حمام القيشاني أحسن .. وأساء

عبد الله عيسى السلامة

الإساءة إلى رموز الأمة لا تبررها الرؤية الفنية

حمّام  القيشاني أحسن  .. وأساء

 (انطباعات مشاهد)

بقلم : عبد الله عيسى السلامة

1 ـ أحسن " الحمّام " إذ فتح الباب واسعاً ، أمام التاريخ العربي الحديث كي يلج عالم " الدراما " فتتعرف الأجيال على لمحات من تاريخها ومن حياة زعمائها وصناع قراراتها وتربط الأسباب الراهنة بمسبباتها السالفة .

2ـ وأساء إذ نقل الصراعات العربية الساخنة ـ أعني الراهنة ـ ذات الطابع المستمر على المستوى الفكري في أقل تقدير نقلها إلى عالم الدراما ففتح بذلك بـاباً جديداً من أبواب الصراع السياسي والإعلامي وبـاب تقـاذف التهم السيـاسـية التـاريخية عبر الفن الـدرامي التلفزيوني وكأن الأمة العـربية لم تعد تكفيها وسائل الإعلام الحالية من صحف ومجلات وأجهزة بث مـرئي ومسموع للاطلاع على مـا تتبادلـه الزعامـات العربيـــة مـن اتهامـات وظنون فجاءت الدرامــا لتكمـل هـــذه "السمفونية" البائسة .

إن المغفور له الملك عبدالله بن الحسين علم من إعلام هذه الأمة في تاريخها الحديث .. وكذلك المغفور له عبد العزيز آل سعود فماذا يتوقع الإخـوة الكرام صناع حمام القيشاني من الدراما الأردنية والدراما السعودية غير أن تبادر إلى الأخذ بمبدأ المعاملة بالمثل فتتناول الشخصيات السـورية الحية أو الميتة ذات التأ ثير المستمر في صناعة الواقع الراهن ..  بأساليب مشابهة من الاتهام والتجريح .. ثم تتسع الدائرة لتشمل فن الدراما العربي كله ليطبق بحقها من القوانين العربية مـا يطبق على الصحف والمجلات وسائر الأوعية التي تتضمن سياسات صريحة مباشرة فتحرم الأمة أحد العناصر القليلة الباقية التي يمكن أن تسهم في تعزيز وحدتها الفكرية والثقافية !

3ـ   أحسنت هيئة الحمّام " مجموعة العمل التي نفذته من كاتب ومخرج وممثلين"  حين اعتذرت للناس يوم عيد الفطر على شاشة التلفزيون بأن هذا العمل إنما هو رؤية فنية لبعض أحداث التاريخ ومجرياته وشخصياته ولم يكن العمل تاريخاً أو وصفاً للتاريخ  .

4 ـ   وأساءت مجموعة العمل ـ عن غير قصد فيما نحسب ـ حين تصورت  أنها يمكن أن تتناول شخصيات تاريخية ذات وزن وأهمية وربما تعظيم في نظر الكثيرين من أبناء الأمة أن تتناولها بطريقة تسيء إليها وإلى أبنائها وأحفادها .. بحجة أنها تعرض رؤية فنية لبعض جوانب التاريخ  وأحداثه وأشخاصه .

إن أي بحث تاريخي حول شخصية ما ، لن يكون له واحد في الألف من التأثير الذي تتركه الدراما في ذهن المشاهد ، فقرّاء التاريخ قلة لا يتجاوز عددهم المئات ومشاهدو الدراما يعدّون بالملايين صغاراً وكباراً متعلمين وأميين .. 

يضاف إلى ذلك أن البحث التاريخي يمكن الرد عليه علمياً وتنفيد ما فيه من هفوات على أيدي رجال مختصين .. أما " الرؤية الفنية " فيصعب أن يرد عليها ببحث تاريخي مدقق ومؤصل لأن صاحبها رفع فوقها ببساطة لافتة " رؤية فنية " وفي هذا من الخطر ما فيه على عقول الأجيال مضافاً إليه الذرائع اللاحقة لدى أصحاب " الرؤى الفنية " الأخرى التي لن تتوانى عن عرض " رؤاها " بطريقة تشفي غليلها من أصحاب الرؤية الأولى التي مست بما لا يحسن المس به من شخصيات يجلها أصحاب " الرؤى اللاحقة " ، أهذا هو المطلوب ؟  لا نظن .

5 ـ أحسن الحمّام في عرض نفسه فنياً و أجاد : إخراجاً ، و تمثيلاً ، و على سائر المستويات الفنية الأخرى .

6 ـ أساء الحمّام فكرياً و موضوعياً حين أظهر مجموعة من الأحزاب الناشئة ذات الشـعبيـة الهزيلـة فــي تلك المرحلـة التاريخيـة حين أظهر أنها " مالئـة الدنيا ..

و شاغلة الناس " في حين أن بعضها لم يمض على تأسيسه أكثر من سنتين أو ثلاث .

فإذا كان الحزب الشيوعي قد مضى عليه ثلاثون عاماً و هو يحكم روسيا ، حين بدأت أحداث القسم الثاني من مسلسل " حمّام القيشاني " عام 1947 فمنذ متى دخل هـــذا الحزب إلــى بلادنا ليكون له هـــذا الزخم و التأثير فـي حياة سـورية السياسـيـة

و الاجتماعية ! ؟

و متى أُسس حزب البعث ليكون له هذا الزخم في الحياة السورية عام 47 و ما تلاها حتى عام 95 ؟ ألم يؤَسس هذا الحزب في النصف الثاني من الأربعينيات سنة 1947 ؟

       و منذ متى أُسس الحزب القومي السوري ؟ ألم يؤَسس في المرحلة نفسها تقريباً قبيل البدء بأحداث الحمّام و بفترة قصيرة ؟

فكيف ملأت هذه الأحزاب ساحة المسلسل كله " الفصل الثاني ـ أو القسم الثاني منه " ؟ وأية معجزة هذه التي جعلت ثلاثة أحزاب قصيرة العمر غريبة عن تاريخ الشعب وتراثه وثقافته وأخلاقه في تلك الفترة تتعملق وتهيمن على ساحة العمل السياسي والاجتماعي على طول المسلسل وعرضه ! ؟

7 ـ أحسن الحمّام حين أشار إلى الحركة الإسلامية ـ الإخوان خاصة ـ إشارات غير حاقدة فذكر اسم الشيخ مصطفى والمقصود السباعي رحمه الله ومجلة " المنار "

والشهيد حسن البنا  .. ذكر هذه الأسماء دون حقد أو تشنج مقراً بأن الحركة الإسـلاميـة جزء أصيل مـن تكوين المجتمع السـوري  ،  وأنها حركـة إيجابيـة فاعلـة

" وربما لا تقل كثيراً أصالة وانتماء عن الأحزاب العملاقة الأصيلة الثلاثة ( !) الشـيوعيـة ,  البعث ، القومي السـوري الاجتماعي  .. فـــي نظر صناع المسـلسـل "

إلا أن حجم الإخوان كان هزيلاً فيما يبدو في نظر هؤلاء " المنصفين " أصحاب الحمّام برغم أن حركة الإخوان دخلت سورية منذ عام 1937 أي قبل بدء مسلسل الحمّام بعشر سنوات ! لا عجب ، فالدنيا " أرزاق " كما يقولون ! البعث يملأ الساحة عام تأسيسه ، و الإخوان يظلون هامشين معزولين تمثلهم في المسلسل شخصيات هزيلة " دراويش " !

و لقد كان الإنصاف يقتضي سدنة ( الحمّام ) أن يعود برغم رؤيتهم الفنية الخاصة إلى التاريخ الفعلي لسورية و إلى حركة السباعي رحمه الله في تلك المرحلة و إلى النشاط الفعلي لجماعة الإخوان في المنتديات الثقافية و السياسية " و لا سيما الجامعة " ليروا التاريخ على حقيقته ، ليعززوا رؤيتهم الفنية ، و يكسبوها المزيد من الصدقية و الموضوعية ..

و لربما نلتمس لهم عذراً في هذه النقطة و نتوقع أن لسان حالهم يقول : " لا تحرجونا .. ليس بالإمكان أبدع مما كان .. فالمسلسل صنع في مرحلة غير المرحلة التي اشتركتم فيها في صنع أحداثه .. و لكل مقام مقال .. و قليل من الإنصاف ، خير من لا إنصاف " .

8 ـ أحسن المسلسل في إدارة الحوارات السـياسـية و الاجتماعية عبر أبطاله .. و أحسن فــي إدارة الصراعات فنياً ، و أحسن فــي كشـف أنماط الزيف و التضليـل و الفساد التي كانت تمارسها أجهزة القمع فـي تلك المرحلة من خلال " بهجة رماح "

و " نذير أبو الورد " و أمثالهما ..

9 ـ و أساء المسلسل في الإكثار من قصص الغرام التي لم تكن المرحلة تحتملها بهذا الزخم و بهذه الأساليب فضلاً عن أن حياة التبرّج و السفور و الاختلاط الشديد الواسع لم تكن معروفة في سورية في تلك المرحلة حتى في الأحياء الراقية !! صحيح أنها كانت قد بدأت بالدخول إلى المجتمع السوري في بدايات هذه المرحلة إلا أنها كانت محصورة في إطار ضيّق لا تتعداه .

10 ـ و في الختام : أحسن المسلسل كثيراً ، إذ تجاوز هفواته التي وقعت في فصله الثاني ـ قسمه الثاني ـ إذ تجاوزها في قسمه الثالث الذي وعدنا به و لا سيما الإساءات التي أُلصقت ببعض رموز الأمة الأموات أو الأحياء .

إذا كان من غير الممكن إزالة الإساءات فنياً ـ بصورة تبريرية أو تفسيرية ـ داخل القسم الثالث فإنا نطمح أن تتقدم هيئة المسلسل الكريمة باعتذارات لطيفة لبقة في صحيفة ما و لو جاءت تبريرية و ذلك لحرصنا نحن أبناء هذه الأمة أن نرى المسلسل السوري يعرض في سائر التلفزيونات العربية دون منع أو حظر .. هذا من ناحية .. و من ناحية أخرى لسد باب الذرائع أمام صناع الدراما في العالم العربي الذين قد يلجأ بعضهم لا سـمح الله إلـى المعاملة بالمثل ، فتتقطع وشـائج الفن الراقي  و تتقطع معها الوشـائج النفسـيـة  ،  التـــي نريدها أن تقوى و تشـــتد و تزداد لحمـة و تماسكاً . و هذا مجرد اقتراح ودّي من مشاهد معجب بالمسلسل و لأسرة حمّام القيشاني منا كل الشكر و التقدير .