مسلسل: صلاح الدين

د. منير الشامي  

يعتبر هذا المسلسل من أجود ما قدمه التلفزيون السوري بالنسبة للأفلام التاريخية، فقد دأبت المسلسلات على عرض التاريخ الجاهلي كما هو الحال في (ذي قار، والزير سالم) أو في عرض التاريخ الحديث لسورية كما هو الحال في حمام القيشاني، وخان الحرير، وإخوة التراب، وغيرها لأول مرة تقوم بتجربة الدخول إلى التاريخ الإسلامي من أوسع أبوابه، فصلاح الدين الأيوبي من أعظم الرموز في تاريخ أمتنا وبلادنا، وأنظار الأمة كلها تتوق اليوم إلى صلاح جديد ينقذها مما آلت إليه من تمزق وذلة، وتحكم لليهود في أعز أقداسها في فلسطين.

وقد أحسن المخرج حين اختار الحقبة الأولى على طريق الذكريات التي يقدمها البطل صلاح الدين للقاضي الفاضل الذي كتب سيرته، واستغرقت هذه المرحلة زهاء عشر حلقات كانت بمثابة التثنية للحديث عن صلاح الدين الشاب الذي بدأ يأخذ دوره في أمته ومجتمعه. فقد عرض صلاح الدين ليلة مولده، وهي نفس الليلة التي جاءت أوامر عماد الدين زنكي لأبيه نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركوه بمغادرة قلعة تكريت ليتجها بعائلتهما إلى الموصل، فقد آن أوان رد جميلهما من عماد الدين.

وتعرض الحلقات العشر مراحل وصول نجم الدين إلى دمشق والتي ابتدأت بتوليته على بعلبك بيما بقي شيركوه بجوار عماد الدين يصدان الفرنجة في كل تحركاتهم، فقد أصبحت حلب والموصل وحماة معه، ولابد له من الاستيلاء على حمص غير أن الفرنجة له بالمرصاد، ويخشون أن يصبح طريق دمشق أمامه مفتوحاً وحينما يمضي إلى دمشق يسبقه الفرنجة في عقد اتفاق مع حاكم دمشق على الوقوف في وجه عماد الدين لأنه الخطر الأكبر عليه، وبعقلية عماد الدين الواعية يتراجع عن دمشق لكنه يرتبط بأواصر القربى مع أميرها حيث يتزوج خاتون أم الأمير ويتابع عماد الدين فتوحاته فيهاجم إمارة الرها ويحتلها في الوقت الذي يتوفى فيه ملك بيت المقدس وتتولى امرأته المُلك عنه، وفي حصاره لبعلبك تقتل حاميتها بعد أن تستأمن ويولى نجم الدين حكمها.

وبعد أن يقتل عماد الدين غدراً، يبايع ابنه نور الدين مكانه، حيث كانت أمداد الفرنجة قد وصلت إلى الشام، لكن الجيش اختلف على قيادته، واختلف في أولوياته، ومع ذلك فيستعيد الرها مستغلاً موت عماد الدين ويحاصر بعلبك، فيبعث أسد الدين شيركوه ويستنقذ الرها ثانية من الفرنجة، ويرسل نجم الدين ليقوم بتسليم بعلبك إلى أمير دمشق حيث يتفق معه لإنقاذ بعلبك من حصار الفرنجة لها. وتتحرك حملة ضخمة من أوروبا لسند الفرنجة في الشام لكنها تخفق في تحقيق أهدافها لصراعاتهم وتنافسهم على السلطة، وأمام اتفاق نور الدين وحاكم دمشق لم يكن لدى ملك القدس من خيار إلا غزو دمشق وحصارها، فيسارع نور الدين ويرسل حملة لنصرة دمشق مما حدا بجيش القدس أن يفر قبل المواجهة ويقع الكثير من جنوده أسرى عند المسلمين كما جرب صاحب إنطاكية خطة في غزو حلب فيخرج له أسد الدين ونور الدين ويقتلونه في الوقت الذي يتوفى فيه أمين الدين في دمشق ويكون نجم الدين قد علا شأنه في الشام فيطهر الجيش من المنحرفين ويبعث بابنه صلاح الدين رسولاً إلى حلب يدعو نور الدين لدخول دمشق، وكانت الفرحة الكبرى للمسلمين بانضمام دمشق إلى هذه القوة الإسلامية الفتية فتغدو سورية اليوم ودمشق وحلب وحمص والموصل والرها تحت قيادة واحدة، وينقل نور الدين قيادته العليا إلى دمشق.

لقد حرص المؤلف على إبراز العديد من القيم الإسلامية أثناء هذه التوطئة، من أهمها: فكرة الجهاد في سبيل الله، وتحرير الأرض من الأجنبي، والآمال بتحرير القدس كلها وتقوم على أساس نصر هذا الدين.

كما أبرز فكرة الاستقامة على مبادئ الإسلام، وهي التي تغري العدو فيه وأن خطيئة لعماد الدين حين قتل حامية بعلبك بعد إجارتها ولّدَتْ وهناً في الصف، وفقدان ثقة في الوعود الإسلامية وركز على أن وحدة الصف هي التي تقود إلى النصر، وكيف أن نور الدين آمن بهذه الوحدة من خلال السياسة الحكيمة، وكان مصمماً على أن لا يرفع سلاحاً في وجه مسلم أو يقاتل مسلماً لذلك، وأن يجعل قوته وكيده للفرنجة، كما أبرز صراعات أمراء الفرنجة أنها كلها من أجل المنصب والحكم، وليست من أجل المقدسات فكثيراً ما أجبروا بطريكهم الأكبر بالقوة على أن ينضم إلى مركز من مراكز القوى أو أن راهبهم الكبير ساند الأقوى للحفاظ على منصبه.

وبين وعي المسلمين وسرقة مبادرتهم وحسن تخطيطهم والاستفادة من انقساماتهم لتحقيق انتصارات عليهم مؤكداً المقولة: أفدنا من انقساماتهم أكثر من سيوفنا. وأبرز المبدأ القائل: يجب أن تتصدى لفساد المسلمين.

- 2 -

يلقي المسلسل الضوء على بعض ثغرات الفساد في المجتمع الإسلامي، فالنساء المحجبات يكشفن عن وجوههن ويرقصن وذلك في أماكن اللهو بينما نرى أمير أنطاكية يحبس المسلمين والنصارى العرب معاً جنباً إلى جنب، ويبرز وحدة المصير بين النصارى والمسلمين بقوله على لسان أحد الأسارى: نحن أصحاب البلاد وإن اختلف الدين، ثم ينتقل بنا إلى نور الدين وزوجته الحازمة اللبيبة الصالحة خاتون التي تحدث نور الدين عن حب الناس له وهي بنت معين الدين بن أتابك العساكر بدمشق.

ينتقل بنا المسلسل إلى المجرم الكبير أرناط صاحب أنطاكية ويفكر بغزو قبرص رامياً بالهدنة بينه وبين المسلمين عرض الحائط، ويطالب القسيس الأكبر بأخذ ماله، ويظهر كفره وتبجحه مما أدى إلى غضب عمانوئيل، ويقف بنا المسلسل عند قيمة عظيمة من قيم الإسلام حيث يداوي المسلمون مرضى النصارى حتى ولو كانوا مقاتلين، ويتأثر أحد الفرسان بهذه المعاملة العظيمة، ويأخذه الطبيب فيعلمه مبادئ الإسلام وعلوم العصر، ويبرز هذا المعنى خلال الآية القرآنية: (ولا يجر منكم شنّآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) كما يبرز كيف يعامل المسلم المستأمن المعاهد بينما يعود بنا لزوجة نور الدين التي تتلثم وتخرج إلى شعبها لتساعد المنكوبين والضعفاء والمحتاجين، حيث تقع الواقعة بين أرناط وعمانوئيل بعد احتلال أرناط للقدس وتخريبها ويطالب عمانوئيل بتوبة أرناط وقد عقد هدنة مع نور الدين وتمضي قافلة إلى الحج يرعاها صلاح الدين الذي بدأ الآن شخصية ذات وزن ويعود بنا إلى الفارس النبيل الذي أعجب بالإسلام وبالتآخي النصراني الإسلامي وقال الشرق أعطاني الطب والفلك والرياضيات، الشرق أعطاني الأخلاق وسأحاول ترجمة هذه الكتب كلها مشيراً بذلك إلى أن أساس نهضة العز إنما جاءت من الإسلام.

يصل شاور وزير مصر يطلب من نور الدين المعونة على  ضرغام الذي ينافسه في الوزارة أما زوجة نور الدين فتدعوه إلى توحيد الفرقتين بخلافة واحدة، أي الفاطمي والعباسي ويجد نور الدين زنكي الفرصة سانحة في أن يدخل مصر عن طريق هذه الدعوة، فيبعث أسد الدين وصلاح الدين استجابة لهذا الطلب في الوقت الذي يأخذ ضرغام موافقة الخليفة الفاطمي الضعيف على الاستعانة بالفرنجة، ويتساءل الخليفة: عسكر الشام ماذا أفعل بهم؟ ويخون شاور ويدعو ملك الفرنجة كذلك مما يضطر جيش الشام إلى المضي إلى بلبيس مستعيناً بقبائل كنانة، حيث يردد صلاح الدين: لم نغلب من القوة، ربما غلبنا من ضعف النفوس، وحين يمضي الفرنجة للقضاء على عسكر الشام في بلبيس يهزمون ويدعي شاور أنه هو الذي خذلهم حتى هُزموا، وتحرك أسد الدين شيركو من بلبيس إلى القاهرة بعد أن جاءه مدد من نور الدين  في الشام، ويطلب ملك بيت المقدس من شاور موافقة الخليفة الفاطمي حتى يأتي مدداً لمصر، حيث يتم التركيز هنا على معنى وفاء الأقباط المصريين لبلادهم وتأييدهم لأسد الدين، ويرفضون حماية الفرنجة والصليبيين التي يدعون أنهم جاؤوا لحمايتهم، كما يركز المسلسل على نفسية صلاح الدين الزاهدة في السلطة، وأنه لم يأت إلى مصر إلا كارهاً، ولكن قدر الله ليكون في هذا الموقع، وتبرز خيانة شاور للعيان يوم يحرم المسلمين نصراً عظيماً على الفرنج حيث كان ينقل لهم أسرار جيش الشام وتحركاته ويقول: الفرنجة هم الفرج، سنبقى معهم.

وانتصر الشاميون على شاور ومضوا إلى الإسكندرية، ويحاصر أسد الدين من الفرنجة فيها فيمضي سراً ليطلب مدداً من الشام ويترك صلاح الدين مكانه حيث يستمر الحصار ثلاثة أشهر وتبلغ الأنباء لنور الدين في الشام فيشن الهجوم على حصون الروم لتخفيف الضغط عن صلاح الدين وصلاح الدين يرفع القيمة المعنوية لجيشه، يخطبهم ويحثهم على الثبات والجهاد قائلاً لهم: هل تريدون أن يؤتى الإسلام من قبلكم؟

وتنجح خطة أسد الدين حيث يأتي الفرنجة من الخلف كي يحصرهم بينه وبين صلاح الدين، وأدرك ملك الفرنجة الخطة فأسرع وعقد صلحاً مع صلاح الدين وينحسب بعد المصالحة ليمضي بجيشه ليحاصر القاهرة حيث يدخلون بلبيس ثانية ويذبحون ويأسرون ويعود الخليفة الفاطمي الضعيف الضائع بين وزيريه شاور وضرغام يطلب المدد من نور الدين، فيتحرك أسد الدين وصلاح الدين بثمانية آلاف جندي ويقوم المصريون بمعاونتهم فيهزمون الفرنجة ويدخلون القاهرة دخول الفاتحين المظفرين، حيث يربط كاتب المسلسل هذا النصر بوحدة أبناء الوطن في مصر وسورية. يدخلون وهم يهتفون: شاميون، مصريون، كلنا مجاهدون.

ويحرض شاور بريقه، ويعلم أن دخول الشاميين هو كسر لشوكته، فيعاود الصلة بالفرنجة لكن ابنه الذي يرى غدر أبيه يبعث رسولاً إلى صلاح الدين بهذا الغدر، ويتمكن صلاح الدين من كشف خطة شاور للغدر بأسد الدين شيركوه، فيقتله قصاصاً لمؤامراته، وهنا يتنفس الخليفة الفاطمي الصعداء بعد مقتل شاور وضرغام، ويولي أسد الدين شيركوه الوزارة ليصبح الحاكم الحقيقي لمصر. ولن يستمر الأمر بأسد الدين كثيراً، حيث توفي وكان صلاح الدين قد بزغ نجمه ووثّق العلاقة والصداقة بالخليفة العاضد، مما حدا به إلى اختيار صلاح الدين وزيراً بعد أسد الدين، وآلم هذا الاختيار كبار القادة الشاميين وهم يرون صلاح الدين فتىً صغيراً أمامهم، فغادروا مصر إلى الشام مغاضبين لصلاح الدين، وهنا يبدأ الدور الأكبر لصلاح الدين ويصبح منذ الآن سيد الموقف وصاحب القرار الأول.

- 3 -

يعرض صلاح الدين رحمه الله خطته على مستشاريه في إصلاح العباد والبلاد، وكانت مصر تنخر بالفساد والمحسوبية، فوضع كل همه في تربية الجيل والجند على قيم الإسلام، وكان حازماً عندما يقتضي الأمر الحزم، فهو يعلم أن البلاء من الرؤوس الكبيرة التي نخر فيها الفساد إلى العظم، فهذا مؤتمن الخلافة جوهر يتصل بالفرنجة والروم ليقضي على صلاح الدين، وتحرك الفرنجة والروم فعلاً بذلك فقتله، ثم راح يستعد لمواجهة هذه الجيوش فلقيهم في دمياط. لقد جاؤوا عن طريق البحر وحوصر المسلمون في دمياط خمسين يوماً، فبعث صلاح الدين يطلب المدد من نور الدين لمواجهة الفرنجة.

أرسل نور الدين مدداً كثيفاً لصلاح الدين وفي الوقت نفسه راح يغير على ديار الفرنج ويغنم أموالهم ويسبي نساءهم حيث أنهم تركوا أرضهم للزحف على القاهرة، ولما رأوا المدد وبلغهم ما فعل نور الدين بأراضيهم وديارهم أجلوا عن دمياط.

وكان من بين من وصل إلى مصر من الشام نجم الدين أيوب والد الأمير صلاح الدين، فاحتفى به العاضد الخليفة الفاطمي وخرج لاستقباله وأقطعه الإسكندرية ودمياط، وكانت الأوامر من نور الدين أن يخطب صلاح الدين للخليفة العباسي، وهذا يعني خلع الخليفة الفاطمي وامتثل صلاح الدين لأمر أبيه نجم الدين وأميره نور الدين كارهاً، فلم يكن يرى من الحكمة ذلك مما أدى إلى وفاة الخليفة الفاطمي بعد فترة وجيزة، وكانت أخته أعقل منه، وبلغ الود بينه وبين صلاح الدين أن غفر له على فراش موته ما فعل كما يذكر المسلسل، ويصبح صلاح الدين حاكم مصر الأول.

نلاحظ أن المسلسل هنا يمر سريعاً على انتقال مصر بين الشيعة إلى السنة، والمؤلف معذور في ذلك لأن المسلسل يعرض في القناة السورية التي ترتبط سياسياً ودينياً مع الشيعة برباط وثيق، لكنه تحدث عن انضمام مصر لنور الدين وللخلافة العباسية.

بدأت الشكوك بعد تعاظم سلطان صلاح الدين في مصر تفد على قلب نور الدين أن يكون صلاح الدين يفكر في الاستقلال بمصر، فطلب من صلاح الدين أن يلتقي معه في الشوبك، ومضى صلاح الدين ثم خاف أن تنقض مصر بعد خروجه فعاد واعتذر من نور الدين.

يلقي المسلسل الضوء على دور زوجة نور الدين في تليين قلبه على صلاح الدين، ذكرته بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة. وأعجبه رأيها وحصافتها وقال لها: ما يعدل جمال وجهك جمال عقلك، وإنه ليعدل عقل مائة رجل. وكان لحكمة نجم الدين فضل عظيم في إعادة الثقة بين نور الدين وابنه صلاح الدين، وحضر أجل نجم الدين عندما كان ابنه صلاح الدين محاصراً الكرك غائباً عنه وآلمه أن لا يكون بجواره، وعاد الأمر فتأزم ثانية بين الرجلين غير أن صلاح الدين العظيم أظهر الطاعة المستحسنة وبث لنور الدين بأغلى ما عنده من تحف عربون وفائه له بعد أن ضم اليمن إلى الديار المصرية وأرض النوبة وكان هذا الامتداد بدون إذن نور الدين هو الذي غير قلبه عليه، وعندما توفي نور الدين رحمه الله كان صلاح الدين ملك مصر واليمن وساحل المغرب.

- 4 -

لقد كانت وحدة مصر والشام هي البداية الحقيقية للنصر على الفرنجة وتحرير القدس، لكن دون ذلك أهوال وأهواء فصاحب حلب تترس بسلطانه لكن دمشق فتحت أبوابها له ودعوه لدخولها بعد أن أساؤوا كثيراً وبعثوا الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين إلى حلب وبعد أن هادنوا الفرنجة وأعطوهم بانياس وجدوا أن صلاح الدين قادم لا محالة، فغير حاكم دمشق موقفه وجعل يستحث صلاح الدين للقدوم، حتى دانت له دمشق، ويمضي فتفتح له حمص وحماة، واستطاع أهل حلب أن يقنعوا الملك إسماعيل بن نور الدين لتهييج أهل حلب لحرب صلاح الدين فخرجوا جميعاً لقتاله يبعثون من يقتله فيفشلون بذلك، يستعينون بالفرنجة على صلاح الدين وتحرك صاحب طرابلس فقصد إليه صلاح الدين وهزمه، واستغلوا ذهابه لطرابلس فبعثوا لعمه صاحب الموصل فجاء وانضم إلى أهل حلب، فانتهى إليهم وهم في جحافل كثيرة، وحاول مهادنتهم على أن يبقي لهم حلب، ويكتفي بدمشق فامتنعوا ووقع القتال عند حماة وصبر صبراً عظيماً حتى هزمهم شر هزيمة، وراحوا هم يطلبون الموادعة والصلح معه على أن يكف عنهم ويعطوه المعرة وكفر طاب وماردين إضافة إلى حمص وحماة، فقبل ذلك وكف عنهم وحلف على أن لا يغزو بعدها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، ولا ينسى المسلسل أن يشير إلى دور زوج نور الدين والتي كانت في غاية الصلاح وحاولت إقناع ولدها إسماعيل ببيعة صلاح الدين فرفض، ووصل له وهو في حماة كتاب الخليفة في بغداد بتوليته سلطاناً على مصر والشام، ثم محاولة ثالثة لاغتيال صلاح الدين ويناقش شهاب الدين الحارثي رئيس الحشاشين الذي يقول: أريد الفردوس الموعود هنا.

أراد الصليبيون أن يقطعوا الطريق على صلاح الدين ويستولوا على عسقلان حتى لا يلتقي مع العسكر الشامي، لكن صلاح الدين وصل قبلهم ووقعت معركة الرملة فسبى وغنم ثم شغل جيشه بالغنائم فانقض عليه الفرنجة حين بقي منفرداً مع طائفة من الجيش، ولكنه ثبت.

ويبرز المسلسل معناً إسلامياً جديداً من معاني النصر والهزيمة من خلال تلاوة آيات سورة آل عمران (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) ويتزوج صلاح الدين أرملة نور الدين التي تعمل جاهدة لنصره، وإعزاز دين الله، فتزور ابنها الملك الصالح إسماعيل ملك حلب حيث يلومها على الزواج من صلاح الدين، لموقفه العدائي من صلاح الدين وتصحح نظرته نحوه.

في سنة خمس وسبعين وخمسمائة كانت موقعة مرج عيون حيث قصد الفرنج صلاح الدين فأنزل الله نصره عليه فقتل منهم خلقاً كثيراً وأسر من ملوكهم جماعة وعدداً من شجعانهم وأبطالهم ومن فرسان القدس جماعة كثيرين تقريباً ثلاثمائة أسير من أشرافهم، ثم قصد حصن الداوية الذي بناه الصليبيون قرب صفد فسواه بالأرض.

كانت هناك هدنة بين صلاح الدين وملوك الصليبيين فنقضوا العهد وخاصة ملك القدس وقطعوا السبيل على المسلمين براً وبحراً فتحرك السلطان من مصر لحربهم فاقتتل معهم في نواحي طبرية وبيسان فقُتل خلق كبير من الفريقين ونصر الله المسلمين عليهم ثم اتجه إلى حلب فحاصرها ثلاثاً وكان الملك الصالح قد توفي وأصبحت بيد عمه عماد الدين زنكي، ثم رأى العدول عنها فسار حتى بلغ الفرات واستحوذ على بلاد الجزيرة والرها والرقة ونصبين، وخضعت له الملوك ثم عاد إلى حلب فتسلمها من صاحبها عماد الدين زنكي، فاستوثقت له الممالك شرقاً وغرباً، وتمكن حينئذ من قتال الفرنج. وكما قال الشاعر:

وفتحكم حلب الشهباء في صفر    قضى لكم بافتتاح القدس في رجب  

لقد أبرز المسلسل الجانبين المهمين في مرحلة التمهيد لفتح القدس، فبعد أن دانت له الملوك وأصبحت الشام ومصر واليمن له والخليفة في بغداد أقر له ذلك عاد فعرض الجانب الاجتماعي في التطبيق الحقيقي للإسلام وإقامة العدل في الرعية، وسلط الزعماء الشعبيين علىا التجار لدفع الزكاة، ووزّع مئتي ألف دينار للفقراء وألغى الضرائب والمكوس وأبطل نفقة السلطان من الخزانة، وبعدها دعا الأمة وعبأها للجهاد والتوجه إلى غزو الفرنجة، وزاد في تعبئة النفوس لهذه الحرب ذلك التحدي الذي قام به أرناط يريد أن يغزو الكعبة، ويقضي على الإسلام في مهده، وحين عجز أرناط صاحب الكرك عن تنفيذ جريمته عمل مراكب في بحر القلزم (الأحمر) ليقطعوا الطريق على الحجاج والتجار، وخاف أهل المدينة من شرهم فأرسل لهم الأمير حسام الدين لؤلؤ صاحب الأسطول فظفر بهم، فقتلوا منهم وحرقوا وغرقوا وسبوا في مواطن كثيرة.

لقد تحرك صاحب الكرك بحقده الأسود يريد أن ينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بينما كان ملك الروم المجذوم يحكم القدس فيغير أرناط ويهاجم قافلة حجاج، فيغير صلاح الدين على الشوبك ويستنقذ الحجاج ويلوذ رينو بالفرار، وكان صلاح الدين قد أقسم أن يقتل البرنس صاحب الكرك بيده لأنه نقض العهد، وانتقص الرسول وأخذ قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام فأخذ أموالهم وضرب رقابهم وهو يقول: أين محمدكم؟ دعوه ينصركم. وها هي زوج صلاح الدين تقبل ابن صلاح الدين قائلة: لكأني قبلت أباه حين قبلته. ويركز المسلسل على الروح الإسلامية وكيف أن ذلك الفارس النصراني لا يثق إلا بالطبيب العربي ليداويه من جروحه، مع الاهتمام بصحة الملك المجذوم ملك القدس، كما يركز على الصراعات على السلطة في القدس وغيرها، وكيف يحاولون استغلال ضعف الملك المجذوم أو انتظار موته ليكون لكل فريق الملك بعده بينما تتصل أم الملك تطلب إيقاف القصف من أجل عرس ابنها ويستجيب صلاح الدين لذلك، وفي هذه الظروف الحرجة تتوفى الخاتون زوج صلاح الدين وهي تقرأ القرآن وعبر عن مشاعره نحوها بقوله: ما قلت لها يوماً أحبك وهي أحب الناس إلي. قالتها لي يوماً ثم لماذا لا تدرك الأمور إلا بعد فواتها، لقد أحببتها كما لم أحب امرأة مثلها، العقل، الدين الحكمة، الخلق، الجمال، حين أعود إلى داري أحس بالوحشة لغيابها والاشتياق لها، رحمها الله.

صاحب طرابلس هو وصي العرش بعث يطلب الهدنة أربع سنوات، الخبيث جوستين خدعني فيتحرك صلاح الدين ويحتل بيروت وصور، ولن نخرق الهدنة حتى يخرقوها، الجيوش في مصر والشام والجزيرة الفراتية تتأهب للقيام بواجبها من الجهاد.

أمير أنطاكية عقد هدنة مع صلاح الدين، وسار إلى الكرك حيث البرنس أرناط الذي كان من أعاظم الفرنجة وأخبثهم وأشدهم عداوة للمسلمين، وأعظمهم ضرراً عليهم، فقصده صلاح الدين بالحصار مرة بعد أخرى، فذل وخضع وطلب الصلح من صلاح الدين فأجابه إلى ذلك وهادنه فتحالفا ثم قرر أن يغدر فحصره صلاح الدين ثانية.

 حاول الفرنجة توحيد موقفهم أمام تعاظم قوة صلاح الدين فانضم أمير طرابلس إلى ملك القدس وأقام السلطان في عكا إلا ما كان من القمص صاحب طبرية الذي بقي حليفاً لصلاح الدين فترة يقاتل الفرنجة لأن ملكة القدس فوتت الملك عليه وأعطته لزوجها الذي أحبته بعد أن كان لولدها الصغير الذي كان القمص مشرفاً عليه، لكنه في النهاية عاد إلى صليبيته وتاب عن مؤازرة صلاح الدين بعد أن توجه صلاح الدين إلى الأقحوانة قرب طبريا والقمص يعده بالنصرة ويمنيه بالمعاضدة، وجمع الفرنجة أمرهم بعد انضمام القمص صاحب طبرية لهم، والتقت كلمتهم بعد فرقتهم ثم ساروا من عكا إلى صفورية حطين. صلاح الدين يتحدث عن خطته قائلاً:

البحيرة وراءنا، نصف النصر أن تفرض على العدو المكان الذي تريده، مطلوبنا أن نستدرجهم إلى المكان الذي عيناه. ندمر كل صهاريج المياه، سنزحف إليهم، والطريق من صفوريه إلى حطين ويحاصر طبريا وفيها زوجة القمص الذي خانه –ريموند- حيث يسعى لإنقاذها فتتفرق كلمتهم، ويهتف صلاح الدين بجنده قائلاً: والله إني لأرى ريح الجنة يا رجال، الملائكة يحيطون بنا، اذكروا الله كثيراً، فهذا يوم كالقادسية كاليرموك.

"ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين" "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً".

يا سيوف الإسلام يا أصحاب رسول الله ليس بينكم وبين القدس إلا الانتصار في هذه المعركة.

وبدأ صلاح الدين بتنفيذ خطته، سد صلاح الدين عليهم الماء، فخرج ريموند من هذه المعركة. فرسانهم حريصون على أن لا ينفصلوا عن رجالتهم، الله أكبر غداً نجعله آخر هتاف لهم ثم يصلي بالمسلمين وراءه صلاة الخوف ويناجي ربه:

(يا ملاذ المستضعفين، يا قاصم الجبارين، اللهم بيتك المقدس قد طال عليه الأسر، اللهم إن هؤلاء قد خرجوا لنصرة دينك، اللهم نصرك المبين) ثم يتجه صلاح الدين لولده قائلاً:

اطلب الموت توهب لك الحياة. شيخ الأحداث في دمشق وهو الزعيم الشعبي وبجواره الشيخ الواعظ المسن كلهم يطلبون الشهادة. الواعظ يعظ الناس ويجلس في بيته، أما الواعظ الحقيقي الذي نراه فهو أمام الصفوف يطلب الشهادة قرة عيني وعينك في الجهاد وهذا يوم الاختبار ولهذا ادخرته.

وحمل المسلمون حملة نكراء، ضعضعوا الكفار، ولما رأى صلاح الدين حملة الفرنجة في المقابل ومعهم القمص صاحب طبرية، فأمر صلاح الدين أن يفتحوا لهم طريقاً يخرجون منه، وكان بعض المتطوعة قد ألقى في تلك الأرض ناراً، وكان الحشيش كثيراً فاحترق فاجتمع عليهم حر النار والدخان إليهم والعطش وحر الزمان وحر القتال، فلما انهزم القمص سُقط في أيديهم، وارتفع من بقي من الفرنجة إلى تل حطين، وأرادوا أن ينصبوا خيامهم فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات ومنعوهم عما أرادوا، ولم يتمكنوا إلا من نصب خيمة ملكهم، وأخذ المسلمون صليبهم الأعظم فأيقنوا بالقتل والهلاك، وبقي الملك على التل في مقدار مائة وخمسين فارساً من شجعانهم، ثم حمل المسلمون عليهم حملة اقتلعوا الخيمة وأسروهم عن بكرة أبيهم وفيهم الملك وأخوه البرنس صاحب أرناط أعدى أعداء المسلمين والذي نذر صلاح الدين قتله بيده، وأسرى صاحب جبيل وكان من أعظم الفرنج شأناً وكثر القتل والأسر فيهم فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا واحداً، وما أصيب الفرنج منذ خرجوا إلى الساحل سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة بمثل هذه الموقعة، فلما فرغ المسلمون منهم نزل صلاح الدين وأحضر ملك الفرنج عنده وعرش أرناط صاحب الكرك، وأجلس صلاح الدين الملك إلى جانبه وقد أهلكه العطش فسقاه ماءً مثلجاً فشرب وأعطى فضله صاحب الكرك فقال صلاح الدين: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني، ثم كلم البرنس أرناط وقرّعه بذنوبه وعدد عليه عوراته وغدراته وقام إليه بنفسه فضرب رقبته، فارتعدت فرائص الملك فسكن جأشه وأمّنه، وإن صاحب طرابلس لما نجا من المعركة وصل إلى صور ثم قصد إلى طرابلس فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى مات غيظاً وحنقاً مما جرى على الإفرنج قومه. وعاد صلاح الدين إلى طبرية ونازلها فأرسلت صاحبتها تطلب الأمان لها ولأولادها وهي زوجة القمص فأجابها إلى ذلك فخرجت بالجميع فوفى لها فسارت آمنة، وقتل أشد فرسانهم من الراوية والإسبارتية لأنهم كانوا أشد شوكة من جميع الفرنج، ثم زحف إلى عكا فخرج إليه أهلها يضرعون ويسألونه الأمان وأمنهم إلى أموالهم وأنفسهم وخيّرهم بين الإقامة والظعن فاختاروا الرحيل خوفاً من المسلمين.

الحلقة 28

انتصر المسلمون في حطين، وكانت مناجاة صلاح الدين ربه في سجوده شكره لله، أخذ طبريا وعكا وأعاد زوجة الحاكم إلى أهلها ومأمنها، وراح يناجي نفسه: مائة عام منذ وصلت جحافلهم إلى بلادنا، ما الذي يخرجهم من بلادنا في شهرين يفتح لنا الطريق، مائة عام عُرفت معادن الرجال، عماد الدين، نور الدين، صلاح الدين، لولا الأمة التي أنجبتهم وأرضعتهم حليب الجهاد، العامة التي انتصرتم بها في بلبيس والإسكندرية، ألوف الشهداء كانوا يحاربون معك في فلسطين. مَن يوسف بن أيوب ليزكي نفسه على الله، هذا البحر هو بوابة الغزاة، قدر الشام ومصر أن يحموا هذه الأمة. لا نريد أن نخسر أخلاقنا ورسالتنا، ولو فعلنا ذلك لصرنا والفرنجة سواء، الفرنجة كسبوا المعركة بالسيف وعمدوا إلى تدمير الأقصى وقتل الأسرى، مهمتنا نحن حفظ الأرواح والمقدسات، نرسل وفداً إلى عسقلان لطلب تسليم بيت المقدس. القدس والعهدة العمرية ملزمة لنا، العدوان وإن طال لا يثبت حقاً ولا يغير حقاً، قتلتم سبعين ألفاً وسالت الدماء إلى الركب.

وأخيراً بيت المقدس ادخر قلبك ليوم الفتح القريب، هنا قبالة باب عاموس الأمير باليان يطلب من صلاح الدين السماح له، الرب يطلب. صلاح الدين للأمير: أحللتك من عهدك عد إلى قومك وتستطيع أن تخرج زوجتك وأولادك بأمان، عليّ واجب الدفاع عن المدينة، هكذا يقول باليان.

الحلقة 29

اخرج معها من يرافقها إلى مقصدها. هذه كانت ملكة، لا شيء يحزن القلب أكثر من عزيز قوم ذل. ها هي القدس التي شهدت مصارع أجدادكم، ها هي القدس أسيرة، يخطب صلاح الدين في جنده: مائة عام حتى شاء الله تعالى أمن يجعل الفتح على أيديكم، فاختاركم تقاتلون العدوان، مكبرين تائبين عابدين حامدين ويقول للنصارى العرب:

أنتم أهلنا هذه بلادنا وبلادكم، عشنا عهد عمر ورددنا إليكم كنائسكم ومعابدكم، فنحن وإياكم سواء بالسراء والضراء، إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، ويقول الناطق باسم النصارى العرب: ما توقعنا من السلطان غير هذا، كنا آمنين حتى جاء هؤلاء الغزاة.

خمسة آلاف أسير من الفرنجة الأمان لهم ثمن قليل لقاء أسرانا والأقصى والصخرة، مقتضى ديننا ذمة نبينا.

ملك القدس يقول: حقاً يا سيدي إنك كما يصفونك، إن لنا رجالاً أسرى، فيأمر صلاح الدين خذوهم إلى أسراهم، الفقراء لا تأخذوا منهم شيئاً أثناء خروجهم.

ملك القدس: حطمت أساطيرنا، أشفق على ملوكنا من بعدك، الشعوب لم تتوقف عن المقارنة. عظمة شمائلك ترفع عنا عار الهزيمة، هل أستطيع أن أعود إلى هذا البلد حاجاً؟

صلاح الدين: في أي وقت؟

4 شعبان: الجمعة الأولى بعد التحرير، الله أكبر الله أكبر الله أكبر. هذا البحر بوابة الغزاة، وقدر الشام أن تحمل عن الأمة واجب حمايتها ومنعتها.

ينتهي المسلسل بالأمانة على عرض القيم في هذه الأمة التي تربط بين العروبة والإسلام من نفاسة المعدن وعظمة الرسالة، إنها الأمة المسلمة عرباً وأكراداً وغير ذلك من الإسلام بنت قيمها، والنصارى العرب يعيشون سعداء في ظل هذه القيم.