مسرحنا بين التأسيس والتجنيس
د. حبيب بولس *
*السؤال الذي ينهض ويتبرعم ماذا مع مسرحنا المحليّ؟ أين يقف؟ هل نحن راضون عنه ومما يقدمّه؟ هل هو في تطوّر يواكب المستجدات ويرقى الى ذائقة فنية مقبولة؟ *
لا يخفى على أحد ما للفن المسرحيّ من دور كبير في رفع المستوى الثقافي والحضاري للشعوب، ذلك لأن المسرح هو لقاء الانسان بالانسان على ارض المعاناة والبهجة، لقاء حي واشتباك حميم مع احداث ومواقف.
هو حضور جدّي/ فكري/ وجداني وحضور موضوعي في هذه الاحداث والمواقف، وحضور ذاتي بفضل هذه الاحداث والمواقف.
انه لقاء الانسان بنفسه عبر لقائه مع الآخرين، ولقاء الانسان بالانسان في المسرح هو لقاء الانسان بجوهر انسانيّته.
والمسرح مهما كان نوعه وتوجهه اذا لم يمنحنا شيئا، يكفيه ان يَسْلبنا شيئا. والمقصود انه يسلبنا بعض همومنا فنسترد قوّتنا على مجابهة الحياة وشق سبيلنا فيها لاننا في المسرح نعايش تجارب الآخرين، واذا كنا لا نستفيد مباشرة من التجارب الانسانية في المسرح، الا اننا لا بد من ان نستفيد منها عن طريق غير مباشرة، وهو الفهم السليم للحياة ودوافعها الخفية والظاهرة، وحقيقة الخير والشر ونتائجهما.
من هنا يمكن ان اقول ان المسرح من الممكن ان يصبح وسيلة لتهذيب البشر عن طريق فهمهم لانفسهم وللحياة. اضافة الى هذه الوظائف الشعورية هنالك وظائف اخرى تتحقق في اللاشعور كقضية الكثارسس (التطهير) التي تحدث عنها أرسطو. اخلُص مما تقدّم الى ان للمسرح دورا هاما في التنفيس عن النفس وفي تحريرها من رغباتها المكبوتة، والسؤال الذي ينهض ويتبرعم بعد هذا الكلام ماذا مع مسرحنا المحليّ؟ أين يقف؟ هل نحن راضون عنه ومما يقدمّه؟ هل هو في تطوّر يواكب المستجدات ويرقى الى ذائقة فنية مقبولة؟
للاجابة سنضطر الى التأشير ولو بنظرة طائرة الى ما كان عليه المسرح سابقا لنرى الى تطوّره. وللحقيقة الموضوعية اقول: انه ما من فن ينشأ من فراغ وفي فراغ، بل لا بد لهذا الفن كي يرسخ ويتطوّر من جذور يعتمد عليها ويستلهما ويستمد منها، لا بد له من مرجعية، من تجارب سابقة في نفس المضمار. واذا عدنا الى ما كان عليه فن المسرح قبل النكبة، إبانها وبعدها وصولا الى السبعينيات واوائل الثمانينيات من القرن الماضي، نجد ان هذا المسرح رغم كل الملابسات والعوائق ورغم صعوبة المرحلة وحساسيّتها استطاع ان يضع له قدما على ارض لاهبة مليئة بالحصى وبالبثور وبالندوب، كما انه استطاع ان يشق له مكانا متواضعا في حياتنا الثقافية الفنية بجهود جبّارة رغم شح الموارد المادية، كما استطاع ايضا ان يجذب جمهورا لا بأس به من المشاهدين. ولكننا ما ان نصل الى اواخر الثمانينيات وما بعدها حتى نجد تراجعا وعدم تواصل بالرغم من التماعِ مسرحية هنا او هناك، وهذه الالتماعات التي تضيء الساحة ثم تنطفئ وتغيب لا يمكن لها ان تشكّل حركة مسرحية متطورة متواصلة، هذا التراجع اجتهدنا في تفسيره بعدم وجود مسرح عربي محترف او بعدم توفر الامكانيات المادية او بعدم وجود تقنيين وفنييّن عربا، او بالظروف الاقتصادية لدى الجمهور، وغيرها. اذا كانت هذه الاسباب مقبولة في الماضي، فماذا يمكن ان نقول اليوم؟ خاصة ونحن نعرف ان معظمها قد زال او في طريقه الى ذلك. فقضيّة مسرح عربي محترف التغى وجودها، هذا من ناحية، اما من ناحية قضية التقنيين والفنيين فقد بدأنا نرى الى تقلّصها اليوم وذلك مع وجود عدد لا بأس به من الشباب الذين وعَوا اهمية هذا الفن فدرسوا الاخراج والاضاءة والصوت والازياء والديكور وكل مركبات السينوغرافيا، اما بالنسبة للممثلين فنحن نملك كادرا على درجة راقية عِلميا وعَمليا من الشبان والصبايا تشهد لهم المسارح العربية والعبرية لا بل والعالمية.
مرة اخرى اذن لمَ الركود والتخبط؟ من المفروض ان ينتفي الركود مع انتفاء الاسباب او مع تقلّصها. فهل فعلا هذا هو الحاصل؟ في رأيي لا. ونحن اذا اردنا التحدث عن الاسباب علينا ان نفتش عن اسباب اخرى غير التي ذكرناها سابقا.
