أيام شامية

د. منير الشامي

أتيح لي أن أطلع على هذا المسلسل السوري (أيام شامية) الذي أخرجه بسام الشوا، من خلال شريط مرئي –فيديو- ولم أتمالك بعد رؤيته من أن أدخل إلى عالم القيم الموجود فيه لأنه يمثل أمتنا قبل مائة عام تقريباً، وأنا أرى الأمة اليوم ومسارها في كل شيء بعداً وقرباً من هذه القيم المذكورة.

 زمن الرواية:

لقد عرض الحدث في بداية القرن العشرين عام 1910 للميلاد.

مكان الرواية:

في مدينة دمشق وخاصة في حي من أحيائها – باب سريجة.

شخصيات الرواية:

لقد استعرض الأنماط المتكاملة للمجتمع من خلال شخصيات الرواية في ذلك الوقت وأهمل بعضها الآخر:

1 -  ديبو: حلاق.

2 -  أبو مصطفى: الزعيم (والسيد المطاع في الحي).

3 – أبو عبده: تاجر.

4 – أبو خالد: حارس ليلي.

5 – محمود: صاحب مطعم بسيط (فوّال).

6 – المختار: أبو محمد.

7 – أبو ياسين: حكواتي في المقهى

8 – أبو ضاهر: منجِّد (صانع الأثاث).

9 – أمّ عبده: زوج أبي عبده (الزوجة الأولى).

10 – نزيهة: زوجة أبو عبده (الزوجة الثانية).

11 – أم محمود: والدة محمود.

12 – أم نبيل: الداية.

13 – أبو قاسم: صاحب المقهى.

14 – سيفو: من الشباب الشجعان (عمل أجير حلاق).

15 – حمدي: من الشباب الشجعان (عمل أجير المقهى).

وهناك شخصيات ثانوية أخرى على رأسها إمام المسجد أو رجل الدين.

أحداث الرواية:

لابد أن نشير ابتداءً إلى أن أحداث الرواية ليست هي الهدف الرئيسي، إنما هي مكان لعرض المجتمع الدمشقي في بداية القرن العشرين، فلا يحاسب فيها على براعة القصة وقوة العرض وحسن السلب، وتشويق العقدة بمقدار ما يحاسب فيها على القدرة على العرض الأمين للمجتمع آنذاك.

وكما نرى فالأحداث عادية جداً لكن مدلولاتها عميقة وعظيمة، وهي التي نعرض لها في هذا التحليل.

يذكر علماء الأصول أن القيم التي هي قمة المبادئ البشرية، والتي يحافظ عليها خمسة وهي: الدين، النفس، العرض، المال، العقل. ومهمة الدولة أن تحافظ على هذه القيم الخمسة، فكيف نشهد هذه القيم من خلال هذه الرواية وفي مجتمعنا السوري قبل قرابة مائة عام.

لقد استطاع المخرج أن يعرض هذه القيم بأمانة تامة وموضوعية كاملة بعيداً عن التحيز أو إدخال الذات فيها. دون أن يحور الأحداث ويعتسفها لتخدم فكرة معينة في نفسه، وهذه قمة ما يسجل للمؤلف والمخرج في هذا الموضوع، فالأديب الحق ليس هو الذي يعرض أمته كما يشتهي، إنما يعرضها كما هي في إيجابياتها وسلبياتها.

الدين: لقد كان الدين في ذلك الوقت له أثر في أعماق كل فرد في شخصياته، لكن بصيغه في ذلك الوقت. فلم يكن هاجساً لدى القطاع الأكبر من الأمة هو حكم الإسلام لأن القوانين الإسلامية في ذلك الوقت هي التي تحكم المجتمع من مجلة الأحكام العدلية وإن كان الانقلاب العثماني في ذلك الوقت قد فرض مبادئ الاتحاد والترقي ووضع دستوراً للبلاد وكان هذا عام 1908 والذي رافقه عزل السلطان عبد الحميد، ونقطة التحول الكبرى هذه لم يعرض لها المخرج في أية صيغة وهذا من النقص الذي رافق هذه الرواية.

وقضية الصلاة وفرضيتها شيء رئيسي في المجتمع، فالجميع يصلون مع أنهم يمضون أكثر أوقاتهم ليلاً في المقهى لكن لا يناقش فيها أحد، غير أن الشباب المتفلت يتخلف عن الصلاة لا عن عدم إيمان بها، لكن عن إهمال وتقصير، ويمثل هذه الظاهرة (سيفو) الشاب القوي المفتول العضلات صاحب المشاكل، لكن عندما دخل إلى قبر مهجور وتذكر الموت متحدياً رفاقه سالت دموعه ووعد أن يصلي ويصوم ويتوب إلى الله إن أنقذه الله من هذه المحنة.

والحكم الشرعي بالنسبة لابنة أبي عادل التي حكم الشرع برؤية أبيها لها، كان دور الزعيم هو الحفاظ على الحكم الشرعي، وقرر أنه سيقوم بتنفيذ الرؤية بعد أن صدر الحكم الشرعي بالقوة فلا اجتهاد بعد صدور الحكم. والدين عند النساء أدعية وأوراد واستغاثة بالله، فأم محمود تقرر أن تقيم حفلة ذكر برجاء توفيق محمود في عمله، والخوف من الله يحكم كل قلب . فأبو عبده الذي لم يأكل مالاً حراماً قط والذي لم يكذب قط كيف يزوّر الشوارب لكنها سقطة وقعت منه لاسترداد دَيْنه، والتسمية بالله واللجوء إليه والتمسك بمظاهر الدين لا يجرؤ أحد على المساس بها. مع أن المخرج لو كان لديه أدنى انحراف لأدخل بعض هذه الشخصيات العلمانية المتفرنجة في مسلسله، لكنه حافظ على الأغلبية الساحقة والشريحة الكبرى في المجتمع.

وكان صادقاً أميناً في عرضه لقيمة الشوارب فقد عشنا هذه المرحلة عندما كنا صغاراً، وكانت قيمة الرجل من خلال شواربه، أما اللحية فمختفية تماماً لا توجد إلا عند إمام المسجد أو قاضي الشرع إن وجدت. ويتخلى الرجل عن حياته ولا يتخلى عن شواربه، وهذه قيمة جاهلية وليست قيمة إسلامية، فالنص الشرعي هنا: قصوا الشوارب واعفوا عن اللحى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كره النظر إلى من حلق لحيته وأطلق شاربه قائلاً:

"أما أنا فقد أمرني ربي أن أقص شاربي وأعفو لحيتي".

والمجتمع الجاهلي آنذاك كانت هذه قيمه إنما كان حلق اللحية والتركيز على الشارب من خصائص المجتمع الفارسي آنذاك، وفعلاً كان مجتمعنا يحفل بهذه القيمة المخالفة لشرع الله.

وأقول ابتداءً: إن المخرج نجح نجاحاً جيداً في عرض ذلك المجتمع، مع بعض الثغرات التي لو تم تلافيها لاعتبر المسلسل قمة لا مثيل لها في الهدف والأداء.

أما الحدث الرئيسي الذي تدور حوله الأحداث الجزئية فهو الحالة المدقعة لمحمود (الفوال) الذي يعيش مع أمه في شقة نصفها ملك له، ونصفها الآخر اضطرت أمه لبيعها لجارها، حين عزَّ القوت في البلد، فكان ثمن الشقة الثانية كيساً من الطحين، ولم تتمكن من دفع قيمتها لجارها، وألح الدائن عليها، وليس بين أيديهم وفاؤه وراح يستدين ذلك المبلغ من التاجر أبي عبده (تاجر الأغنام) وأصر أبو عبده ليعطيه المبلغ وهو خمس عشرة ليرة ذهبية عثمانية على ضمان لدَيْنه وكان الضمان أغلى ما يملكه محمود وهو شعرات شواربه.

ويفد إلى الحي شاب قتل قتيلاً في حي الشاغور يطلب الالتجاء إلى هذا الحي، وكان هذا القتيل هو من الشريحة التركية التي كانت تحكم البلد آنذاك، فتتحرك الحمية في الزعيم أبي مصطفى ويقبله لاجئاً في الحي عنده، ويكبر رجولته في هذا القتل، ثم يتصادق هذا الشاب مع (ديبو) الحلاق و(محمود) الفوال، وتتوثق عرى المحبة بينهم، وبدأ الناس يغمزون محمود لإقدامه على رهن شواربه مقابل هذا الدَّين، لكنه بجدّه وكدّه يهيئ المبلغ ويحضر إلى بيت دائنه أبي عبده ليسلمه المبلغ فيبحث أبو عبده عن شعرات الشوارب فلا يجدها ويجن جنونه. وكانت قد أخفتها زوجته الجديدة الشابة لتثأر من الزوجة الأولى التي تملك مفتاح صندوق زوجها، فهي المسؤولة عن ضياعها، وقد سرقتها في غفلة منها من الصندوق، فتتأزم القضية ويتدخل الزعيم ويضطر أبو عبده إلى الإتيان بشعرات تزوير ويدعي أنها شوارب محمود، وتكشف القضية ويُفتضح أبو عبده نتيجة الصراعات المحمومة بين زوجتيه ويحكم الزعيم ببقاء المبلغ مع محمود حتى يأتي التاجر الدائن بالرهن من الشوارب، ويزداد الناس في النيل من محمود والتعريض فيه، ويغضب له (ديبو) البطل ويقوم بعدة صراعات ضد خصوم محمود تجعل الحي يعج بالخلافات يتدخل الزعيم في حلها عندما يعجز الجميع عن ذلك، وفي اجتماع لأعضاء كبار الحي ينصر الزعيم الفوال محمود ويعتبر شوارب محمود وقيمتها من شواربه فعندئذ يرضى (المنجد) أن يزوج ابنته (فتحية لمحمود) بعد أن صارت كرامة محمود من كرامة الزعيم، ويعقد العرس وتدخل فتحية عنصراً ثالثاً إلى بيته مع أمه.

تشي الزوجة الثانية بالزوجة الأولى أن الشوارب معها، فيغضب أبو عبده ويأخذ الشوارب ويطرد زوجته الأولى ويقرب الثانية لكنه لا يطلقها ولا يرضى بتسليم الشوارب إلا باستلام المبلغ. كان محمود قد صرف المبلغ (خمس عشرة ليرة عثمانية) أو أغلبه في الزواج ويتدخل الزعيم ثانية لصالح محمود ويقول لأبي عبده: إنه هو الكفيل لمحمود بسداد الدَّين، فعندئذ تسلم الشوارب لمحمود وتنتهي عقدة الشوارب.

رافق هذا الحدث الرئيسي بعض الأحداث الجزئية، منها أن يعتدي الشرطة الأتراك على عرض (أبي أحمد) بائع البيض فيدخلون بيته ويزنون بابنته ويهربون، فيلتجئ إلى الزعيم الذي فكر طويلاً وطلب من أبي أحمد كتمان الأمر حتى يستر على ابنة أبي أحمد ويعلن زواج ابنه منها على أن يطلقها فيما بعد ويحفظ عرض أبي أحمد ولا يتحدث بالحادثة لأحد. حيث هدف الزعيم من طرف آخر إلى إعطاء الأمان للشرطة المجرمين كي يحضروا إلى الحي ويوصي أبا أحمد بالتباسط معهم، حتى يدعوهم إلى بيته، وهناك يدبر لهم من يقتلهم وهو (سيفو) اللاجئ السياسي الذي استغل دائماً لعمل الخير، وحدث جزئي آخر حول الحكواتي الذي منع أهل زوجته المطلقة ابنته منها أن يراها لخمس سنوات فيتدخل الزعيم ويفرض عودة البنت إلى أبيها بعد صدور الحكم الشرعي ورؤيته لها، ومن الأحداث الجزئية أن تطلق الزوجة الجديدة لأبي عبده حين كشفت زوجته الأولى أن الثانية هي التي سرقت الشوارب وأخفتها.

ودور إمام المسجد أو العالم دور ثانوي جداً وتفكيره محدود حين يحترم لإمامته الصلوات وليس لها دور فاعل في المجتمع، وهذا خلل في الواقع وليس خللاً في المسلسل فقد كان مجتمعنا في ذلك الحين بهذه الصيغة ولا يلقي دوراً أو أهمية للإمام وكأنما غدا دوره رجل دين في المسجد أو الكنيسة وعلاقته بالمجتمع من خلال دور العبادة وقد أعطاه المسلسل قيمة معنوية حين أدخله عضواً في لجنة كبار الأعضاء في الحي وهم أصحاب القرار فيه، كما تبرز بعض المفاهيم الإسلامية المغلوطة في هذا المجتمع حول دور الجن وتأثيرهم على الحياة في جميع شعبها وخاصة عند النساء والخوف من السحر والعين وتغلغل هذه القضايا فيه، ونراها حتى اليوم في كثير من جوانب مجتمعنا المعاصر، ومن القيم الإسلامية الكبرى الاهتمام بالقرآن الكريم وكيف كان أبو عبده يضرب أولاده على حفظ الأجزاء من القرآن. ومن أهم هذه القيم التي تبرز فيها المغالاة كذلك قيم الغيرة التي تصل أحياناً إلى الحد الجاهلي فأبو عبده يشبع ابنه ضرباً لأنه دخل على ضيوفه فهذا الطفل هو الذي يرافق أمه عندما تخرج إلى الطريق فإذا عرفه الناس والضيوف عرفوا أن زوجة أبي عبده هي التي تمشي في الطريق مع عرض موضوع التعدد وبعض آثاره السيئة والغيرة والمكائد البذيئة الناشئة عن هذا التعدد. وكيف يتدخل الهوى فيه وظلم المرأة ويعيدون ذلك إلى الدين.. إنه وصف للواقع.

القضية الكبرى التي تجاهلها المسلسل هي دور العلم الإسلامي في أرض الشام المباركة، وكأنه لا وجود للعلم فيها مع أن هذه المرحلة شهدت أعظم نضج علمي بل ثورة علمية في تاريخ دمشق، لقد كان الشيخ بدر الدين الحسني رحمة الله عليه مجدد هذا القرن يملأ الساحة علماً وفتوى وصيتاً والمسجد الأموي أبوابه مفتوحة للقادمين والرائحين، فهل يعقل في حي من أحياء دمشق مثل حي باب السريجة أن لا يكون أحد فيها تعلم ويحضر دروس العلم في هذا المسجد، والشيخ في قمة عطائه ونضجه الفكري والسياسي. لقد كانت هذه المرحلة مرحلة الصراع الفكري والسياسي وسيطرة جمال باشا فقد أُعدم رجالات سورية في المرجة شنقاً دون أن تأخذ هذه القضية حيزاً مناسباً مع أحداث هذا العصر، وبلغت الأحداث ذروتها كذلك حيث أعلن فيصل ثورته من القابون كما قال نسيب البكري: طاب الموت يا عرب. نعم ولقد كانت الأحداث التي ساقها توحي بذلك من حيث قتل الضابطة التركية، وتحمل الزعيم آثار هذا الخط بما يوحي بصلته مع زعماء الحارات المجاورة.

أما دور العلم والتردد على المسجد الأموي فلا نرى فيه (في المسلسل) أي أثر على الإطلاق.

لا أعتقد أن كاتب المسلسل عمد إلى هذا الإهمال إنما هو سهو وخطأ نسأل الله أن يغفر له فيه. وهذا لا ينقص من قدر المسلسل وموضوعيته وصدقيته، ويمكن أن يوضع مع مسلسل الخوالي في قمة المسلسلات الهادفة الصادقة التي نتمنى أن تكون جميع المسلسلات على مستواها الموضوعي.