشبة المسرح فوضى جنونية، نرى شخصيات المسرحية في صراعات افتراضية على حبة التفاح، بشكل كوميدي ساخر، وبعدها تنشطر الشخصيات إلى أخرى وأخرى وأخرى.. مخلفة ورائها قصص وحكاية كانت نقطة انطلاقها الأولى حبة التفاح وانتهت بموت الأم وفقدان القاضي سلمان الحكيم بصره.

الاسلوب الاخراجي والاداء التمثيلي في استحضار اسلوبي" الممر والسكيرا "

يحاول أن يجسد لنا المسرحي كامل الباشا مخرج هذا العمل، الدراماتورجي الأدائي الاستعراضي الموسيقي الراقص، باعتماده بشكل أساسي على استحضار ودمج أسلوبي إخراج مميزين جديدين،في المسرح الفلسطيني وهما:

الممر: "حيث تعتمد هذه النظرية (الأسلوب) بشكل أساسي، على البحث في تقنيات التفاعل التمثيلي مع الفراغ المسرحي المطلق وتجريد المنصة من كافة عناصرها باستثناء الممثل وأدواته، واعتماد الإيهام بتلاشي المكان والزمان وانشطار الشخصيات وتنافرها وجاذبيتها وتقاطعاتها النصية والحركية. " حيث تعود هذه النظرية للمسرحي الفلسطيني الراحل يعقوب إسماعيل رئيس رابطة المسرحيين الفلسطينيين.

سكيرا: " تعتمد هذه النظرية (الأسلوب) على تمكين الممثل من كافة عناصر الأداء المسرحي فيزيائيا ثم التدرج بالانتقال من الوعي الجسدي، إلى الوعي الفكري والتحليلي." حيث تعود هذه النظرية (الأسلوب) إلى المخرج و أستاذ التمثيل الايطالي غابرييل فيشاس.

ينشئ لدينا لدى دمج هذين الأسلوبين حالة فوضى مسرحية في فضاء التجريد المسرحي،لم تعد ماهية للزمان أو المكان،و عدم ترابط الأحداث الدرامية التي تدور على خشبة المسرح، المنبثقة انشطاريا بشكل غير منطقي أو انسيابي،فتكسر توقعات المشاهد نهائيا، حيث يدخل المشاهد كعنصر مشارك مباشر في حالة الفوضى التي تدور أحداثها على خشبة المسرح ويضيع بين مخلفات أحداثها، فنرى الشخصيات في حالة ديناميكية متغيرة متبدلة الأدوار وكأنها ترتدي القناع " الشخصية " الذي تراه مناسبا لها لتتداخل ببعضها البعض وما تلبث بان تستقر في ذالك القناع حتى نراه يخلعه ويرتدي شخصية أخرى، ليختلط الخير بالشرير الظالم بالمظلوم الحاكم بالمحكوم الصادق بالكاذب الشريف بالمخادع والعكس بالعكس.

 حيث يوظف المخرج بوعي تام كافة العناصر المرئية على خشبة المسرح كالملابس والإضاءة لخلق تناقضات لونية فلسفية الأبيض بالأسود الملابس الحمراء بالإضاءة الزرقاء الحار بالبارد والمعتم بالنير الخير بالشرير بالإشارة إلى المذهب التعبيري الألماني " الاكسبريسيونستي/ الاكسبريسيونزم "،ونجاحه ببناء لوحات تناقضيه مرئية درامية، بين ما يحدث في مقدمة خشبة المسرح والأحداث في مؤخرته،وتجسيده شخصية السيدة الصماء البكماء برمزية تستحضر دور العالم الخارجي الموجود في ذهن المشاهد الذي يشاهد ما يحدث على مسرح الحياة اليومي دون أن يكون له أي دور فعال ملموس سوى المشاهدة فقط! ليتحول لاحقا إلى شريك في عملية القتل،واستخدامه الحد الأدنى من الديكور والإكسسوارات كالشاشة ومؤثر القمر الضوئي في الخلفية، الحطة الفلسطينية التفاحة وكرسي الزعيم.

فنرى قبيلة الغجر تتنقل بنا بطقوسها الاستعراضية الغنائية الموسيقية الدراماتية السحرية والتاريخية، لتروي لنا أحداث المسرحية بشخصية الراوي الوهمية المنبثقة من اوبيريت غنائي على شكل مجموعات ممثلين وممثلات بشكل منفرد ومندمج،الجانب المضيء بالمعتم، موسيقى الحزن بالفرح، ليستحضروا قصة سلمان الحكيم والمرأتان المتنازعتان على الطفل ليحتكما لديه بدلالات رمزية لغوية مسرحية تخاطب أحداث هذا العصر.

 وخلطها بالفوضى الوجودية داخل مجتمعنا الإنساني الغير مستقر والمتزعزع، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والفلسطيني الفلسطيني.

خط دراماتي اخر !

باعتقادي أن العمل المسرحي بكل مكوناته المسرحية " لغة المسرح " يبدأ بأخذ خط دراماتي أخر، منذ اللحظة الأولى للمسرحية، وهي عملية تمزيق الورقة بعد قراءتها، حيث تكرر هذا الأسلوب بين تغييب المتوقع من الممثل " أسلوب تجريد الممثل في فضاء المسرح " على خشبة المسرح وكسر توقعات المشاهد " حالة الفوضى المسرحية (النظرية الانشطارية الممر ") "، تتقدم شخصية الحكيم أو عازف الكمان من مقدمة المسرح، تمسك بآلتها السحرية تبدأ بالعزف واسترسال ألحانها إلى أذان الدمى الجالسة على يسار المسرح في الخلفية، تبعث موسيقاه الحياة في كل شيء، حتى تبدأ تلك الدمى بالاستيقاظ رويدا رويدا، والرقص بحسب إيقاع الموسيقي بشكل بطيء وبانسجام تام، تحرك الدمى يد خفية في الأعلى لتظهر لنا تلك الخيوط السحرية على خلفية الشاشة بجانب القمر، عدة أشكال وأبعاد ابتداء من عازف الكمان والدمى الراقصة وانتهاء بالقصة التي تحدث على خلفية الشاشة بجانب القمر، برمزيات مختلفة،وكأن الصراع أصبح يأخذ حيزا اكبر واكبر، بين الموسيقى والصمت،الحياة والموت.. تتداخل جوقة الرجال حينا و النساء حينا أخرا، ليجسدوا لاحقا شخصية الراوي التي تروي أحداث من حقبات زمنية مختلفة ابتداء من مشهد الزنزانة وانتهاء بمشهد عملية الرصاص المصبوب في غزة..

الرمزية بالمسرح بدأ بالتفاحة مرورا بالانشقاق الفلسطيني وانتهاء بالأمم المتحدة والتخاذل العربي!

حيث تجسد رمزية الطفلة " الحطة الفلسطينية " لشخصية ارض فلسطين المتنازع عليها منذ القدم، وشخصية المرأة الفقيرة السكان الأصليين للأرض" عامة الشعب البسيط والمناضل"، والمرأة الغنية تجسد شخصية المستعمر والمحتال، حيث جسدت حبة التفاح برمزية الانطلاقة الأولى للخليقة، فيما كان دور القاضي سلمان الحكيم يجسد بمجلس الأمم المتحدة،المتأثر بسياسات الخارجية الأمريكية، التي تسيطر عليه، اقصد بالمحامي المرأة الغنية المحتال والذي يشرعن عملية الاحتيال والدجل بشكل قانوني، وشخصية محامي المرأة الفقيرة البسيط والذي يفكر بشكل غرائزي عاطفي ويحاول كسب القضية الإنسانية، بينما يحاولان المحاميين إقناع القاضي بان الطفلة " الأرض " ابنة " ملك " شرعية لموكلة كل منهم،يحتد الصراع بين الجانبين وكل يدعي بان الطفلة " الأرض " ملكه، يصدر حكم سلمان الحكيم بان تعيش الطفلة فترة لدى المرأة الفقيرة وأخرى لدى الغنية، وأصدر عدة أحكام أخرى بائت بالفشل لعدم استجابة كلا الطرفين وتقديم أعذار لا نهاية لها، ويصدر أخيرا القرار الحاسم تقسم الطفلة بالنصف وتأخذ كل امرأة نصف" قرار التقسيم "، وإما أن يكون حوار أو مفاوضات " اتفاقية جنيف/خارطة الطريق "، كرمزية أخرى يحاول المخرج أن يوصلها لنا لينقل تجسد الواقع الخارجي الفلسطيني و الصراع مع المستعمر الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني الفلسطيني داخل السلطة وحكومة السلطة الوطنية، بين تغييب الضمير الإنساني لدى صناع القرار ونهب مستحقات الشعب وتوزيعها على العصابات الحاكمة " مجموعة الزعران ".

موت الأم وقرار تقسيم فلسطين ومهزلة المفاوضات !

 وتأتي لحظات الصحو في ذروة هذا العمل المسرحي في فقدان شخصية المحامي المحتال صاحب التعبيرات الايروتيكية، السيطرة على نفسه وخنقه لشخصية المرأة المتنازعة التي كانت تحاول أن تتكلم وتعبر عن رفضها حتى الموت، بينما يحدق الجميع ساكنا بين تخاذل العالم الناظر وصمت الحكومات العربية، في اتخاذ قرار جماعي لوقف الرصاص المصبوب على غزة،مستكفين بالشجب والاستنكار والإدانة!،يعصب الحكيم عينيه " يفقد بصره " بعد أن كان فاقدا لبصيرته وهو مبصر، تستيقظ بصيرته وينطق بالحكم العادل بعد فوات الأوان وموت الأم " عملية تهجير ألاجئين ترانسفير/ القتل بدم بارد عملية الرصاص المصبوب غزة " بالجنازة الرمزية على خشبة المسرح هكذا يحاول أن يجسد لنا مخرج هذا العمل المسرحي الدراماتورجي الأدائي الاستعراضي الموسيقي و الراقص، المركب من حالة الفوضى المسرحية وخلطها بالفوضى الوجودية داخل مجتمعنا الإنساني الغير مستقر والمتزعزع، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والفلسطيني الفلسطيني.

يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: هل نجح المسرحي كامل الباشا، في تجسيد النظريتين " الممر و السكيرا "،في خلق جدل مسرحي بين ما يريد المخرج بان نراه على خشبة المسرح دون سياق أو رابط وبين تجريد الحقيقة المطلقة عبر هذا العمل مسرحي ؟

طاقم العمل تأليف الكاتب ادمون شحادة من الناصرة، دراماتورجيا وإخراج كامل الباشا، موسيقى رجا دبيات، تصميم الرقصات رشا جهشان، تمثيل: لطف نويصر، سمر أحمد، علي علي، اميمة سرحان، بيان عنتر، إيمان بسيوني، رنين الشاعر، ومحمود مرة، تصميم اضاءة نعمه زكنون،طاقم الغناء: خليل ابو نقولا، روز برغوث، حنين بشارات، اميمة سرحان، والأطفال: نهى قعوار، جنان عودي، نجيب سعد، بشار مساد، تقنيات أمطانس مزاوي،مدير الإنتاج لطف نويصر، إنتاج مسرح الحنين 2009.