قمر الزمان

قمر الزمان

يوسف علاري

[email protected]

أُقيم معرض لوحات فنيّة للفنانة كشكول -إحدى الفنانات العرب- في رابطة الكتّاب "......."

كنت آنذاك صديقاً لرئيس الرابطة، وبحكم الصداقة دعاني لحضور المعرض. شاهدت لوحات الفنانة كشكول .. وشاهدتها وهي تشرح للجمهور عن لوحاتها، وعن تاريخها الفني. في الحقيقة وجدت الفنانة أجمل بكثير من لوحاتها، ووجدتها أصغر من أن يكون لها تاريخ فني، عرفت فيما بعد أنه بسبب جمالها أُقيم المعرض.

 بعد أن انتهت من عرض لوحاتها توجهت أنا والفنانة -كل على حددة-  إلى مكتب رئيس رابطة الكتّاب، فاستقبلنا بترحيبٍ حار. وكان يجلس في مكتبه الصحفي والناقد الفني البارز )تيسير...( بارك هذا الأخير للفنانة نجاح المعرض، وهنأها على عبقريتها في فن الرسم، وذوقها الرفيع، وإحساسها المرهف، و.. و... و ... ثم قدم لها عرضاً مغرياً لبيع إحدى لوحاتها وهي صورةٌ لوجه فتاةٍ رسمتها الفنانة كما قالت من وحي خيالها. سألتْه: من المشتري؟ فأجاب: أحد رجال الأعمال. فوافقت على البيع. اشترط تيسير أن يأخد نسبةً قدرها عشرون بالمائة من ثمن اللوحة فوافقت على ذلك. فوجئتُ -في ذلك الوقت- أن يلعب صحفيٌّ كبير، وناقد لامع دور سمسار في بيع لوحة فنيّة، لكنني عذرته على ذلك فقد يكون محتاجاً.

 ثم توجهنا جميعاً إلى المعرض وطلب تيسير من كشكول أن يسمي اللوحة "قمر الزمان". فوافقته على الاسم، فأخذ اللوحة ليعرضها على المشتري، وذهبتُ معه كطرفٍ محايدٍ لأشهد على البيع بينهما. وبعدما تمّ البيع أخذ تيسير نسبته من ثمن اللوحة وأخذت كشكول باقي المبلغ. هنا انتهت قصة بيع لوحة "قمر الزمان".

 بعد يومين اتصل بي صديقي رئيس رابطة الكتاب، وطلب مني المجيء إلى الرابطة لحضور ندوة حول الفن التشكيلي المعاصر، ذهبتُ في الموعد المحدد، ففوجئت بالكم الهائل من الصحفيين والإعلاميين وبعض رجال الأعمال وأساتذة الجامعات المتواجدين في الرابطة. اعتقدت للوهلة الأولى أن الرابطة مستضيفة أحد الرساميين العالميين أو أحد أبرز رواد الفن التشكيلي والتصوير. أخذت مكاني بين الحضور أمام المنصة التي اعتلاها ثلاثة أشخاص ليديروا الندوة وهم شاعرٌ وأستاذ جامعة محلية، ناقدٌ فنيٌّ لامع، وأديبٌ كبيرٌ ومرموق. كم كانت دهشتي عظيمة في ذلك الوقت عندما علمت أن الندوة خصصت للوحة "قمر الزمان" التي اشتراها رجل الأعمال الذي كان يجلس بجانب تيسير وكشكول، وقد بدت السعادة الغامرة على وجوههم، وهم يتجاذبون أطراف الحديث قبل بدء الندوة، وبدا الانسجام الخفيّ بين رجل الأعمال المسن والفنانة الشابة، لأدركَ حينها السبب الحقيقي وراء شراء اللوحة. وما أن بدأت الندوة حتى أفقتُ من دهشةٍ لأدخل في حالة من الذهول لم تمرّ بي قبل تلك اللحظة قط؛ عندما علمت أن وجه الفتاة - التي قالت كشكول أنها من وحي خيالها- أصبح بقدرة قادرٍ وجه أهم المناضلات الثائرات في التاريخ البشري، وأن هذه المناضلة التي اسمها "قمر الزمان" دفعت روحها ثمناً لتحرير المرأة من العبودية، والاضطهاد في القرن السابع عشر في أوروبا، وأن هذه المرأة سطّرت بدمها أعلى درجات الشهادة بعد أن سُجنت وعُذبت أبشع أنواع التعذيب. وأنها جعلت قضية تحرير المرأة قضيّة عالميّة ما زالت تُناقش إلى اليوم. كاد أستاذ الجامعة الشاعر أن يذرف الدموع من شدة تأثره وهو يسرد قصة البطلة الشهيدة "قمر الزمان" معدداً مناقبها وبطولاتها واصفاً إياها بالنبراس الذي استمدت منه نساء الأرض حريتهنَّ. ثم دار النقاش بين الحضور المتسائل وأستاذ الجامعة المجيب حول عظمة وإرادة وعبقرية تلك الفتاة الشهيدة "قمر الزمان" وأكد الأستاذ مراراً وتكراراً أن هذه الصورة التي رسمتها الفنانة كشكول صورة نادرة لا تقدر بثمن، إذ رأتها مرسومةً على جدار إحدى البلدات القديمة في أوروبا فأعادت ذكراها برسمها لها.

  بعد انتهاء الندوة .. بدأ المزاد على قمر الزمان ......