مسلسل: عبد الرحمن الداخل

مسلسل: عبد الرحمن الداخل

د. منير الشامي  

مسلسل عبد الرحمن الداخل، المادة التاريخية لوليد سيف والإخراج لهيثم حقي.

أقرر ابتداءً أني حين أرى المادة التاريخية للأستاذ سيف أطمئن تماماً وأرتاح، فهو أمين في العرض، دقيق في الفهم، واسع الاطلاع، غزير الثقافة، ومن يملك هذه المقومات فهو المؤمل لتقديم أمثال هذه المسلسلات وليست شهادتي وحدها فقط، فقد فاز بالجائزة الذهبية لأحسن سيناريو في مهرجان القاهرة الدولي العاشر.

كما أني حين أرى الإخراج لـ: هيثم حقي أطمئن كذلك وأرتاح، فهو قادر على استيعاب المادة التاريخية واختيار ما يناسب لإخراجها، وليست شهادتي وحدها في ذلك فقد فاز في ذهبية الإخراج في مهرجان القاهرة العاشر الذي عقد في أواخر حزيران 2004 كما ذكرت صحيفة تشرين يوم السبت 3 تموز 2004.

1 – جميل أن يبدأ المسلسل منذ هشام بن عبد الملك جد عبد الرحمن، فهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، كما ناسب ذلك ابتداء الدعوة العباسية في عهده، ويعرض تسلسل الخلافة بعد هشام لتنتقل إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، والذي كان ماجناً خليعاً زنديقاً، فثار عليه ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي كان صالحاً وغيوراً على دين الله وحرماته، فبيَّتَ الوليد بن يزيد وقتله، وآلت الخلافة إليه، وكان مشهوراً بالعدل والقسطاس بين المسلمين وأعاد للناس سيرة عمر بن عبد العزيز حتى صار مضرب المثل عند الأمة المسلمة فقالوا:

الأشج والناقص أعدلا بني أمية.

والأشج هو عمر بن عبد العزيز، والناقص هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك.

ونشير إلى أن الخلافة آلت إلى الوليد بن يزيد بعد وفاة هشام، لأن يزيد بن عبد الملك أوصى بالخلافة لأخيه هشام ثم لابنه الوليد بن يزيد من بعده.

2 – اختار الأستاذ سيف أن يكون فساد الوليد بن يزيد لإهمال عمه له، وعدم اهتمامه به، كما اختار شخصية يزيد بن الوليد الذي ثار على ابن عمه الوليد بن يزيد أن يكون شخصية ضعيفة يحركها المغامرون حولها، وأخالف الأستاذ سيف في ذلك، فلم تقدمه كتب التاريخ كذلك.

3 – تابعت الدعوة العباسية عملها بالسر، وثار مروان بن محمد على إبراهيم بن يزيد، وفي الوقت الذي كانت الدولة الأموية تتمزق بالثورات والصراعات الداخلية، كان بنو العباس يعلو نجمهم وترتفع راياتهم السود بين الأعاجم، وحين قتل مروان بن محمد وآلت الخلافة لبني العباس اختفى بنو أمية، وكان من قياداتهم عبد الرحمن، وعمه سليمان. أما عمه سليمان فقتل بعد إعطائه الأمان، وأما عبد الرحمن فيقص علينا قصته وحكي عنه أنه قال:

لما أعطينا الأمان ثم نكث بنا بنهر أبي فطرس وأبيحت دماؤنا أتانا الخبر –وكنت منتبذاً بين الناس فرجعت إلى منزلي آيساً ونظرت فيما يصلحني وأهلي وخرجت خائفاً حتى صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض، فبينما أنا ذات يوم بها وولدي سليمان يلعب بين يدي –وهو يومئذ ابن أربع سنين- فخرج عني، ثم دخل الصبي من باب البيت باكياً فزعاً فتلعق بي وجعلت أدفعه وهو يتعلق بي، فخرجت لأنظر، وإذا بالخوف قد نزل بالقرية، وإذا بالرايات السود منحطة عليها وأخ لي حديث السن يقول لي: النجاء النجاء فهذه رايات المسودة، فأخذت دنانير معي، ونجوت بنفسي وأخي وأعلمت أخواتي بتوجهي فأمرتهن أن يلحقني مولاي بدراً، وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لي أثراً، فأتيت رجلاً من معارفي وأمرته فاشترى لي دواب وما يصلحني فدلّ عليّ عبد له العامل، فأقبل في خيله يطلبني، فخرجنا على أرجلنا هراباً والخيل تبصرنا فدخلنا في بساتين على الفرات، فسبقنا الخيل إلى الفرات، فسبحنا فأما أنا فنجوت والخيل ينادوننا بالأمان ولا أرجع، وأما أخي فإنه عجز عن السباحة في نصف الفرات فرجع إليهم بالأمان، وأخذوه فقتلوه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلاً، ومضيت لوجهي، فتواريت في غيضة أشية حتى انقطع الطلب عني وخرجت فقصدت المغرب فبلغت أفريقية.

ثم إن أخته أم الأصبغ ألحقته بدراً مولاه ومعه نفقة له وجوهر، فلما بلغ أفريقية لج عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري عامل أفريقية في طلبه، فهرب منه، فأتى مكناسة –وهم قبيل من البربر- فوجد عندهم شدة يطول ذكرها، ثم هرب من عندهم فأتى نفراوة وهم أخواله وبدر معه.

4 – هذا العرض التي استغرق ثلاثة أرباع الصفحة، استغرق أكثر من نصف المسلسل، لأن مهمة المسلسل أن يبرز البطولة والمصاعب والآلام والتضحيات والمخاطر التي عاناها حتى وصل إلى الأندلس، ونجح في إبراز ذلك منذ أن فرّ إلى فلسطين، ومنذ أن تعرف على مولاه بدر إلى أن كشف أمره في غيضة الفرات، وحيث دلّ خادم صاحبه عليه. بل بالغ المسلسل في إبراز ذلك حيث قبض عليه من العباسية وأنقذه خادمه بدر بادعائه أنه سيده، وأخذ يضربه لسوئه، وبالغ أكثر في بعض مخابئه حيث اختفى بين القش وبحث عنه فيه، وصرف الله عنه السوء.

لم يترك المسلسل شاردة ولا واردة من هذه المصاعب إلا جسَّدها وألقى عليها الضوء، ولأن الحقيقة ضخمة فليست بحاجة لكثير من الخيال حتى يبرزها، ويكفي أنه انتزع إعجاب أكبر خصومه فيه، أبي جعفر المنصور الذي أطلق عليه لقب: صقر قريش. فقد كان اختيار شخصية بدر خادمه موفقاً لأبعد الحدود، وكونه هو الذي يذلل له كل الأمور، ويزيل الصعاب، يتصل بالناس، يدعو له في كل مكان، يقوم على خدمته، ينقذه من الموت، ويبقى في نفسية الخادم المخلص المتفاني لكنه ليس مجرد خادم، بل هو شريك في القرار، يستشار في كل شيء، ويشارك في التنفيذ أو يقوم به وحده.

إنه أقرب إلى أن يكون نائبه ومستشاره ويده التي يبطش بها. أقرب منه إلى الخادم، ولولاه بعد عون الله لما وصل إلى الأندلس، ولانتهى أمره في أكثر من موقف. فهاهم قد أسروا جمعاً من اللصوص، وبقي بين ذبحهم وحياتهم لحظات، يطلق الخادم عبقريته ويعرّف الحارس اللص بعبد الرحمن، ويغريه بالقدوم عليه حتى يتمكن من فك إساره بحك القيد الشديد على الصخر، وينقض على الحارس فيقتله، ويفك إسار عبد الرحمن ويفرون جميعاً بما غنموا من اللص. وهو الذي يبعثه عبد الرحمن إلى أخواله في الأندلس ثم إلى موالي بني أمية في قرطبة لينظم الكتائب في السر، إنه شريك كامل للأمير عبد الرحمن في كل شيء له نفسية الخادم وعقلية القائد.

6 – وكما أبدع المسلسل في اختيار شخصية الخادم أبدع تماماً في اختيار شخصية الأمير عبد الرحمن الذي يملك من الثقة بالمستقبل بناءً على نبوءة جده هشام. وانطلاقاً من فهمه الإسلامي لدينه، في أن يقيم دولة موحدة للإسلام تقوم على أركان العدل والشورى، وهذا ما يركز العرض كثيراً عليه، فهذا هو الهدف الماثل بين عيني عبد الرحمن في كل لحظة من لحظات حياته لا يغيب عنه في حله وترحاله في هزله وجده في ساعات راحته وساعات تعبه، تبقى القيم الكبرى تحركه، فلا يجر إلا صغائر الأمور وسفاسفها، ولا يتصرف إلا ما يناسب مقام الأمير بمروءته وخلقه ونجدته وتاريخ أجداده ماثل بين عينيه، ويرى الأحداث العظام التي صنعها أجداده العظام، ولا نراه أخل بهذه القيم إلا عندما أوهم العدو أنه قد صالحه وأوقف الحرب ثم انقض عليه بعد أن أعاشه بالأمان الكامل ثم انقض عليه وقضى عليه.

7 – وفي الجزء الثاني من المسلسل الذي أفرده المخرج لحروبه الهائلة في الأندلس منذ أن وطئتها قدماه إلا أن لقي ربه، وما لقي من المؤامرات والفتن والخروج عليه، وكيف بقي صلب القناة شديد الثقة بنفسه، ينفخ الحياة والأمل فيمن حوله، لا يهادن إلا ريثما ينقض، لا يرتاح إلا ريثما يهاجم، لا يعرف طعم الاستقرار في الحياة إلا كما قال الشاعر في المعتصم:

بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها    تنال إلا على جسر من التعب

بينما يبرز المسلسل خصومه بأنهم يقاتلون بلا هدف، همهم الطمع والسلطة والتمكن، كما يقدم بعضهم بالشخصية الجاهلية في لبوس إسلامي، وكأن الإسلام لم يصل إليه، وهو يعاقر الخمرة، وينطلق من ثارات الجاهلية ومهمة عبد الرحمن أن يفتح القلوب ويفتح النفوس، ولكنه إذا حارب، حارب بعنف وغلظة لا تعرف الرحمة سبيلاً إليه، وهو معذور في ذلك، فلو ونى أو قصر أو ضعف لانتهى، وقضي على بنائه كله.

8 – ونرى ثلاث ملاحظات على المسلسل نختلف فيها مع المخرج والمؤلف.

الملاحظة الأولى: تشويه شخصية الأمير عبد الرحمن الداخل من البطل الفاتح صاحب المبادئ وتحويلها إلى شخصية الحاكم الطاغية، الذي لا يثق إلا برأيه ولا يقدم للمواقع إلا المتزلفين، ويبعد أصحاب الكفاءات ويتعالى على كل من حوله، وأنقل بأمانة انطباع المشاهدين عن ذلك.

فقد كانت ابنتاي قد شاهدتاه قبلي، وبقيت أسمع ثناء عليه، لكنهما في النهاية قالتا: إنه سيئ, لا شيء فيه إلا القتل، وسفك الدماء، والصراع على السلطة.

وعندما ابتدأت أشاهده ومضيت فيه شوطاً طويلاً، بقي يحوز على إعجابي حتى اقتربت من نهايته حيث حضرني الانطباع الذي حضر ابنتاي وذلك من خلال مشهد قتل ابني أخويه وعزل خادمه، لم يعد له أخ يثق به، تخلى عنه كل أحبابه وأنصاره وصاروا يتآمرون عليه.

وأقول لو أن المسلسل خلا من هذه المشاهد الثلاثة لبقي على تألقه وإبداعه وروعته، فالآخرون الذين ثاروا عليه معذور في قتلهم، فوراءهم جيوش وقبائل ودول تسندهم.

الملاحظة الثانية: شخصية بدر التي اختلفت عما كانت عليه في البداية، فقد كان في البداية حتى ثلاثة أرباع المسلسل لا يتجاوز حدوده مهما علا منصبه، وعلت مكانته، لا يجرؤ أن يتهم الأمير أو ينال منه، لكنه ظهر في القسم الأخير من المسلسل أنه قد غرته المناصب وصار قائداً لجيوش الخلافة، والناس حوله يعظمونه ويبجلونه، فارتفعت نفسه ليكون شريكاً لا خادماً، وقائداً لا مولىً، وزعيماً لا رعية وهذا أدى به إلى عزله، وإذلاله وإخافته مما اضطره إلى أن يغادر قرطبة فاراً بنفسه من الذل الذي نزل به.

وتفسير هذه النفسية، وعرض هذا المصير البائس بعد ذلك الجهاد الذي رافقه طيلة حياته، كان تشويهاً لشخصه من جهة ولشخص الأمير عبد الرحمن من جهة ثانية، وما أدري إن كان هناك أساس تاريخي لهذا التغيير أم هو مجرد تصور شخصي.

الملاحظة الثالثة: لاشك أن الدور الذي أبرزه المسلسل لزوج بدر كان في غاية التوفيق، فهي التي أعادته إلى توازنه وأعادته إلى كرامته وشخصيته الحقيقية، ونأت به عن موقع الفتنة، كما أحسن المسلسل في إبراز الأمير عبد الرحمن ومضى يبحث عن خادمه بدر حتى زاره في القصبة التي اعتزل بها، وقد شاخ كلاهما، وراحا يستعيدان الذكريات لكن من دون أن تتغيّر النفوس، وأعادت بدر إلى اضطرابه بعد وفاة زوجه، واعتبار نفسه نداً لعبد الرحمن ولن يذكره التاريخ بأكثر من –خادمه- وكأنما العمل كله هو للمجد والشهرة والذكر وليس فيه لله شيء.

9 – كم كنت أود أن يبرز المسلسل شخص الأمير عبد الرحمن بما وصفه المؤرخون به (فصيحاً، لسناً، شاعراً، عالماً، حازماً، سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ولا ينفرد في الأمور برأيه، شجاعاً، مقداماً، بعيد الفور، شديد الحذر، سخياً، جواداً يكثر لبس البياض، وكان يقاس بالمنصور في حزمه وشدته وضبطه للمملكة) الكامل في التاريخ لابن الأثير 5/280.

لقد حاول المسلسل أن يقدم الأمير في هذه الصفات فنجح بها: لا في (لا ينفرد في الأمور برأيه) فكان أقرب إلى الحاكم الطاغية المستبد منه إلى الحاكم العادل المكثر من الشورى والأخذ بها، وهذا في رأيي ما أفسد صورته المشرقة في التاريخ.

10 – لاشك أن بعض الملاحظات الشكلية لا تؤثر على جوهر المسلسل نشير إليها إشارة عابرة مثل لحية عبد الرحمن التي هي ربع لحية أو أقل. ولم يكن في المجتمع الإسلامي وفي تاريخ المسلمين أمثال هذه اللحى (السكسوكة) إنما هي محدثة من نتاج القرن العشرين. كما أن عَوَرَه كان يظهر حيناً ويختفي حيناً آخر. لكننا نقر بأن إبداع التمثيل الذي قدمه (جمال سليمان) كان على مستوى القمة لهذه الشخصية التاريخية الفريدة.

لقد حكم ثلاثاً وثلاثين سنة وأعاد للإسلام مجده في الأندلس، وهابته رجالات الدنيا، وكان أحد النماذج الخالدة في التاريخ.

مع وافر التحية لأسرة المسلسل كله، ومع أمل تقبل هذا النقد، حتى لا يتكرر في مسلسلات لاحقة.