زهديات أبي نواس غائبة عن النشيد الإسلامي

زهديات أبي نواس

غائبة عن النشيد الإسلامي

نجدت لاطـة

ديننا الإسلامي الحنيف يعلّمنا أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها من غيره، حتى ولو صدرت هذه الحكمة من فاجرٍ أو كافرٍ أو جاهلٍ أو مجنون.

وأبو نواس الذي هو أشهر من نار على علم، هو ـ بشهادة الكل ـ أفجر شاعر عربي، في القديم والحديث، ويكفي أن يُذكر اسمه حتى يتبادر إلى الأذهان كل صور المجون. ولكن أبا نواس تاب في أواخر حياته وكتب أشعاراً في التوبة والزهد والابتهالات عبّر من خلالها عن صدق توبته وشدة ندمه على ما فرّط في أيامه الماضية. وقد اصطلح النقاد على تسمية شعره الذي قاله بعد التوبة بالزهديات.

وبما أن أبا نواس كان شاعراً مبدعاً ومن الطبقة الأولى من الشعراء فقد أجاد في كلا الشعرين: المجون والزهد . ومن هنا استنتج النقاد والدارسون على أن أبا نواس كان صادقاً في توبته، لأن الشاعر كلما كان منفعلاً بما يقول كان أقدر على التعبير عن خوالج نفسه.. وقد يعجب القارىء حين يعلم أن أجمل ابتهال في تاريخ الشعر العربي كله قاله أفجر شاعر عرفته اللغة العربية وأعني أبا نواس، وذلك في ابتهاله الذي قاله حين كان يطوف بالبيت الحرام في أيام الحج :

إلهنــا  ما  أعدلك         مليك كل مـن  ملك

لبيك  قد  لبيت   لك         لبيك  إن  الحمد  لك

والملك لا شريك لك

والليل  لما  أن  حلك         والسابحات في  الفلك

على مجاري المنسلك         ما خاب عبـد   أملك

أنت لـه حيث  سلك          لولاك يـا رب هـلك

يا مخطئاً مـا أغفلك         عجل  وبـادر   أجلك

واختم   بخير  عملك         ولا تـسوف   أمـلك

لبيك   إن الحمد  لك          لبيك  قـد  لبيت  لك

فهذا الابتهال الجميل في النظم والبديع في المعنى ينبغي أن يتبارى فيه المنشدون فيضع كل واحد منهم لحناً له وينشده بصوته. وصحيح أن المنشد " أبو الجود " قد أنشده في شريطه الثالث ولكن هذا لا يكفي, لأنه من حق القصائد الجميلة أن تُغنى بأكثر من صوت.

وهناك قصائد جميلة أخرى لأبي نواس لا تقل روعة عن الابتهال السابق, من ذلك قول أبي نواس وهو يناجي ربه ويرجوه أن يغفر له زلاته فيما مضى:

يا ربّ إن عظمتْ ذنوبي كثرةً         فلقد علمتُ بأن عفوك  أعظم

إن كان لا يرجوك إلا   محسن        فبمن يلوذ ويستجير   المجرم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً        فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

مالي إليك وسيلةٌ إلا    الرجـا        وجميل عفوك.. ثم إن  مسلم

وفي مناجاة أخرى يناجي أبو نواس نفسه بعدما أثقلت الذنوب كاهله فلم يعد يحتمل ذكرها وشخوصها أمام عينيه في ليله ونهاره:

يا نواسـيُّ    توقّرْ          وتجمّل  و  تصّبرْ

ساءك الدهر بشيءٍ           وبما سرّك   أكثرْ

يا كبير الذنب  عفو          الله من ذنبك  أكبرْ

حقاً إن الواحد منا ليعجب كيف تحوّل هذا الشاعر الكبير من هاوية المجون إلى قمة التوبة والندم، فنجده يتفنن في استخراج المعاني التي لو قيلت أمام ملك جبار لرحم صاحبها, فكيف إذا قيلت أمام الإله الرحيم الذي كتب على نفسه الرحمة وأن الرحمة تسبق غضبه؟

وهناك قصائد كثيرة لأبي نواس مبثوثة في ديوانه, وهي بجملتها تحكي سيرة حياته بعد التوبة، وهي تستحق بل ينبغي على المنشدين أن يترنموا بها .

والذي أريد أن أقوله إنه ينبغي على منشدينا أن يبحثوا في الشعر القديم فيستخرجوا منه القصائد العظام التي دونها الشعراء فيما مضى . لأنه ـ وبصراحة ـ توجد مآخذ كثيرة على النشيد الإسلامي, من هذه المآخذ ضعف الكلمة . بمعنى آخر إن منشدينا لا يجيدون اختيار الكلمة, بسبب ضعف الثقافة الأدبية عندهم .

والمطربون والمطربات في عصرنا الحالي غنوا قصائد قديمة، وكان تناولهم لها رائعاً، فقد أجادوا وأبدعوا، فأم كلثوم غنّت قصيدة (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر) للشاعر أبي فراس الحمداني، وفيروز غنّت قصيدة ( يا ليل الصبّ متى غده ) للشاعر الحصري، وكان لهاتين الأغنيتين شهرة كبيرة.

فالشعر العربي القديم يحمل في طياته قصائد نفيسة، ولكن المشكلة في منشدينا الذين لا يجهدون أنفسهم في استخراج هذه النفائس. لذا أنا أخشى أن يتحوّل بعض منشدينا إلى تجار بالكلمة واللحن فتصيبهم صرعات أهل الغناء والموسيقى . أرجو أن ننظر إلى النشيد على أنه جهاد بالكلمة كما قال شيخ المنشدين محمد أمين الترمذي.