بحب السيما
بحب السيما
عبد الجليل الشرنوبي
بحب السيما.. وأكرههها عندما تتلصص علي العورات فيلم لا يهاجم المسيحية بل يرفض كل القيود ومنها الدينية أزمة العمل أنه يري العالم من خلف الأبواب المغلقة تكمن أزمة الرؤية التي طرحها «بحب السينما» في طرح بعيد كل البعد عن علاقة الفيلم وصناعه بالكنيسة.. وهذا الطرح هو السعي الحثيث إلي تقسيم الناس إلي متدينين وفنانين وهو ذات الطرح الذي سبق إليه يوسف شاهين في «المصير»,وبالتالي عليك أن تكون ضمن أحد المعسكرين وتصنف نفسك بحسب ما تعتقده من علاقة بينك وبين الوجود, فإما أن تكون الحياة بالنسبة لك هي كل شيء (إبداع وجنس وخمر وتدخين وسخرية من كل مقدس وأي قيمة) أو تتحول إلي ناسك أي(تحرّم السينما والغناء والرسم والضحك وربما الطعام والشراب)..
هذا الطرح
كان المتحكم في وجهة نظر صناع العمل (بحب السيما), وهو
ذاته كان الحاكم في
صناعة فيلمهم السابق (جنة الشياطين) وهنا تكمن الإجابة عن
السؤال البديهي:
لماذا البطل في كلا الفيلمين مسيحي الديانة وليس مسلمًا? الواقع المطروح في (بحب
السيما) ومن قبله (جنة الشياطين) لن يقبله بأي حال طرح
فيلم عربي جمهور
مشاهديه من المسلمين مضافًا إليهم الشريحة القبطية أو المسيحية في عموم العالم
العربي, وبالتالي كان الحل هو الهروب إلي الواقع القبطي
بتداعيات شخوصه مع
عدم تعاظم ردود الفعل علي اعتبار أن ما لن تقبله الكنيسة البروتستانتية
ربما تقبله الكاثوليكية أو الانجيلية وساعتها يمكن
الهروب بما يحمله الفيلم من
اعتراض هذه إلي تلك!
هذا التحليل ليس مجرد رؤية ولكنه واقع صرح به صناع
)جنة الشياطين) عندما اختاروا أن تكون الشخصية المحورية
في فيلمهم (الجثة
التي كان صاحبها اسمه طبل ومجسدها هو محمود حميدة) شخصية قبطي هرب من زيف حياته
الارستقراطية المقيدة بأعراف اجتماعية وتعاليم كنسية إلي
رحابة عالم الغجر
والصعاليك والقوادين حيث لا قيود ولا معايير إلا القوة البوهيمية الصرفة.
ومن
أشد ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم ويثير علامات التعجب حول
دور الرقابة وجود
العبارة الرقابية الخالدة (للكبار فقط) علي «أفيش وتيترات» الفيلم, وباعث
هذا الموقف هو كون أحد أبطال الفيلم طفلاً صغيرًا..
بل ويعتبر هذا الطفل «نعيم» هو محرك أحداث العمل والشاهد عليها كما أنه راوي الفيلم إضافة لكونه صاحب العنوان «بحب السيما».. وهنا أسوق كلمات الكاتب الكبير يحيي حقي قبل (41 عامًا) وتحديدًا في (18 فبراير 1963م) عندما كتب علي صفحات جريدة المساء يقول: فيلم الهمسة الصارخة يُعرضللكبار فقط علي حين أن حوادثه تجري داخل مدرسة ابتدائية وأحد أدوار البطولة لممثلة لا يزيد طولها علي شبرين!!). ثم اختتم حقي مقالته بسؤال: ماذا لو جاءت تلميذات هذه المدرسة ومعهن البطلة الصغيرة وأردن مشاهدة الفيلم الذي قمن هن أنفسهن بتمثيله? أنت تري أن منطق القيد القانوني سيقتضي من هذا الرقيب أن يحرم عليهن الدخول حرصًا علي أخلاقهن من التلوث بهذا الفيلم الذي هو من عجينهن وخبزهن.. ولا يزال الواقع يفرض علي الرقابة أن تتعامل مع المنتَج الفني بلا إدراك تام لطبيعة علاقتها به وبدون قياس لأبعاد مشكلته معها ثم مشكلتنا معهما التي لا يمكن التفاعل معها علي اعتبارها معادلة مشاهدة لا نتيجة صناعة يصلنا منتجها النهائي ومحظور علي الصغار مشاهدته رغم أن أحدهم استعار عيوننا ليسير بها بين عوالم الفيلم). تناقض فيلم «بحب السيما» يبدأ بصوت شريف منير -راويًا بلسان الطفل نعيم بطل أحداث الفيلم- حيث يؤكد أننا في حي شبرا بالقاهرة عام 1966م وبعدها يبدأ في استعراض مكونات بيئته: الأب «محمود حميدة» المسيحي الملتزم جدًا والذي يبدأ يومه بالصلاة والاستغفار, والأم «ليلي علوي» ناظرة المدرسة القلقة دائمًا, والأخت, ثم الجيران «مسيحيون» أيضًا باستثناء «الجنايني».
ثم
تبدأ الأحداث –قبل التيترات- بحوار بين الأب وصغيره حول
حرمة السينما ومن
يشاهدها أو يعمل بها, ويتطور الحوار ليصل إلي شجار بين الأب والطفل بعد
تأكيد الأول أن صغيره من أهل النار!
الشخصيات المحورية في العمل والتي من خلالها
ينساق المشاهد نحو «حب السيما» تتجسد في: «أب» متسلط
بسبب خوفه من دخول النار
وبالتالي يحرّم كل متع الدنيا لكنه في ذات الوقت صاحب مبادئ
تدفعه لمساعدة كل من
حوله والوقوف في وجه ناظر المدرسة الفاسد -لم يقل الفيلم هل هو
مسلم أم مسيحي- وهو
ما يعرّض الأب إلي التنكيل به في مباحث أمن الدولة بسبب وشاية
تتهمه بأنه شيوعي. و«أم» تعاني جمود زوجها وعدم إشباعه
رغباتها وميله لمساعدة
أهله أكثر من التوسيع عليها وعلي أولادها, إضافة إلي دفنه
موهبتها الفنية في
الرسم بدعوي تحريم الفنون. و«أخت للزوجة» كل علاقتها بالحياة تدور في فلك الجنس
وكذلك صديقاتها.
و«حماتين» إحداهما قعيدة ومسالمة والأخري حريصة جدًا
لدرجة أنها تكتب
تاريخ نزول البيضة إلي الحفاضة التي
تلفها علي خاصرة دجاجاتها. وأخ
للزوجة.. محب للفنون وعلي رأسها السينما ويتمني دخول
كلية الفنون الجميلة
لكنه
يفشل بسبب (الثانوية العامة) فيهاجر.
هذه الشخوص الرئيسية نتعرف عليها
بعيني «نعيم» الصبي الصغير الذي يحب السينما علي خلاف
رؤية والده لها,
وفي خضم الصراع بين رغبات الابن وتوجهات الأب يظهر أمام عيوننا -كمشاهدين-
وبعيدًا عن عيني رفيق الرحلة مفتش الموسيقي «زكي فطين»
الذي يرتدي مسوح النضال
الشيوعي مؤكدًا عشقه للفن والحرية رغم بغضه للثورة -ثورة يوليو-
التي نسيته معتقلاً
لأنه شيوعي وعندما خرج وجدها اشترت الرفاق.. فقرر الانكفاء علي الأتيليه
الخاص به.
نظراتنا بعيني الصبي نعيم ساهمت في جعلنا أوقاتًا
كثيرة,نتعرف علي
المفردات المشوهة التي صبهّا الفيلم في نفس
الصبي الصغير ليخرجه مشوهًا يري
دائمًا العالم من بين ثقوب الأبواب حيث لا تبدو إلا
العورات! كما أكسبت
نظرات نعيم الشقية الكثير من الحيوية لإيقاع العمل الذي راح
يعلق كل تفاصيله
الدقيقة علي فضول «نعيم» وبالتالي لانملك -كمشاهدين- الاعتراض علي دخولنا عالم
أسرة الأم بكل مفرداته (بيض الحماة- غراميات الخالة- حب
الخال للفن- صفاقة
صديقات الخالة في الإفصاح عن رغباتهن- وشعر الجد المدهون والمصفف بعناية).. وكذا
وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه مع سقوط النفس البشرية في هوة
رغباتها -وأيضًا
بعيني نعيم- داخل الكنيسة مرة وداخل منزل أسرة الزوجة أخري..
وعلينا أن
نقبل استثمار نعيم ابن السنوات الخمس لكل هذا نظير أن يذهب إلي
محبوبته السيما.عيون
ومن أجل عيون نعيم التي ارتديناها من ساعة دخول قاعة العرض
صار لزامًا علينا أن نتحمل «اللعب مع العيال» مثلما
تحمله المؤلف والمخرج وفريق
عمل الفيلم..
وبناء عليه اندفعنا مع نعيم إلي الأطباء ومعامل التحاليل
لنطمئن علي صحته, كما ذهبنا معه إلي دورة مياه مدرسة أمه لنشاهد موقفه الرجولي مع
الفتاة الصغيرة التي صحبته إلي هناك لتعرض عليه ملابسها الداخلية فيتهمها بقلة
الأدب تمامًا كما حدث مع فريق الصبية الذين كانوا يلعبون بـ«الكوتشينة» المطبوع
عليها صور عارية.. وهكذا راح
الفيلم يلم علينا كل ما استطاع مؤلفه هاني فوزي أن يجمعه من
ذكريات كل الطفولات المجرمة مضافًا إليها تجليات
خياله الخصب ليتم في النهاية صناعة جو عام من السخط موجه إلي كل
ناصح وإلي كل سلطة وإلي كل نظام متبنيًا خطاب المخرج العالمي «لويس بونويل» الذي
كان رائد مدرسة سينمائية شعارها «نحن لسنا إرهابيين لكننا نحارب مجتمعًا نحتقره
وسلاحنا ليس البنادق طبعًا ولكنه التعرية.. وهي عامل قوي في عملية الاكتشاف والفضح
للجرائم الاجتماعية والامبريالية والطغيان الديني باختصار كل الدعائم السرية
والكريهة للنظام الذي يجب تدميره, وبالتالي تكون غايتنا تفجير النظام الاجتماعي
ككل!!.
هذه الرؤية التي طرحها «بونويل وسيلفادور دالي» قبل أكثر من نصف
قرن يحاول اليوم فريق عمل «بحب السيما» إعادة إحيائها من خلال الجمع بين كل مفردات
الرؤية الخاصة بنعيم ليتحول الأب من أداة سلطة دينية في لحظة مكاشفة بعد صدمة
استجواب «مباحث أمن الدولة» إلي شخص محب للحياة «اللذة»
وفي سبيلها يقرر الاستغناء عن كل الممنوعات حتي الطبية ليموت وهو يتلو صلواته
المقدسة! بينما تفيق الأم بعد وفاة زوجها لتحل محله محرقة للصور التي كانت ترسمها
وكان يحرمها.. أما الخالة فتفتح بابًا جديدًا علي العائلة بطلاقها من زوجها الذي
اكتشفت أنه عاطل ولا يملك من مقومات الزوجية إلا فحولته.. كما أن نعيم قرر أن يخطب
أخته لابن الجيران نظير تذكرة سينما علي أن يتم تأجيل الحديث في هذا الموضوع حتي
تكبر الفتاة.. وأخيرًا يموت الجد وهو يتابع مع باقي أفراد الأسرة التليفزيون فتغلقه
ابنته «الزوجة ليلي علوي» لتبكي مع أمها وأختها الأب بينما يعاود «نعيم» فتح
التليفزيون ليضحك مع ثلاثي أضواء المسرح.. وينتهي العمل بين ضحكاته ونحيب الثلاث
نساء.
بحب السيما جمع العديد من المفردات السينمائية التي تؤكد موهبة
صانعيه فنيا, وأبرزهم المخرج أسامة فوزي
والسينارست هاني فوزي.. لكنه في النهاية وضعنا أمام مطالب حثيثة
بضرورة الاستغناء عن الثوابت الاجتماعية
والدينية والسياسية, التي تفرض -من وجهة نظر صناع الفيلم-
قيودًا علي الحياة, وحتي التابوه الفني الذي
تحول إلي تيمات ثابتة في الأعمال «البطل الفقير الذي يحب الفتاة
الغنية والتي بدورها تحمل في أحشائها جنينًا من
علاقة محرمة».. وبالتالي صرنا من خلال «بحب السيما» أمام رؤية
جديدة للحياة بدون قيود, وما علينا في أحلك الظروف إلا أن نتجاهل مَن حولنا أو
نعطيهم ظهورنا ونضحك مع ثلاثي أضواء المسرح!!
«بحب السيما» شريط جديد يضاف إلي العديد من العلب التي تحوي
مشاهد صادمة أو جملاً مثيرة للجدل أو إسقاطات تجافي الواقع وكانت كلها تكرس في
النهاية لـ«تابوه» جديد يعطي لنفسه حق الطرح والنقد والسخرية والازدراء بدون أن
يراجعه أحد وإلا تحول إلي رجعي ومتخلف وضد الإبداع وظلامي.. وبناء علي هذا أعترف
بأنني ظلامي لا أقبل السخرية من دور العبادة حتي وإن كانت بها سقطات بشرية.. ومتخلف
لأنني ضد ظهور امرأة تستحم أو تمارس الجنس علي شاشة السينما.. ورجعي لأن هناك قواعد
وأعرافًا وقيمًا نبت علي أرضها مجتمعنا ويجب ألا تسقط لحساب الرؤي الفنية.. وأخيرًا
«بحب السينما.. لكنني أكره سقطاتها».