في الواقع ان التفكير الجاد بمثل هذه القضية، يقود الى سببين رئيسيين، هما: اولا قضية جمهور المشاهدين، وثانيا قضية المسرحيات المنتقاة. بالنسبة لجمهور المشاهدين من المعروف ان السبب الرئيسي في قلة انتعاش الحركة المسرحية بشكل عام هو عدم نجاح المسرح في جذب جمهور المشاهدين اليه، وجمهورنا الذي كان يحبو مسرحيا في البداية صار اليوم مع ازدياد الوعي والثقافة والعلم جمهورا انتقائيا ناقدا ذا ذائقة فنية جيدة ولا مجال لذكر الاسباب هنا. والغريب انه رغم هذا التطور ظل المسرح على ما كان عليه بمعنى انه لم يواكب التطوّر الثقافي وتطوّر الذائقة الفنية عند الجمهور، هذا الجمهور الذي صار يطمح الى ما يرضي ذائقته وثقافته، اذ ان الزمن الذي كان فيه يصفّق لكل ما كان يقدّم له قد ولّى. وان المرحلة السابقة التي كانت تعتبر مرحلة تأسيس قد آن لها اليوم ان تتبخر لتصير مرحلة تجنيس. فمرحلة التأسيس لها حيثياتها ومهامها، فيها ينحصر الهم المسرحي في تنوير وتثوير الناس وتوعيتهم الى قضيّتهم واحوالهم وما يدور في عالمهم. لذلك كثُرت في تلك المرحلة المسرحيات التي دارت على ذلك الهم، عربية كانت ام مترجمة مع ليّ أعناق المترجم ليلائم الظروف والأهداف. من هنا وسمت المسرح اوصاف معيّنة، فمسرح يدعو الى توعية وتنوير وتثوير من الطبيعي ان يكون ارشاديا وعظيا خطابيا مباشرا، يحايئ الموضوع من السطح ويقدمه صراخيا بحيث يطغى الكليشه على الايحاء وتتغلب المباشرة على الايهام، فيتسكع الاخراج على السطح ولا يتغوّر النفس البشرية ولا ينزل الى حناياها ينبش فيها، وبما ان الاخراج كتابة ثانية للنص، لا نجد اخراجا الا لماما يبُثُّ روح المخرج ويُظلل العمل برؤيته ويرفعه ليلائم المستجدات. ما كان في التأسيس، اما اليوم فلدينا جمهور مختلف، ينفر من الصراخ البرانيّ يريد النزول الى اصقاع النفس البشرية ليرى الى صراعاتها الداخلية، والى تمزقاتها تجاه المطروح. لقد تحوّلت النظرة عند جمهورنا من شمولية بانورامية الى جزئية مفتّّتة، من برانية الى جوانية، فصار ينظر الى سيولة الزمن النفسي اكثر من الحسيّ والى الحوار العمودي السابر للاغوار وليس الى الافقي السطحي، والى المكان المُجزأ وليس الى المتجانس. وهذا كله يتطلب اعادة النظر في ما يُقدّم من مسرحيات اليوم، بحيث يصير التركيز على الذات لا على المجموع والموضوع. ومن هنا فان المسرح اليوم عليه ان ينتقل من التأسيس الى التجنيس أي الى تجنيس هذا الجانر ورسم معالمه الآنية والمستقبلية ومقوّماته الفكرية والفنيّة ليصير المسرح جانرا متخصصا له فرادته وتفرّده وتميّزه يشترك ويختلف مع الاجناس التخييلية الاخرى.
اما القضية الثانية والتي تنبع من خاصرة الاولى فهي قضية المسرحيات المنتقاة ومدى جذبها للجمهور، وهذا يتطلب من المسرح ومن القائمين عليه تغيير الرؤيا من تأسيسية الى تجنيسيّة، بمعنى على المسرح أي مسرح اليوم ان يمتلك رؤيا فكرية فنيّة بحيث يفارق مرحلة التخبّط والعشوائية والتنقل بين المدارج الفنية الفكرية عن غير وعي، والانتقال الى ما يقود ويوجه نحو هدف، فالمسرح حين يضع له تصوّرا مسبقا يفي بالحاجات ويلبي الطموحات ويستجيب لنداءات المرحلة يصبح قادرا على انتقاء ما يلائم ذلك من المسرحيات العربية والمترجمة والمحلية. اما اذا فقد المسرح ما ذكر فسيتّسم بالارتجالية التي تقود الى عدم التواصل والتطوّر واللحاق بالمستجدات والمتغيّرات الفكرية والفنية والاجتماعية والى الفوضى.
اما القضية الثالثة التي أرى الى اهميتها والتي لها علاقة مباشرة مع مرحلة التجنيس التي نصبو جميعا اليها، فهي قضية التميّز والتخصص، واعني نحن اليوم نملك اكثر من مسرح مسجل رسميا، وهذه المسارح كي يُكتب لها النجاح عليها ان تسعى الى التخصص لا الى اجترار الذي كان او الى مزاحمة بعضها البعض، فالتخصص والتميّز هما طريقا النجاح الى المستقبل وحقيقة هي اننا بدأنا نرى ثمار النجاح المنبثقة عن هذا التخصص المنطلقة من مسرحين محترفين يقودان الحركة المسرحية المحلية اليوم. اعني مسرح بيت الكرمة ومسرح الميدان، فالأول توجه للصغار والثاني للكبار، لذلك اصاب كل منهما النجاح المرحليّ، وكي نصل الى النجاح الدائم علينا تعميق هذا الشيء اكثر. وفي النهاية أقول من التأسيس الى التجنيس، تلك المسألة يجب ان تكون خطّتنا القادمة كي نرقى بمسرحنا الى مصاف المسارح الناجحة وكي يصبح هذا المسرح حاجة لا مجرد ترفيه آنيّ مؤقت او نهرة نخرج فيها من الروتين والرتابة اليومية، او مجرد فرجة للتسلية، ومعا نحن قادرون.
* د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .