مسلسل ( الأزهر الشريف منارة الإسلام )
مسلسل ( الأزهر الشريف منارة الإسلام )
بين الأخطاء التاريخية والروح العنصرية
نجدت لاطة
ذكر الفنان نور الشريف في مقابلة معه أنه يتجه الآن إلى المسلسلات التاريخية التي تُعيد إلى ذهن المشاهد العربي الشخصيات التي لعبت دوراً مهماً في الحضارة الإسلامية. وقد قدّم شخصيات مثل : هارون الرشيد وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن العاص.
وجميل جداً أن يُقدّم في وقتنا الحاضر مثل تلك المسلسلات، لأن فيها نوعاً من التذكير بماضي هذه الأمة. ولكن بشرط أن تكون أحداث هذه المسلسلات متطابقة مع التاريخ الحقيقي لها دون أدنى تزييف.
وقد اتجه ـ أيضاً ـ بعض الفنانين والمخرجين إلى المسلسلات التاريخية، يُقدّمون صوراً أخرى من حضارتنا. ولعل المسلسل ( الأزهر الشريف منارة الإسلام) أبرز تلك المسلسلات التي عُرضت في بعض الشاشات العربية.
وجامع الأزهر واحد من تلك المنارات العلمية التي ظهرت عبر التاريخ الإسلامي هنا وهناك, والتي كان لها دور كبير في نشر العلم وبث روح الجهاد والمحافظة على روح الحضارة الإسلامية... وهناك جامع الزيتونة في تونس، والمدرسة النظامية في بغداد وغيرها. ولكن الجامع الأزهر هو المنارة الباقية لنا في هذا الزمن الصعب. أما بقية المنارات فقد خفت صوتها, وبعضها لم يعد لها وجود.
والكوادر الفنية التي قدّمت مسلسل ( الأزهر الشريف منارة الإسلام ) عالية المستوى، يصعب على الناقد الفني أن يكتشف فيها خللاً أو ضعفاً, لاسيما أن إخراجه من قبل المخرج الكبير أحمد الطنطاوي صاحب المسلسلات التاريخية الدينية المشهورة كمسلسل ( محمد رسول الله ) وغيره. لذا لم يكن حديثي يتناول تلك الجوانب الفنية في المسلسل. وإنما سيكون الحديث عن الأخطاء التاريخية المتعمدة من قبل كاتبة القصة والسيناريو أمينة الصاوي، ثم الكشف عن الروح العنصرية المهيمنة على أحداث المسلسل.
لقد كانت أمينة الصاوي تُركّزُ في الأدوار الوطنية على العنصر المصري دون العناصر الأخرى التي خدمت مصر كجمال الدين الأفغاني وسليمان الحلبي ومحمود سامي البارودي والمماليك والأتراك. وإن مَن يُريد أن يكتب عن تاريخ مصر الحديث ولا يذكر الإمام جمال الدين الأفغاني يكون قد قلب هذا التاريخ رأساً على عقب. لأن مصر الحديثة لم تشهد ثورة فكرية إلا بعد مجيء الأفغاني. وكل الذين جاؤوا بعده كانوا عالةً عليه، وكلهم نهلوا من منهله، فمنهم من تابع طريق الأفغاني ولم يزد عليه شيئاً كالإمام محمد عبده ومحمد رشيد رضا، ومنهم من أضاف له كالإمام حسن البنا رحمه الله، ومنهم من تفتّح ذهنه في فكر الأفغاني إلا أنه غيّر وبدّل كأحمد لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين وغيرهم.
في النصف الأول من المسلسل تمّ التركيز على فكرة خيانة المماليك للشعب المصري ووقوفهم مع نابليون بونابرت في تثبيت دعائم حملته في أرض مصر. وكان ذلك من خلال توظيف بعض المماليك كجواسيس على الشعب المصري وعلى المقاومة الوطنية.
وأنا لا أنكر أن بعض ضعاف النفوس من المماليك قام بالتجسس لصالح نابليون، ولكن حين نُظهر ذلك للمشاهد دون أن نُظهر العناصر الوطنية من المماليك ـ وهي كثيرة العدد ـ التي وقفت مع الشعب المصري نكون قد ظلمنا هذه العناصر وأسأنا إلى المماليك الذين هم مسلمون مثلنا وشأنهم شأن الأقوام الأخرى من المسلمين.
وأمينة الصاوي لم تذكر جاسوساً مصرياً واحداً عمل لصالح نابليون، وكأن المصريين شعب الله المختار لا يعرف الشيطان إلى نفوسهم طريقاً. فكأنها ـ أي أمينة ـ نسيت أو تناست أن الصحف المصرية الحالية تطالعنا بين الحين والآخر عن القبض على جاسوس مصري يعمل لصالح إسرائيل، حتى وصل الأمر في أيام الستينيات أن جمال عبد الناصر وجه كلمة عبر الإذاعة والتلفزيون إلى المصريين الذين باعوا نفوسهم للشيطان وعملوا لصالح إسرائيل كي يتوبوا، وأن الحكومة لن تعاقبهم في حال تسليم أنفسهم لها.
فأريد أن أقول إن كل قوم فيهم الصالح وفيهم الطالح، ولا يجوز أن نعلي من شأن قومنا على حساب الآخرين.
مشكلة الكاتبة أمينة الصاوي أنها تكتب عن تلك المرحلة الزمنية بفكر قومي لا يمت إلى الإسلام بصلة. بينما كان الناس آنذاك يعيشون كأمة واحدة عرباً ومماليك وأتراكاً. فلم تكن بينهم تلك النظرة العنصرية الموجودة في ذهن أمينة الصاوي، لأن الكل كان يعيش تحت ظلال الخلافة الإسلامية العثمانية. والدليل على ذلك أن علماء الأزهر هم الذين أرغموا الباب العالي في الأستانة على تولية القائد التركي محمد علي باشا على مصر كما هو معروف في كتب التاريخ وكما ظهر في المسلسل.
والمماليك الذين تريد أمينة الصاوي أن تشوه سمعتهم يكفيهم فخراً أن يجمع المفكرون الإسلاميون ومنهم الدكتور عماد الدين الخليل على أنهم حموا الشواطئ الجنوبية للبلاد العربية من هجمات الاستعمار الإنكليزي والاستعمار البرتغالي خلال قرنين من الزمان.
وفي النصف الأول من المسلسل أيضاً لم تذكر أمينة الصاوي جنسية سليمان الحلبي الذي قام باغتيال القائد الفرنسي كليبر، ولم تظهره يتكلم بلهجة أهل بلده، ففهم المشاهد أنه مصري ابن مصري، مع أن سليمان الحلبي ليس كذلك، فهو طالب سوري جاء إلى مصر للدراسة بالأزهر. وحين اشتدت قساوة القائد كليبر على المصريين قام باغتياله. وقد عاقبه الفرنسيون بالموتة الشنيعة المعروفة.
ولو أن الكاتبة أمينة كتبت قصة المسلسل بروح غير عنصرية لَما تضايق أحد من إظهار سليمان الحلبي مصرياً، ولكن بما أنها كتبت القصة بهذه الروح العنصرية المقيتة كان لابد من التنويه بجنسية هذا البطل كي يعرف القارئ حجم تلك العنصرية التي كُتبت بها قصة المسلسل.
والنصف الثاني من المسلسل كان يحكي عن الأحداث التي وقعت في زمن أحمد عرابي الزعيم والثائر المعروف. وقد تطرقت الكاتبة إلى الإمام محمد عبده كثيراً حتى جعلته أحد أبطال هذا النصف من المسلسل، وهو يستحق ذلك. إلا أنها ـ أي الكاتبة ـ لم تتطرق بتاتاً إلى الإمام جمال الدين الأفغاني، مع أن الاثنين كانا رفيقي درب واحد. ولكن بما أن الأفغاني ليس مصرياً كان لابد من حذفه ونسفه من المسلسل كي تتشكل الروح العنصرية في نفسية المشاهد.
وقد يقول قائل : إن المسلسل خاص بالشخصيات الأزهرية التي منها الإمام محمد عبده، فكان لابد من التركيز عليه، أما الأفغاني فلم يكن من علماء الأزهر، لذا تمّ حذفه. فأقول إن الكاتبة ذكرت شخصيات كثيرة ليس لها علاقة بالأزهر وأسندت لهم أدواراً مهمة كأحمد عرابي وغيره. والسبب في ذكر تلك الشخصيات أنها مصرية، أما الأفغاني فلم يكن مصرياً.
وكل الذي فعلته الكاتبة بخصوص الأفغاني أنها ذكرته على لسان أحد أبطال المسلسل بشكل قصير جداً لا يسمن المشاهد ولا يغنيه من جوع. وهذا خلل تاريخي كبير وإجحاف بحق الأفغاني. لأن هذا الإمام الكبير هو الذي فتح عقول علماء الأزهر على ما يدور من مؤامرات على مصر، وهو الذي أشعل الشرارة في العالم الإسلامي أجمع، حتى أن الاستعمار الإنكليزي الذي كان مسيطراً على مصر شعر بخطورته فأخرجه هو وتلميذه محمد عبده من مصر.
وفي هذا النصف من المسلسل أيضاً لم يأتِ ذكر الشاعر الكبير محمود سامي البارودي، والسبب أصبح معروفاً وهو عدم كونه مصرياً، وإنما هو شركسي. مع أن الأديب محمد حسين هيكل كتب في تقديم ديوان البارودي : ( كان محمود سامي البارودي جركسياً كغيره من الجراكسة محبوباً من المصريين محباً لهم، بل كان موضع رجاء العسكريين منهم في رفع الحيف النازل بهم. وكيف لا يحبه المصريون جميعاً وقد تغنى بحب مصر ما تغنى، ووصف من جمال مصر ما لم يسبقه أحد إليه، وقد صوّر هذا الجمال في دقة تدّل على إخلاصه وصدق محبته ). ولكن الكاتبة أمينة من القوم الجاحدين.
وكان البارودي وزيراً للحربية في عهد الخديوي توفيق، ثم أصبح رئيساً للوزراء. وحين قامت ثورة أحمد عرابي كان من ضمن ثوارها الكبار، وحين قضى الإنكليز على هذه الثورة حكموا عليه وعلى أحمد عرابي وغيرهما بالنفي إلى جزيرة سرنديب الهندية. وعاش البارودي هناك سبعة عشر عاماً ثم عاد إلى مصر ومات فيها.
وفي الختام أتساءل : هل مصر بحاجة إلى عنصرية أمينة الصاوي؟ أليست لمصر الريادة في العالمين العربي والإسلامي؟ ألم يخرج منها كبار علماء الأمة في العصر الحديث؟ بالإضافة إلى كبار الأدباء والشعراء والفنانين والمقرئين. بالإضافة أيضاً إلى ما حباها الله من موقع جغرافي ممتاز، فهي تطل على بحرين ويمرّ فيها أكبر أنهار العالم، وتزدحم فيها أروع الآثار التي خلّفتها العصور القديمة. فمصر ليست بحاجة إلى عنصرية أمينة الصاوي.
فحين نكتب للمسلسلات التاريخية لابد أن نراعي كل جوانب ذلك التاريخ، فلا نعلي من جانب على حساب جانب آخر. وإلاّ فقد شوهنا الماضي، وانتفى الغرض من استعادة التاريخ وأحداثه إلى ذهن المشاهد.