الزير سالم

د. منير الشامي

مسلسل سوري كتب حواريته الأديب السوري ممدوح عدوان، وأخرجه حاتم علي، ولا أبالغ إذا قلت أنه أضخم مسلسل سوري قدّم تاريخ الجاهلية بأسلوب مثير، وعرض شيق، وتسلسل محكم، ولا أكاد أجد ملاحظة واحدة عليه، واستطاع أن يقدم النفسية العربية بلا عقيدة، وفسّر لنا استمرار حرب البسوس أربعين عاماً تنزف فيها الدماء بين الأهل والعشيرة الواحدة.  

لقد عرض القرآن هذه الصفحة بقوله:

(إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية). وسنعرض هذا المسلسل في أحداثه وفي أهدافه، ونعود بعدها إلى تقويمه.

المرحلة الأولى:

تعرض لنا وائل بن ربيعة وبيته مع أخيه سالم وأخواته، وفضلة الزهراء التي اضطروا لتزويجها لعامل الملك الكندي لبيد، وهم من بني تغلب في مقابل بيت مرة بن ذهل من بني بكر. وتغلب وبكر هما من بني ربيعة وينتميان إلى أصل واحد، وقد تشابكت العلاقات بين البيتين فقد تزوج همام بن مرة أسماء بنت ربيعة أخت وائل، بينما يود وائل أن يتزوج الجليلة بنت مرة، ويظهر وائل من البداية معتزاً بنسبه وطامحاً بقيادة القبيلتين معاً، وباحثاً عن مقومات القيادة.

لبيد يطالب ربيعة، ومضر بالجزية رغم القحط، ويرفض وساطة وائل صهره وفي مناقشة حادة بين الزهراء أخت وائل وزوجها لبيد، يسألها عن أعز العرب فتقول له وائل وسالم ابنا ربيعة، فيغضب ويلطمها على خدها معلناً أنه أعز العرب. وليأت وائل وليثأر لها، فتمضي الزهراء إلى بيت أهلها وتثير نخوتهم بشعر الثأر حتى يمضي كليب وائل فيقتل لبيداً خارج قصره، وتنقض عرب ربيعة ومضر فتغتصب قصره، فيمضي غسان أخو لبيد إلى الملك الكندي يطلب بالثأر لأخيه، ويبعث الملك الكندي بطلب عون التبع اليماني له لتأديب هؤلاء البدو، وتبرز البسوس خالة جساس وهمام وهي التاجرة الماهرة تتطلع إلى أن تسود على تجار العرب في تقربها من التبع اليماني ووزيره نبهان، فتعرض على التبع زواج جليلة بنت مرة لتصل من خلالها إلى سدة الحكم، وتعرض وساطتها في طلب جليلة من أهلها، فتغضب ربيعة. ووائل خطيبها ويصرون على رفض طلب الملك غير أنهم يقدرون العواقب الوخيمة لرفضها حيث يتعدد الثأر منهم، وقد يتفق الملكان الكندي واليماني عليهما، فيضع مرة ووائل خطة ظاهرها الموافقة على خطبة الجليلة وهدفها الدخول على الملك وقتله في قصره، حيث يرافق الجليلة أخوها جساس بصفته وصيفها الخاص، ووائل بصفته مهرجاً لها ويمضي سالم وبعض الفدائيين فيدخلون القصر في صناديق زينة العروس، بينما يكلف مرة وهمام بتعبئة جيش من العرب يتعد مع الفرسان المنفذين قريباً من القصر بعد قتل التبع اليماني، ورغم الأسطورة في هذه الخطة، فتنجح، ويقتل وائل بن ربيعة التبع اليماني في مخدعه بعد مبارزة شرسة ويقتل بقية الفرسان القيادات الكبرى عند اليمنيين والحرس، ويمضون إلى الجيش الذي تواعدوا معه عند السهول، ويخرج جيش يمني يلحق بهم، فتقع المعركة وينتصر وائل ويمضي هذا النصر دوياً عظيماً في أرض العرب، ويصبح وائل البطل الأول في الجزيرة العربية بعد قتل لبيد عامل الملك الكندي، وقتل التبع اليماني.

المرحلة الثانية:

حيث تجمع ربيعة على تتويج وائل ملكاً عليها، وتبدو طموحاته في السيطرة والحكم، ومحاولة تقليد ملوك اليمن بتكوين جيش من البدو يكون ولاؤه للملك لا للقبيلة، ومحاولة السيطرة على التجارة في الجزيرة العربية، والعمل على إقامة سور ضخم، وتكوين مدينة حصينة مثل مدن اليمن، والعمل على توطين العرب واعتمادهم على الزراعة عوضاً عن انتجاع الكلأ في كل مكان.

ويصطدم بالنفسية البدوية الأعرابية التي ترفض الانصياع إلا لقيم العشيرة والولاء لها ورفض تحول العربي إلى عامل في بناء السور وهو الذي تحتقر المهنة والعمل اليدوي، ويعمل كليب على جعل أبهة خاصة تناسب الملك، وتكوين طبقة ملوك وطبقة جنود وخدم.

ويبرز الصراع أشد ما يكون بين أولاد مرة: جساس وإخوته، وبين وائل الذي بدأ يحتقرهم جميعاً ويلغي القيم العربية في الإجارة واستقبال الضيوف، لتصبح ضيافة الملك هي الضيافة الوحيدة، وإجارته هي الإجارة الوحيدة.

وتعود البسوس وقد خسرت خطيبها نبهان، وتحطمت كل آمالها دفعة واحدة، وتصمم على الثأر من كليب وائل قاتل التبع اليماني ووزيره، وترى في الصراع بين بني بكر وبين بني تغلب ما يغذي هذا الحقد والثأر، لكننا نرى الزير سالم حتى الآن منكباً على خمره ولهوه ونسائه حتى أطلق عليه الزير لولعه بالنساء، غير عابئ بأخيه وملكه، لكنه عند الفروسية يثبت بطولة عالية وذلك حين كان له الدور الأكبر في مساعدة وائل ومساندته عند قتل التبع، كما تظهر الصداقة الحميمة بين همام بن مرة وسالم بن ربيعة في الخمر والسيف والنساء.

ناقة البسوس واسمها سراب، تود أن تسرّحها مع إبل وائل، فيرفض وائل لأنها تمت بدون علمه، وقد منع كل الإبل عدا إبل بكر بالرعي مع إبله، ويشتد ظلمه وسطوته حين يمنع إيقاد النار عند مرة لإضافة البسوس، واعتبر هذا اعتداءً على ملكه وتحدياً له، فلا يستضيف الضيوف إلا هو، ولا يصطاد أحد في حماه، وحماه حيث يصل صوت الكلب.

جساس بن مرة يشتد تذمراً من طغيان كليب، ويلتقي مع كليب وائل فيهدده، فكاد كليب أن يقتله لولا مراعاة عمه ربيعة، وتتزوج الجليلة من كليب، وكما كان للزهراء دور في فتنة إثارة لبيد ضد قومها تساهم الجليلة بشكل غير مباشر بإثارة الأمن بين البكريين والتغلبيين حيث يسأل وائل زوجته الجليلة عن أعز العرب فتقول له: همام وجساس أخواي ابنا مرة، ويخرج وائلاً وهو يرغي ويزبد من هذا التحدي رغم حبه للجليلة.

أصبح أقرب الناس لكليب بعيداً عنه، وفقد حبهم جميعاً لشدة تعاليه وطغيانه فها هو يفقد أبا نويرة التغلبي ويتهمه بأنه يناصره من أجل الزواج بأخته الزهراء، ويفقد أخاه سالماً ويتهمه بالتعرض لزوجته الجليلة، وأنه يناصره من أجلها ويطلب منه مغادرة القصر، وتتزعزع الثقة بينه وبين زوجه الجليلة حيث يهاجم أخويها جساساً وهماماً وهي تدافع عنهما، ويفقد هماماً ابن مرة الذي أولاه ثقته وقام على تدريب جيشه، حيث يستصغره ولا يدخله مع كبار القوم مثل أبيه مرة والحارث بن عباد زعيم فرع من قبائل ربيعة، ويفقد تأييد الحارث بن عباد حين يستهين برأيه ويرفض استشارته.

إنه الطغيان البشري الذي لم يعد يطاق، لكن من جانب آخر فقد انصاعت العرب لكليب ولم يعد أحد يجرؤ أن يغزوهم، وهابت الملوك سطوتهم، وأصبح كليب أعز العرب بلا منازع، حتى أنه سمى نفسه كليباً استهانة بالعرب جميعاً إذ أنهم سوف يرون بهذا الاسم العزة والمنعة ويحرص على تسمية ابنه الجرو وعلى العرب أن تقتدي به وتفخر بالكلب والجرو لتسميته تلك، ورفض تزويج الزهراء لابن عمه أبي نويرة لأنه ليس بأهل لمصاهرة الملوك.

لقد كانت الناقة البسوسية هي السبب المباشر للحرب، فهي تغذي جساساً ابن أختها وتحرك نخوته كيف يقبل طغيان كليب ويمنع ناقتها من السراح مع إبلهم، وكيف يمنع قراها وهو جارها استجابة لتجبُّرِه، فيركب جساس رأسه ويسرح الناقة وفصيلها في إبل بكر، ويراها كليب فيجن جنونه أمام تحدي جساس له، فيرمي فصيل ناقة البسوس فتقوم البسوس تلطم وجهها على الذل الذي أصابها في جوار جساس، ويبلغ التحدي ذروته رغم محاولة إرضاء البسوس بعشر نوق مقابل فصيل ناقتها، لكن هدف البسوس هو إشعال الحرب والثأر من وائل قاتل خطيبها وحبيبها الوزير نبهان، ومحطم آمالها في السيطرة على جزيرة العرب ويدرك مرة بن ذهل خبث البسوس ويحاول تجنيب قومه نذر الحرب نتيجة فقد جساس سيطرته على نفسه أمام إذلال كليب لقومه كلهم ولم يبق من يثق به إلا ابنته اليمامة التي أصبح يشكو حتى أمها لها.

ليس لطغيان البشر حد، والإنسان لن يعدم أن يكون إلهاً إن استطاع، وأمام إعلان زوجته الجليلة أن أخويها هماماً وجساساً أعزُّ العرب منع ناقة البسوس من أن ترد المياه وتشرب مع إبله، والأفعى البسوس تستصغر من شأن جساس وأنه عاجز عن حمايتها وحماية ناقتها وأنها سترحل لتجد جاراً أعز منه، فيركب جساس رأسه ويصر على سراح ناقة البسوس مع الإبل، ويفقد كليب صوابه فيرمي ناقة البسوس ويرديها قتيلة، وتبتهل البسوس الفرصة فتصرخ وتولول:

لـعمري  لـو كنـت في دار iiمنقذ
ولـكـنني  أصبحت في دار iiغربة
فـيا سعدك لا تغرر بنفسك وارتحل


 
لمـا  ضيم سعد وهـو جار iiلأبيات
متى يعد فيها الذئب يعدو على شاتي
فـإنك  فـي قوم عن الجار iiأمواتي

كانت هذه الأبيات كافية لتشعل نار الثأر عند جساس، فلا يمضي في العرب أنه عجز عن إجارة خالته، وأوهم قومه أنه سيقتل جمل كليب فراحوا لحمايته، بينما مضى ولحق كليباً في وادي الحصا مع عمرو بن الحارث البكري، وذكّره بمظالم حتى أن كليباً لا يلتفت له فيرسل الرمح من ظهره ويطعنه به غيلة ويرديه قتيلاً، وحيداً في الوادي، ويطلب كليب من جساس شربة ماء فلا يعطيه، ومن عمرو بن الحارث فلا يعطيه ولا يجهز عليه ليموت عطشان كما أعطش إبل بكر وقومه، ويصل كليب إلى صخرة فيكتب بدمه عليها أبياتاً خلاصتها. سالم لا تصالح

وينتشر خبر مقتل كليب من جساس انتشار النار في الهشيم.

المرحلة الثالثة:

تعتبر المرحلتان الأولى والثانية هما المقدمتين للمسلسل الذي يحمل اسم الزير سالم أو حرب البسوس فيصل الخبر إلى سالم وهو يعاقر الخمر مع همام أخي جساس وأسماء أخته وزوج همام وولدي أخته، يقيمون معهما على أمل العودة بهما إلى مضارب أهلهما بعد أن هجر سالم مضارب العشيرة حين اتهمه أخوه بزوجته، ولا يكاد الزير سالم يصدق لكن عندما تأكد من الخبر جن جنونه وبرز حبه لأخيه يملك عليه كيانه، وأقسم أن يقتل كل بكري على وجه الأرض انتقاماً لأخيه.

كـليب لا خير في الدنيا ومن iiفيها
ليت  السماء على من تحتها iiوقعت

 
إن أنـت خليتـها فـيمـن يخليها
وعادت الأرض وانجابت بمن iiفيها

ويردد الزير سالم: سأقتل بكراً كلها بكليب، لن أبقي من بكر صافر نار، حتى يهم أولاد همام أن يقتلوا خالهم الزير وهو نائم أو سكران قبل أن يقتلهم، ويمنعهم همام أبوهم، ويصحو الأخوان الحميمان سالم وهمام فإذا كل واحد منهما في معسكر، ولم يخطر بذهن الزير قتل صديقه همام ثأراً لأخيه رغم إعلانه قتل بكر كلها، ويعلن همام أنه لن يتخلى عن بكر أهله، وليقتله من الآن إذا شاء، ولكنهما يتعانقان ويودع بعضهما بعضاً حيث تصر أسماء على زوجها وأخيها أن لا يبرزا لبعضهما، ويمضي الجميع إلى ديار بكر بينما يمضي الزير وأخته أسماء أو ضباع لتندب أخاها في مضارب تغلب، ويوافقهما شيبوب ابن همام الذي اختار الانضمام إلى معسكر أخواله ليثأر لكليب مع خاله الزير.

يُمضي المسلسل وقتاً طويلاً في النواح على كليب ورثائه، وتبدو فجيعة الزير سالم بأخيه كليب لا حدّ لها حتى راح العرب يشككون في قدرة سالم على الثأر وهو السكير العربيد زير النساء ويصبح أهل كليب يدعون سالماً إلى حمل الراية وهو غارق في أحزانه.

تبدأ الجريمة البشرية حين يقرر قتل قبيلة بأسرها رجالها ونسائها بدم كليب ملك العرب، وأعز رجالها وتأخذ الحمية الجاهلية المنحى المعروف.

وأحياناً على بكر أخينا        إذا ما لم نجد إلا أخانا

ويعرض العرب وساطتهم بين الحيين قبل أن يتفانيا، حيث يطالب سادة قبائل العرب مرة بن مذهل بواحدة من ثلاث: تسليم جساس لسالم لقتله بكليب وهو القاتل، أو تسليم همام وهو كفؤ لكليب في الشرف أو أن يسلم مرة بن ذُهل نفسه ليقتل بكليب، ويرفض مرة ويعرض أي ولد من أولاده غير همام، لأن همام أخو عشرة وأبو عشرة، فيرفض العرب ويدينون مرة بهذا الموقف ويفرح الزير سالم برفض مرة هذه العروض الثلاثة لأنه لن يوافق عليها لو وافق مرة عليها، ولا يقبل إلا قتل بكر كلها بكليب، وتُفتح المعركة بين ألصق قبيلتين ببعضهم فالتصاهر والتداخل بينهما على أشد ما يكون وكما عبرت الجليلة زوج كليب: إنني قاتلة مقتولة، وحين تعود إلى أهلها مغادرة بيت زوجها تلخص المستقبل المشؤوم، فقد الخليل (الزوج) وقتل الأخ والخليل، ويتم الولد، وحزن الأبد.

وقبل اصطلام الحرب تجري وساطة أخيرة على رأسها ابن عباد في أحد الحلول الثلاثة السابقة وقتل مرة أو أحد ولديه همام وجساس بكليب وتجنيب الحرب فيحضر الزير سالم ابنة أخيه اليمامة إلى مجلس سادة العرب قائلاً لهم أن هذه صاحبة الثأر، فتقول: أريد أبي حياً.. ويتبنى سالم طلبها فلا صلح عنده إلا بإعادة كليب حياً أو أنه سيقتل بكل قطرة دم من كليب بكرياً، فينسحب الحارث بن عباد من الساحة معلناً أنه لن ينضم إلى حرب الأهل مع الأهل، وكما قال لسالم: إنك لن تجدع إلا أنفك ولن تقطع إلا كفك، هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل.

لقد كان مرة بن ذهل زعيم بكر في منتهى الحكمة، فقد ألح على وائل كليب قبل قتله أن يسمح للبكريين بالرحيل من ديارهم تجنباً للحرب، فرفض وقال له: أريد أن تميتنا جوعاً وتمنع قطعاننا الماء حتى نموت نحن وهم، فقال كليب: لا تتحدث العرب أن بني عم كليب الملك، خرجوا على طاعته ورحلوا، وها هو يعد من جديد خطته، ويطالب بكر بالرحيل تجنباً للحرب، ولكنها الحرب قادمة، فضلة بن ربيعة أحد أولاد مرة وأخو جساس وهمام يعشق فاطمة أخت كليب، وأبو نويرة التغلبي يعشق الزهراء أخت كليب فيثبطان الرأي، ولبس سالم الزير لباس الحرب وكشر الموت عن أنيابه بين الأهل لأن سالماً لن يحتكم إلا لنعرته الجاهلية، ويريد أن يبيد قبيلة برجل أو تعيد قتيله حياً.

المرحلة الرابعة:

الحرب.

لقد استطاع الكاتب والمخرج أن يبرزا أسوأ ما في الحرب بين الأهل من كوارث، وأن يبرزا المجتمع الجاهلي بكل أحقاده وثاراته، لقد ابتدأت الحرب بقتل سالم لابن أخته شيبوب خطأ، وهو الذي اختار أن ينضم إليه ضد أبيه وجده وعشيرته وجاء يعيره بالجبن دون أن يحرك الثأر، فيرسل رمحاً في ظهره فيرديه قتيلاً، ويقتل بين يديه وهذا سالم يصارح نفسه: يا أيتها الآلهة ماذا أقول لأختي؟ ماذا تخبئين لي أيتها السماء، أتحاربيني لكي لا أملك طريقي نحو ثأري، ثم يرسل جثة شيبوب قائلاً له: سلم لي على أمك، سلّم لي على أبيك وقل لهم إن خالي يرسل مع جثتي أسفه ودموعه.

تعلن الحرب ويدق ياقوت طبولها، ويبدأ غزو سالم للبكريين مرة بعد مرة، وينتصر عليهم بينما يمضي سلمة ابن ربيعة أخو سالم ليقتل جساساً في مخبئه فيقتله جساس، ويحصد سالم قتل أخيه وابن أخته منذ أول الطريق، كما يمضي أبو نويرة التغلبي ليقتل جساساً كذلك حيث وعد الزهراء أخت كليب أن يكون رأس جساس مهرها، فيتصارع البطلان وكاد أبو نويرة أن يقتل جساساً لولا أن فرَّق بينهما ابن عبّاد، لكنَّ جساساً يقتله في المرة الثانية، ويزداد الحصاد الجديد لدى كليب إضافة إلى سلمة وشيبوب أبا نوير التغلبي أحد الأبطال الكبار عنده، لكن يشاع مقتل جساس كذلك إذ طعنه أحد جنود أبي نويرة وتسود أجواء القبائل أخبار مقتل جساس لتعود ثانية إلى وساطتها مع سالم، وها هو جساس قد قتل، فليوقف الحرب ويرفض كليب إيقافها ولو قُتل قاتل كليب، إنها الراية العمّية الجاهلية التي تفتك بالأهل كلهم ثأراً لكليب، وتردد العرب أبياته:

نرفض الصلح أو تردوا كليباً   أو نـبيد الحيين بكراً iiوذهلاً

وعندها يبرز جساس حين اندلعت الحرب وقد عوفي، وتقدم ليقود حرب بكر ضد تغلب، ولا تحمل غارات كليب إلا هزائم وفناء للبكريين وسالم الزير لا يرعوي عن غيه.

يتحرك الثأر في دم شيبان بن همام بن مرة، فيمضي ليقتل خاله فيرميه خاله ويكاد أن يقتله لكنه يعيده حياً إلى أبيه همام، وتضيع ضباع بين لأولادها وزوجها وإخوانها، ويُقتل على الطريق حبيب فاطمة أخت الزير الصغرى فضلة بن ربيعة فتفقد أختاه الزهراء وفاطمة أعز ما تمتلكان حبيبهما ويصبح بيت الزير يعشعش بالدم والحقد عليه وعلى حربه، والجميع يريدون قتل جساس وإنهاء الحرب إلا هو فلا يرتوي ظمأه إلا بإفناء البكريين من الوجود.

تبلغ الحرب ذروتها حين يتكلم شيبان بن همام في الحانة أنهم استأجروا بطلاً عربياً ذو عصابة حمراء سيقوم بقتل الزير، بقتل الزير ومن جهة ثانية فيصر جساس أن يزوج الجليلة برفيقه عمرو بن الحارث. لينسي الجليلة وجنينها الذي في صدرها دم كليب وحياته. وترفض الجليلة أخته بنت مرة هذا الزواج وتهدد بقتل من يقدم على زواجها. فلن يضمها بيت بعد كليب. وتصل الأخبار كذلك إلى الزير فيجن جنونه ويتلمظ لقتل البطل العربي المقنع الذي استؤجر لقتله. ولقتل عمر بن الحارث شريك جساس في قتل كليب. والذي يبغون تزويج الجليلة منه إهانة لكليب بعد مقتله. والجليلة نفسها تسعى لقتل عمرو بن الحارث الذي يريد أخوها جساس أن يفرضه عليها.

تنجلي الحرب التي أشعلها سالم. عن قتل المقنع صاحب العصابة الحمراء. ويكشف عن وجهه فإذا هو ابن أخته شيبان بن همام فيتحرق قلبه عليه. ثم يتابع معركته فيطعن عمرو بن الحارث ويحسبه قد قتل. لتأتي الجليلة بعمود من عمد البيت. فتهشم رأسه وتنهي حياته.

ويصبح سالم بيده قاتلاً لابني أخته. شيبان وشبوب. وقاتلاً لحبيبي أختيه الزهراء وفاطمة فضلة بن ربيعة، وأبي نويرة التغلبي. ولا يزال جساس حياً لا يمس.

وهنا يثور الدم عند همام صديق الزير بعد أن أصبح قاتلاً لولديه. فتغادر بكر مرابعها فارة من تغلب. ويبقى همام وحده. فيمضي لمنازلة الزير. ويفرّ الزير منه. فهو أحب إنسان إليه في الدنيا بعد كليب ويأمر الجيش بالانسحاب معه حتى لا يقتل همام صديقه.

لقد ملأ القتلى السهل والجبل. ورأى جساس أنه فشل في قيادة قومه. فمضى مع أخته الجليلة إلى خاله في الشام واتفقا على أن ولد كليب هو ابن شاليش بن مرة، وكليب هو قاتله. وأن الجليلة عمته تشرف على تربيته. وتوافق الأم على ذلك خوفاً من مقتل ابنها من أهلها ويشيعون أن ابنها الذي ولده مات.

وفي هذه الأثناء وبعد مغادرة جساس المعركة. يلاحق الزير سالم البكريين ويبرز له همام صديقه الحميم. فيتجنبه لكن همام يصر على مواجهته. ولم يكن له بد من قتله. حيث يفر البكريون بعد مقتله وزادت مأساة الزير مأساة وعقده عقدة جديدة. أقتل كل من لا أريد، ويفلت مني من أريد. كأن الحرب بيني وبين نفسي. شبح كليب يلاحقني يجب أن أقتل جساساً. ومع ذلك فلن أرتاح، والله ما فجعت بعد كليب بأعز من همام، سأضيفك إلى ثأري.

وبرحيل جساس إلى الشام تنتشر إشاعة مقتل جساس. ويصل الخبر إلى مرة بن ذهل فيكاد يفقد عقله وصوابه، أيخسر هماماً وجساساً ونضلة وشاليش. وغيرهم. ثم يأتيه من يخبره أن جساس لم يقتل. وهو عند خاله يعالج. لكنهم يكتمون الأمر، ويدعون الإشاعة تمضي بقتل جساس، وبتوافد العرب على سالم لينهي الحرب. فقد قتل جساس وقتل همام، وأفنى التغلبيون البكريين.

ولكن سالماً الجاهلي الحاقد يصر على قتل بني بكر بكليب ولو قتل جساس. ويأتي مرة بن ذهل ثانية لسالم يطالبه بإيقاف الحرب. لكن دون جدوى. فما كان من مرة إلا أن دبّر مكيدة أوقع فيها الزير في حفرة أردته قتيلاً في ظاهر الأمر ويسارع لرؤيته ثلاثة.

ابنة أخيه اليمامة. وأخته ضباع زوج همام، والجليلة زوجة أخيه كليب. وساهمت الثلاثة في إنقاذه إذ لحقوه حياً، فاستخرجته ضباع أخته وقادته يمامة إلى شاطئ نهر، ووضعت عيداناً تحته وألقته في النهر، بينما قتلوا أحد الجنود فألقوا جثته في حفرة كليب، واقترحت الجليلة تشويه الجثة بالحرق حتى تنطلي الحيلة على الجميع ويتوهمون قتله، وجاء جساس وقوم مرة ورأوه قتيلاً وقد شوّه بالحرق فانتعش البكريون ونصّبوا جساساً ملكاً عليهم.

المرحلة الخامسة:

ملك جساس.

لقد برز جساس ابتداء أنه ضد الظلم، وأنه قتل كليباً لبغيه وجبروته وظلمه، وكان المفروض فيه أن يزيل الظلم والبغي حين يغدو ملكاً، لكن العنجهية الجاهلية أعمته فحوّل النساء التغلبيات إلى سبايا واضطر امرؤ القيس بن أبان التغلبي أن يوقع صلحاً مجحفاً مع جساس وبني بكر مُنع رجال بني تغلب من الاقتراب من نسائهن ولن تخرج امرأة تغلبية إلا إلى القبر، مُنع عنهم السلاح وصارت النساء يعضهنّ الجوع والبرد، ويقمن هن بجلب الماء، وصرن مثلاً للبؤس والذل والفاقة. منعهن حتى من الزواج. جاء كلثوم التغلبي يطلب الزواج فلم تتمكن الزهراء من استقباله وكان عليه أن يطلب بنت جساس. تأتي الزهراء إلى قصر جساس ترجوه أن يسمح لهن بالضيافة والسلاح فيردها ذليلة خائبة، ويمنعها من دخول القصر.

تمضي العيدان بالزير في النهر، حيث تلقيه على شاطئ فيه بعض قبائل العرب، فداوته إحدى نسائها حتى شُفي من جراحه لكنه بقي فاقد الذاكرة عشر سنين لا يعرف شيئاً من ماضيه، ولا يعرف اسمه ولا يعرف كيف وصل إلى هذا المكان.

خلال هذه السنوات العشر يكبر الجرو بن كليب الذي سمي بهجرس بن شاليس، ويكبر الحارث ابن همام بن مرة، ويعمل جساس على كسبهما فيعرض الزواج عليهما من ابنتيه، غير أن هجرس (الجرو) قلق من التشكيك في نسبه من شباب الحي، وتبقى اليمامة بنت كليب لا حلم لها إلا الثأر حيث يتعرض الشباب لها وهي ترد الماء، وتتعرف على جبير بن الحارث بن عباد الذي يعلق حبها بقلبه، وحين يأتي جنود جساس لإطفاء النار التي أشعلتها الزهراء لإضافة أختها أم الأعز القادمة لزيارتها يقوم بقتالهم، وقتل ثلاثة منهم، مما حدا بجساس أن يستدعي الحارث بن عباد أباه ويحذره أن يقتله إذا عاد ثانية لفعلته.

الذي جعل الزير يسترد وعيه هو خروج الأخ للثأر لأخيه الذي قتله اللصوص، ويشارك في الثأر ويسمع كلاماً هو كلامه الذي كان يقوله وهو يثأر لكليب، ويصرخ أول ما استعاد وعيه بقوله: يا لثارات كليب، ويتجه إلى مضارب حيّه متنكراً وقد كبرت سنه فلا يعرفونه ابتداء ولكن أخته الزهراء تتعرف عليه، وابنة أخيه اليمامة التي كانت تناجي الآلهة طالبة منها عودة عمها الزير لأنها الوحيدة وعمتها ضباع، والجليلة بنت مرة هن اللواتي يعرفن أنه لا يزال على قيد الحياة.

المرحلة السادسة:

في الوقت الذي يصل فيه الزير مضارب قبيلة التغلبيين يكون عرس الحارث وهجرس من أكبر الأفراح العربية في زواج ابني أخويه على ابنتيه، ويمضي الزير متنكراً ويحضر العرس وعندما يخرج تراه الجليلة زوجة أخيه كليب فتعرفه، ويشهر سيفه فيفر القوم منه ويحس جساس أنه الزير سالم لكن بعد ذهابه لا يصدق عقله، فقد مات الزير وعفا عليه الزمن. ويعود الزير سالم فيشعل النار في قبيلته، فيغضب جساس فيبعث جنوده لإطفائها، فيرون الزير فيلوذون بالفرار، ويأتي جساس نفسه فيراه ويفر ويعلم أن القدر قد وقع، وعاد سالم وعادت الحرب، وعاد الثأر من جديد، ويمضي هجرس بن شاليس بن مرة ليقتل الزير سالم ثأراً لأبيه الذي قتله كليب فيرديه الزير في الأرض، وقبل أن يطعنه تصرخ اليمامة، فيتوقف عن قتله، ويحس بإحساس غريب أنه يشبه كليباً أخاه فيعفو عنه بينما تزداد شكوك اليمامة بنت كليب بأن يكون هذا الهجرس هو ابن أخيه الجرو ولا صحة لدعايات موته، فتمضي وتلقاه في الطريق وتقول له أنت الجرو بن كليب ولست هجرس بن شاليس، وأنت أخي فيجن جنونه ثم يأتي إلى الجليلة عمته التي ربته ويطلب منها أن تغلي ماءً لأعلى درجات الغليان ثم يحملها ويقرر أن يقتلها في هذا الماء الحميم أو تخبره بحقيقة نسبه.

وخوفاً على روحها تعلمه الحقيقة أنها أمه وأنه الجرو بن كليب وأن جساساً أبا زوجته هو قاتل أبيه وتنتشر القصة ويهيم على وجهه ويواجه جساساً بالحقيقة فيعترف فيتدخل جده مرة بن ذهل ويدعو جساساً للتنازل عن الملك لصالح الجرو بن كليب فتتفرق تغلب بين الزير والجرو، ويقع الصراع في صفوفهما ويتظاهر الجرو بقبول الفكرة ويحاول الثأر يوم الاجتماع لتتويجه ملكاً من جساس قاتل أبيه، وكاد أن يقتل لولا أن جاء الزير وهاجمهم وأنقذ ابن أخيه، وليدفع بنار الحرب إلى الاحتراق جعل الجرو ملكاً وغزا البكريين فأخذ منهم قصر كليب وطردهم، وبدأ يستعد للثأر من جديد، وجرت معارك كان أخطرها معركة خطط البكريون فيها لإنهاء التغلبيين بالرمال المتحركة، فتصل الخطة لهم من زوجة أحد قادة البكريين التي كانت تغلبية، وينقلب الكيد على صاحبه، فيغوص جيش البكريين كله في الرمال المتحركة بخيولهم وفرسانهم ولا يبقى إلا الشريد، وتؤخذ النساء سبايا وتم هذا بعد أن عرض جساس المبارزة بينه وبين فرسان تغلب وإذا قُتل فتقف الحرب، ويقتل الجرو جساساً قاتل أبيه كليب، ويعتبر أن ثأره انتهى، وحين يصر عمه الزير سالم على متابعة الحرب ويعتز لها ويمضي مع أمه بعيداً عن الثارات ويعيشون في الشام، كما أن اليمامة بنت كليب تعتبر ثأرها قد انتهى بمقتل جساس، وتطالب عمها بالزواج من جبير بن الحارث بن عباد، فيمنعها عن ذلك ويتدخل الحارث بن عباد لإنهاء الحرب ويتمادى الزير سالم في طغيانه ويصر على فناء من تبقى من بكر، فعندئذ يبعث ابن عباد رسالة لسالم الزير يدعوه فيها للابتعاد عن غيه، ويقول له في ختام رسالته: وإذا كان في قتل ولدي الوحيد جبير إطفاء للحرب بين الحيين فاقتله بكليب، ويتعالى الزير يطغى ويقتل جبيراً بن الحارث بن عباد، حبيب ابنة أخيه اليمامة ويقول له: بؤ يشسع نعل كليب.

وتصل الأخبار إلى مسامع الحارث حكيم العرب، فيجن جنونه أن يفقد ابنه ويستمر سالم في الحرب ويجعل قيمة ابنه بنعل كليب، لقد أفنى العرب من أجل أخيه، ولابد من الوقوف أمام طغيانه وجنونه.

المرحلة الأخيرة:

يعبئ البكريون والحارث بن عباد لحرب سالم وسالم يستخف بهم وبالحارث، ويسميه العجوز الخرف ولا يقيم وزناً لقوته، وتكون خطة البكريين والحارثيين في حلق رؤوسهم وإشعال الحرب ليلاً ليعترفوا ويتميزوا عن التغلبيين برؤوسهم المحلوقة، ومع أن الحارث بن عباد قد كبرت سنه لكن قوته لا تزال في أوجها، وفي المعركة يقتلع الزير عن جواده ويرميه على الأرض فيكسر ظهره، ويضع السيف على حلقه ليذبحه أو يدله على الزير سالم حيث لا يرى ولا يعرف أن الزير بين يديه، فيقول الزير له: تعطيني الأمان إن دللتك على الزير سالم فيعطيه الأمان والعهد، فيقول له: أنا الزير سالم، فيهتاج الحارث ويضبط أعصابه مع ذلك فسالم هو قاتل ابنه لكنه أعطاه العهد على الأمان فقال له: لا أدعك حتى تدلني في جيش التغلبيين على كفء لابني جبير فيقول له: ما أرى كفءاً له إلا امرأ القيس بن أبان، وهو أعظم قادة التغلبيين، فيمضي إليه ويقتله مع أنه هو الذي حاول حماية ابنه جبير من سيف سالم المهلهل.

وتكون هزيمة مروعة يتحطم الزير فيها ويأتي فيودع قبيلته مجللاً بالعار، فهو الذي أنقذ حياته بقتل أعز أصدقائه وأكبر قادته، ويهيم على وجهه حتى يصل إلى اليمن ومعه ابنته التي يتزوجها المذحجيون بجلود ويقع أسيراً عند أحد البكريين يستذله ويضربه ويعيره ويهينه، ويعيره منه بالتعريض بزوجته، وهي تغلبية فيقوم البكري بمحاولة قتله عطشاً ثم يدعه يغادر فينجو ويعود إلى قبيلته، فيرى الذل الجديد الذي يجللها فإذا البغي والظلم ينتقل من جيل إلى جيل. لقد تصالح الحيان، ووضعوا الجرو ملكاً بعد مغادرة عمه لكنه الملك الأسير منعوه من الخيول ومن السلاح حتى لا تقوم لتغلب قائمة، كما يجد ابنة أخيه قد فقدت عقلها تولهاً بحبيبها جبير الذي قتله. ويعلم التغلبيون بعودة الزير فيطالبون الجرو بترحيله ويغادر الزير طريداً من قومه تغلب فقد أفنتهم الحرب وقتلت كبارهم وصغارهم، ويرسل الزير معه عبدين يخدمانه حيث يبيتان قتله بعد أن غدا عجوزاً في السن، فيوصيهما عند عودتهما إلى أهله بنقل هذا البيت من الشعر:

من مبلغ الحيين أن مهلهلاً   لـلـه دركـما ودر أبيكما

فينقل العبدان الشعر ويدعيان أنه مات ميتة طبيعية، ومع جنون اليمامة تدرك أن عمها لا يقول هذا الشعر بلا معنى، وأن أصل الشعر:

مـن  مـبلغ الحيين أم مهلهلاً
لـلـه دركـمـا ودر أبيـكما

 
أضحى  قتيلاً في الفلاة مجندلا
لا يبرح العـبدان حتى يقـتلا

وعرف الجرو أن العبدين قتلا عمه، فقتلهما ويودعنا الزير وابنة أخيه اليمامة تجره قتيلاً في الفلاة عائدة إلى مضارب قومها.

هذه هي الأحداث، فما هي إيحاءاتها:

1 – ظلم الملوك: وقد برز في إكراه وائل بن ربيعة على تزويج أخته الزهراء للبيد عامل الملك الكندي. كما برز في طلب الجليلة بنت مرة زوجاً للملك تبع اليماني، وتبرز أخلاق هؤلاء الملوك في احتقارهم للعرب البدو، وتوظيفهم لحماية قوافلهم، وأخذ الجزية منهم، هذا الظلم قد يخضع له العربي حيناً لكن حين تمس كرامته أو تجرح كبرياؤه سرعان ما يحاول الثأر والانتقام من هذا الظلم، ويسترد الكرامة المفقودة، كما برز هذا جلياً في قتل لبيد عامل الملك الكندي وقتل الملك تبع اليماني، وهذه قيم أصيلة عند العربي تحسب له في تاريخه الطويل.

2 – وحيث أن النظرة القومية الشاملة لم تكن موجودة في ذلك الوقت، فقد اعتبر تجمع الأقارب والعشائر التي تنتمي إلى أروقة واحدة صراعاً ضد الأجنبي، فكان الملك الكندي وتبع اليماني والملك الحميري جميعهم يمثلون عرب الجنوب، عرب اليمن، بينما تجمعت ضدهم عرب الشمال من بكر وتغلب ابني ربيعة ابتداءً ثم استعانوا ببني أعمامهم المضربين والقيسيين، ويجمع هؤلاء جميعاً أنهم من العرب العدنانيين الذين ينتهون إلى أصل واحد، ومعظم هؤلاء بدو أعراب تتشابه حياتهم وهمومهم ومشاكلهم، ولاشك أن وحدة الصف ضد العدو المشترك من القيم العربية الجاهلية التي تحسب من شمائلهم وقيمهم الأصيلة، واستعدادهم للفداء والموت حين يمس شرفهم.

3 – ورغم احتقارهم الشديد للمرأة، واعتبارها سقط متاع فهم يحبون ويعشقون ويموتون في سبيل من يحبون ويعشقون، وتقوم حروب بينهم فيما لو حاول عادٍ أن ينال من شرفهم أو يمسه. إن النساء للمتعة الجنسية واللذة وهي وعاء للولد ولا أكثر من ذلك. فلا يحق لها أن تشارك في رأي حتى لو كان يخصها ويقرر مصيرها، وهذه تمزج بين الجوانب السلبية والإيجابية في الإنسان العربي.

الجانب الإيجابي: في استعداده للموت حفاظاً على شرفه، وفي استعداده للموت في سبيل من يحب ويعشق، يجب أن يذكر في مجالس النساء ببطولته وتضحيته، وكثيراً ما تكون خطيبته أو أخته هي التي توحي له بالاستبسال والبطولة.

الجانب السلبي: فيها هو اعتبار النساء طبقة ثانية في التعامل والأهلية وهذا الزير سالم نتيجة حميته الجاهلية، يقتل عشيق ابنة أخيه جبير بن حمدان ويساهم في قتل حبيب أخته فاطمة نضلة بن ربيعة ويحول دون زواج أبي نويرة التغلبي من أخته الزهراء ولو أدى ذلك إلى أحقادهن وجنونهن، وكان وائل من الطينة نفسها فهو لا يزوج أبا نويرة التغلبي لأنه ليس من مستوى أخته وليس ملكاً مثله.

4 – الحياة عند العربي خمر وسيف ونساء وقد مثل الزير سالم هذه المعاني جميعاً فهو عبد لذاته ويلتقي مع طرفة بن العبد في حان واحد، وخانة واحدة أوليس طرفة هو الذي لخص حياة العربي بقوله:

ولـولا  ثلاث هن من عيشة الفتى
فـمنهن  سبعي العاذلات iiبشـربة
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب


 
وجـدّك لـم أحفل متى قام iiعُودي
كـميت حتى ما فعل بالماء iiتزبـد
بـبهـكنة  تـحت الفراش المورد

5 – المرأة: لقد استطاع المسلسل أن يقدم وضع المرأة في المجتمع الجاهلي بصورة أمينة ودقيقة، فهي أولاً: موطن شرف الرجل، يضحي بحياته من أجلها، وقد برزت القضية مرتين تتحرك القبائل كلها وتعرض الرجال حياتها للفناء من أجلها عندما مضت إلى قتل لبيد، وعندما مضت إلى قتل التبع اليماني وتتم حروب كبرى من أجلها.

وهي ثانياً: معشوقة، محل حب الرجل وهيامه، ولا يجد عاراً في ذلك، فكليب على جبروته وأنفته يحب الجليلة بنت مرة ونضلة بنت مرة يحب فاطمة بنت ربيعة، وأبو نويرة التغلبي يحب الزهراء بنت ربيعة أخت وائل، وجبير بن ثابت يحب اليمامة بنت كليب ويكاد يكون الحب مقدساً عند الشباب ويفعل كل شيء في سبيل حبه.

وهي ثالثاً: عاشقة، تفقد عقلها عند فقد حبيبها، ففاطمة الولهى تصبح المجنونة بعد قتل حبيبها نضلة بين ربيعة واليمامة بنت كليب تجن فعلاً بعد قتل حبيبها جبير بن الحارث، والزهراء تمثل البؤس بعد قتل حبيبها أبي نويرة التغلبي.

وهي رابعاً: محبة لأهلها ويبدو التناقض في هذا الحب حين يجمع بين الأعداء. فالجليلة بنت مرة ولهى لفقد زوجها كليب، ولكن قاتله أخوها جساس فهي تطرد من بيت زوجها لتعلن لأبيها الحالة العنيفة التي تعانيها، يتم الولد وحزن الأبد، وفقد الحليل (أي الزوج) وقتل الأخ والخليل، ويبدو الصراع على أشده مع أختها أسماء وزوج همام بنت مرة.

ومثلت شقاء المرأة كاملاً في هذا المجتمع، فقد فقدت ولديها شيبوب وشيبو اللذين قتلهما أخوها سالم الزير، وفقدت أخاها طيباً الذي قتله ابن حموها جساس، وفقدت زوجها هماماً الذي قتله أخوها سالم الزير، وفقدت أخاها سالم الزير أو كادت تفقده ثم ساهمت في إنقاذه من الموت حيث دبر له حموها هذه المكيدة.

إنها عواطف متصارعة متناقضة وصادقة في الوقت نفسه، وكما مثلتها الجليلة  بنت مرة: إنني قاتلة مقتولة، وعسى الله أن يريحني.

خامساً: وهي محاربة، عندما تقع الكوارث وتقتضي المواجهة، فالجليلة قاتلت، وقتلت أثناء دخولهم على الملك اليماني تبع واليمامة بنت كليب حاربت في صف عمها وقاتلت وقتلت ثأراً لأبيها. والجليلة تقتل عمرو بن الحارث الذي يريد أخوها جساس أن يزوجها منه رغماً عنها.

وهي سادساً: تاجرة تجوب البلاد، وتعقد الصفقات، وتزور الملوك وتضع الخطط، حيث مثلت البسوس هذا الدور حتى إن وائلاً يعتمد عليها في وصف الملك التبع اليماني.

وهي سابعاً: فتنة وبلاء، فالكلمة تقولها تشعل حرباً، فكلمة الجليلة حين يسألها زوجها عن أعز العرب فتقول: أخواي همام وجساس، فتدفع زوجها لإذلالهما وتدفع أخاها لقتله. والزهراء تندب اللطمة التي جاءتها من لبيد فتشعل حرباً من أجلها. والبسوس تزين زواج الجليلة للملك تبع اليماني وتوعز صدر جساس حتى يندفع فيقتل كليباً ولعل تسمية الحرب بالبسوس كافية لتبرز دور الحرب التي أشعلتها.

وهي ثامناً: مقهورة، منبوذة لا رأي لها، فالزهراء لا تزوج من تحب لأنه ليس ملكاً، واليمامة لا تزوج جبيراً لأنه شاب أرعن. وفاطمة يقتل حبيبها وتُزوج لأحد زعماء العرب دون رأيها.

وإن كانت هذه نظرة عامة عند أكثر الأعراب لكن وُجد فيهم من ينتقدها، ووجد فيهم من يحرم الخمر على نفسه، وليس الزير منا ببعيد، فحين قرر الثأر حرّم على نفسه النساء والخمر، وبقي السيف رفيقه الوحيد لكنها لم تكن تزري بالمرء إلا إذا طغى جانب الخمر والنساء على جانب الثأر والحرب، فعندئذ تكون محل عارٍ للفتى لو فعل ذلك.

لقد استطاع المسلسل تشخيص حياة العربي الجاهلي من خلال هذه القيم، وجاء تجسيداً لها بأمانة كاملة.

5 – لقد حاول وائل بن ربيعة أن ينقل قومه من البداوة إلى الحضارة ويحولهم من أعراب ينتجعون الكلأ والمرعى إلى قوم يستقرون في أرضهم ويعتمدون الزراعة ويقيمون الحصون ويشكلون الجيوش التي تخضع لقائد واحد، واعتبر أن هذه الحضارة سر قوة خصومهم من ملوك العرب والفرس والروم، غير أنه وجد مقاومة هائلة لأن الولاء للعشيرة كان متجذراً في نفس العربي أكبر بكثير من الولاء والطاعة للملك، ولأن العرب الأعراب يرفضون التحول من القتال ليكونوا عمالاً وخدماً في بناء الأسوار، وظهرت هذه المقاومة العنيفة من أكبر قادة العرب آنذاك: الحارث بن عبادة ومرة بن ذهل، وجساس بن مرة، وأقرب المقربين إليه أخيه سالم بن ربيعة، وذلك لأن هؤلاء جميعاً أنداد له ومساوون له في الشرف والنسب فلمَ يستعبدهم؟ ولم يسود رأيه على رأيهم؟ ولم يخضعوا له؟ فبدأوا يتخلون عنه، فالحارث يفارقه ومرة يطلب الهجرة من الديار، والزير يمضي عمره في الحانات بين النساء، وجساس يتحداه أمام هذا الاتجاه، وبالرغم من أن آثار وحدة الصف لهذه القبائل قد جنوا ثمرتها، وهاب الأعراب والملوك جانبهم فلم يغزهم أحد، لكن الجو الداخلي قد تسمم بالأحقاد والكراهية والشحناء وصار كما قال القرآن الكريم "يكاد يتميز من الغيظ".

6 – لم يكن فشل مشروع وائل في تحضير الأعراب هو سيطرة القبلية عليهم فقط، إنما هو محاولة استعبادهم لشخصه، وتحويلهم إلى جنود في مملكته، وخضوعهم جميعاً لسيطرته، وذلك كما وصف العربي الخضوع للملك.

أنـت الـمـلك iiفيهم   وهم العبيد إلى القيامة

فشرف الضيافة التي يفخر بها العربي تحول إلى ضيافة الملك، والجوار الذي يعتز به العربي نزع منه ليكون جواراً للملك فقط، بغي واستعلاء وتجبر، وتأليه للملك على الرعية، هذا الواقع هو الذي أودى بحياة وائل بن ربيعة فلا جوار إلا جواره، ولا حمى إلا حماه، ولا ضيافة إلا ضيافته، وهو الذي يملك الحياة والموت لقوم يمنعهم القطر ويحول بين قطعانهم، الماء، حتى يخضعوا خضوعاً تاماً له، ويقرّوا بأن وائلاً أعز العرب.

لقد لخص ربعي بن عامر رضي الله عنه إشراق نور الإسلام في العرب بكلمة جامعة عظيمة مانعة (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله) وكليب لم يدع إلى عبادة الله الواحد الأحد، إنما دعا لعبادة ذاته فأخفق، ودفع حياته ثمناً لبغيه (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) إنما قال: ما علمت لكم من إله غيري. ووقع في الحفرة التي وقع فيها خصمه.

إن يكن قتلنا الملوك خطاءً   أو  صـواباً فقد قتلنا لبيدا

وهو ما عبّر عنه جساس بن مرة بقوله: إنما قتله بغيه.

إن الثورة على الباغين والطغاة ورفض بغيهم وظلمهم قد جاء بها الإسلام مقراً لهذه القيمة العليا في الإنسان العربي.

"ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دونه من أولياء ثم لا تنصرون.

7 – الثأر: ويكاد يكون هو المحور الرئيسي للمسلسل كله، وما قبله مقدمات له، فالزير سالم بن ربيعة بكى كليباً بكاء لم تبكه العرب قط لفقيد، وانتقل ليثأر له واضعاً نصب عينيه إفناء بني عمه بكر لأن جساساً البكري قتل كليباً أخاه، ولو أنه أفنى بني بكر جميعاً لما عادل ذلك قتل أخيه، فهذا الملك الجبار العظيم القائد لا يعادله إبادة قبيلة بكاملها.

نرفض الصلح أو تردوا كليباً   أو نـبيد الحيين بكراً iiوذهلا

فهذه هي خلاصة نظريته، ولا شريف في بكر يعادله أو يساوي قلامة ظفره، إنه يريد أن يثأر بكل قطرة دم من كليب برجل من بني عمه بكر بن وائل بن ربيعة.

وهذه النظرية العربية هي التي أفنت العرب قاطبة، ولم تقم لهم قائمة خلال التاريخ. لقد عاشوا قروناً طوالاً على هذه النظرية، نظرية الثأر، وتخلفت مأثرة العفو عند المقدرة وعلى الأخص في هذا المسلسل الضخم، ولا عجب أن تتخلف فلم يحفظ تاريخ العرب أشرس ولا أعنف من حرب البسوس التي استمرت أربعين عاماً أفنت رجال الحيين معاً بكراً وتغلباً، وبقي الزير أبو ليلى المهلهل وحيداً في النهاية طالب ثأر حتى قتل بعد أن صار شيخاً طاعناً في السن على يد عبدين من عبيد قومه.

وحين تقدّم حكيم العرب الحارث بن عباد بابنه يضحي به ليطفئ نار الحرب بين الحيين، وهو ولده الوحيد، قام الزير بقتله قائلاً: بؤ يشسع نعل كليب، مما دفع الحارث أن يدخل الحرب مرغماً بعد اعتزالها طيلة هذه المدة.

لـم أكـن مـن جناتها يشهد
قـربـاً مـربط النعامة iiمني

 
الله لكنني بحرها اليوم صالي
نـقتل  الكريم بالشسع iiغالي

نضع هذه الصورة الجاهلية المقيتة التي حكمت العرب طيلة جاهليتهم كلها، والصورة الوضيئة بعد أن أشرق في قلوبهم نور الإسلام.

لقد أقدم أبو لؤلؤة الفارسي على قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقتل معه سبعة من المسلمين ولو تم هذا الأمر في عهد كليب لأبيد الفرس الموجودون عن بكرة أبيهم، فمن ذا يقاس بعمر أمير المؤمنين فماذا فعل الإسلام بهذه الأمة؟ غضب عبد الله بن عمرو في حالة ثأر وهيجان فقتل الهرمزان بقتل أبيه بعد أن قتل فيروز (أبو لؤلؤة) نفسه ثأراً لأبيه، أي قتل مع فيروز قائداً فارسياً مسلماً. وقبل أن يتثبت ابن عمر من مشاركته في قتل أبيه فسجن عبيد الله بن عمر، وثبت أن الهرمزان لم يشارك في قتل عمر.

وفي اليوم الأول الذي تقلّد عثمان أمير المؤمنين الخلافة، يحدثنا القماذبان ولد الهرمزان عن ملابسات القصة قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض فمر فيروز بأبي (الهرمزان) ومعه خنجر له رأسان فتناول منه وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ قال: آنس به. فرآه رجل فلما أصيب عمر، قال: رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله، فلما وُلي عثمان دعاني فأمكنني منه (من عبيد الله) ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إليّ فيه، فقلت لهم: ألي قتلة؟ قالوا: نعم. وسبّوا عبيد الله فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبّوه. فتركه لله ولهم، فاحتملوني فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم.

فلم يقبل حزب الله في الأرض قتل رجل واحد ظلماً ثأراً لعمر مع أن قاتل عمر قتل سبعة من المسلمين غيره ودفع ابن أمير المؤمنين لابن المقتول ظلماً كي يقتله بأبيه، فعفا عنه.

ومن خلال هاتين الحادثتين نفقه لماذا استطاعت الأمة بالإسلام أن تحكم ثلثي الأرض بهذا الدين خلال عشرين عاماً؟ ولماذا لم تستطع هذه الأمة نفسها خلال عشرين قرناً أن تتجاوز صحراءها وهي تفني أبناءها.

8 – الغدر: خلق مذموم عند العرب، ويزدرون من يقوم به. لكنهم مع ذلك يتخلون عن الوفاء ويتنازلون عنه. ويسقطون في حمأة الغدر كما فعل جساس يوم طعن كليباً من ظهره، وغدر به وافتخر بفعلته، وعرف أنه طعن طعنة ستتحدث بها العرب، لم يقدم على هذا الغدر إيماناً به، لكنه يعلم أن لا قدرة له على مواجهة كليب ومصاولته، ويعلم أنه مقتول لو أقدم على ذلك.

ونرى الغدر في أبشع صوره عند الزير سالم يوم أقدم على الغدر بأعز أصدقائه عليه لإنقاذ حياته، فحين رفض الحارث بن عباد إخلاء سبيله إلا إذا دله على الكفؤ لولده في جيش كليب فذكر له أمرأ القيس بن أبان أكبر أعوانه وأنصاره، ولم يكتف بذلك بل دلّه على مكانه أنه تحت الراية أو أنه حاملها، ومضى الحارث بن عباد ليقتل امرأ القيس بن أبان بابنه جبير مع أنَّ امرأ القيس هو الذي حمى ابنه وكاد أن يقتل من أجله، لكنها الحرب ولا يلام الحارث في قتل عدوه.

إن الإسفاف الذي وصل إليه كليب لا يتناسب أحداً مع القيم التي ينطلق منها، وما الفرق بينه وبين جساس إذا كان يعيّر جساساً بالغدر، وجساس غدر بعده. حين انحط إلى أدنى منه فقد غدر بأعز أصدقائه وشعر بالندامة والحسرة الشديدة بعدها حتى اعترف أن جساساً خير منه يوم طلب من ابن أخته الجرو أن يقتله، حتى يوقف نزيف الدم.

9 – الوفاء: وبمقدار ما نحتقر هذا الخلق الذي اعتبره الإسلام من خصال المنافقين مثَلَهُ مثل الثأر فقال عليه الصلاة والسلام:

(أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن، كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).

أقول بمقدار ما نزدري هذين الخلقين، الغدر في العهد، والفجور في الخصومة، بمقدار ما نكبر وجودهما عند الحارث بن عباد.

فقد أخذ الزير سالم العهد منه أن يطلق إساره إذا دله على الزير سالم، وأن يمنّ عليه بحياته، وبعد أن أخذ العهد والميثاق منه على ذلك، أعلمه أنه هو الزير نفسه، وهو قاتل ابنه ورغم كل ما في قلب الحارث من حقد ووتر نحو قاتل ابنه تمكن من ضبط نفسه وأطلق قاتل ابنه، لأنه عاهد على ذلك. ولا يريد أن يسجل الغدر في تاريخه، فقد كانت هذه الأخلاق هي أعظم ما دعا إليه الإسلام العفو عند المقدرة، ورأينا كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم كل ألمه وجراحاته من قاتل عمه حمزة، عفا عنه بعد الإسلام وعفا عن كل خصومه الألداء، مما جعلهم بعد ذلك جميعاً أسارى فضله ومعروفه وجنوداً في جيشه يفدونه بأرواحهم ودمائهم.

كما نكبر الحارث بن عباد مرة أخرى فلم يُعد لنا سيرة الزير سالم في إبادة التغلبيين من أجل ولده جبير، إنما اعتبر أنه أخذ ثأره بقتل امرئ القيس بن أبان، وأوقف نزيف الدم بين القبيلتين.

10 – ونجد في المسلسل تعريضاً غير مباشر بالقصاص الذي هو شريعة الله، فعندما قال أحد الموتورين العين بالعين والسن بالسن، وأجابه الحارث بن عباد هذه شريعة اليهود وليست شريعة العرب ولو أخذت العرب بهذه الشريعة لرأيت كل العرب عوران ومع هذا فهو عرض حقيقي فقد تكون هذه قناعة العرب قبل أن يدخلوا في شريعة الله.

إن إكبارنا العظيم للمسلسل هو أنه عرض بصدق كامل، وموضوعية كاملة الجاهلية على حقيقتها دون تشهير ودون تهويل وتعظيم، وكم الفرق هائل بين هذا المسلسل التاريخي الحي وبين أفلام الكواسر ومشتقاتها، والتي تجعل الصفات العظيمة والأخلاق العالية عند العرب فقط بينما خصومهم من الفرس والروم هم أحط الناس خلقاً وحتى حضارة.

لقد قدّم الإسلام رأي عمر رضي الله عنه حين قال: لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وفعلاً لا يمكن أن يعرف المرء عظمة هذا الدين وعظمة إمام البشرية محمد صلى الله عليه وسلم في تكوينه أمة من هؤلاء الرعاع والأعراب غيرت وجه التاريخ وقدمت أعظم حضارة فيها إلا إذا رأى ما كانت عليه هذه الأمة قبل الإسلام، وكما قال تعالى: "وكتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد" وكما قال المغيرة بن شعبة سفير العرب والمسلمين إلى رستم ويزدجر يقول: (يزدجر) إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم، لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عد ولحق، فلا يغرنكم منا وإن كان الجهد دعاكم، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.

فيردُّ المغيرة: أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف.. إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالاً منا وأما جوعنا، فلم يكن يشبه الجوع كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل: فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم.

ديننا: أن يقتل بعضنا بعضاً، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك (وهي ما رأيناه في المسلسل). فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه وصدقه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا فدعانا إلى أمر لم يجبه أحد قبل ترب كان له، وكان الخليفة من بعده فقال وقلنا: وصدق وكذبنا وزاد ونقصنا فلم يقل شيئاً إلا كان فقذف الله في قلوبنا التصديق له وأتباعه فصار فيما بيننا وبين رب العالمين فما قال لنا فهو قول الله وما أمرنا فهو أمر الله فقال لنا: "إن ربكم يقول لكم: إني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإليّ يصير كل شيء وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأريكم على السبيل التي أنجيكم بعد الموت من عذابي ولأحلكم داري دار السلام فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه منا عليكم ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون من أنفسكم ومن أبى فقاتلوه فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه. فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك. فقال: أتستقبلني بمثل هذا؟ فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به.

فقال:

(لولا أن الرسل لا تقتل لقتلكم، لا شيء لكم عندي إلا السيف).

وكانت وقعة القادسية وكان النصر العظيم فيها على أكبر دولة في الأرض آنذاك. إنني أدعو كل مسلم أن يشهد مسلسل الزير سالم، ليتعرف مباشرة عن كثب على الجاهلية لأنه لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية. والحمد لله رب العالمين.