حول معرض وسام سعدي في فتّوش

فؤاد سليمان

*حين وصلت يوم الثلاثاء الفائت، إلى مقهى "فتّوش"، وجدته مكتظاً بالزبائن. لكني لم أعرف إن كان كلّ الحضور يعلمون أنه قد عُلِّقت داخل المقهى الحيفاويّ رسومات للفنان وسام سعدي من عكا.

حين دخلت إلى الجاليري، ألفيت وسام واقفاً هناك كعامود كهرباء، مليئاً بالطاقة الايجابية، مرتدياً ملابس سوداء ومستعدّاً لأن يشرح لكل من يريد عن رسوماته. لكن حين طلبت منه أن يشرح لي ماذا يريد القول من خلال رسوماته، فإنّ كل ما قاله لي تلخّص بأن الأسلوب الذي يميز لوحاته هو الأسلوب التجريدي.

معظم اللوحات كانت فعلاً تجريديَّة وغالبيتها تجسِّد نساء بدا نصف أجسادهن واضحاً، في حين بقي النصف الآخر غامضاً. لقد رُسِمت النساء بطريقة تدَعُك تفهم، حين تتأملهن، أن إبقاء جزء من أجسادهن غامضاً وضبابيّاً، يترك الانطباع بأنهن تفتقرن إلى الصحة والكمال. فالسعي إلى الجمال فالكمال لم تكن من مقاصد وسام، بل لقد كان قصده مُعاكساً تماماً. وتخصيصاً، فإنه يمكن القول أن وسام قد سعى إلى تشويه الجمال المعروف لنا بحسب المعايير الكلاسيكيّة، وذلك بهدف طرح مقولة مُغايرة حول موضوع الجمال. ربما كانت مقولته أن الجمال والكمال قد أثقلا على نساء عصرنا وأن المجتمع ما زال ينظر إلى نسائه وفي يده مسطرةً يقيس بها أياديهن وأرجلهن وأكتافهن، لكي يُصدر قراره عن مدى جمال هذه المرأة أو مدى جاذبية تلك.

على عكس لوحات نساء الرسام الشهير "كليمت"، فإن الألوان التي استعملها وسام ليست قوية وناصعة، بل هي ألوان عاديّة وخفيفة ولا تطلب من المُشاهد الكثير من الطاقة لكي يستوعبها. كذلك، فإنه بعكس أسلوب "كليمت" في لوحته المعروفة "القبلة"، فان النساء في لوحات وسام ليست طريّة وأنيقة وتوّاقة للحريّة، بل هي مسطّحة وآليّة وذات وجوه تفتقر إلى أي تعبير. من خلال أسلوبه المميز، يرينا وسام نساءً مجرّدات تعانين من انعدام الراحة ومن انعدام السعي لمكان ما. كذلك، فمن خلال الغموض والضبابيّة، يحاول وسام أن يؤكد على التشاؤم الذي يميز المرأة في عالم ذكوريّ.

لقد انضم وسام إليّ وإلى زوجتي حين جلسنا لاحقاً في المقهى بعد تأمل اللوحات. لمّا سألته إن كانت لديه مقولة يريدني أن أذكرها في تعليقي هذا، أجاب بالنفي القاطع، ثم أردف أنه يود أن تسعي لوحاته إلى إيصال أكثر من مقولة واحدة. قد يكون في جوابه هذا ما يُعبّر عن توجه يميز فنانينا الجدد، الذين يسعون إلى الشموليّة وإلى تعدد المقولات، وأحياناً إلى انعدامها. لكني أظلّ إنساناّ يحمل صفة بسيطة للغاية وربما غير ناضجة، ألا وهي رغبتي الملحة في التلخيص وفي استخلاص العبرة مما التقط من أمور، وذلك بهدف أن تلتحم هذه مع تجاربي وتنسجم معها. لقد استنتجت بعد سماعي إجابة وسام أن هنالك القليل من الغرور لدى كل فنّان (بما في ذلك فيّ أنا أيضاًّ)، ولكني أميل الآن إلى الاعتقاد بأن اللوحة الفنية، مثلها مثل أي عمل فنّي، تحمل في طيّاتها نوعاً من الاستعلاء الخفيّ، وذلك لمجرّد كونها تحاول أن تخلِّد أمراً ما. ولذلك فإنه ليس من الضرورة أن يكمن الأمر في غرور الرسّام، بل قد يكون نابعاً من غرور اللوحة ذاتها.

من بين اللوحات، كانت هنالك لوحتان شذّتا عن قاعدة التجريد والغموض. أحداهما رسماً للمغنية العملاقة أم كلثوم والأخرى رسماً لوجه شيخ عجوز. لقد أُعجبت بتلك اللوحتين بصورة خاصّة. فوجه أم كلثوم، بحد ذاته، لوحة فنيّة تثير فينا شعوراً بالدفء بمجرّد أن نراها. أما وجه الشيخ العجوز، فقد اتسم بالقوة وبالألوان القليلة التي استُعملت لرسمه - الأسود ولأبيض والرمادي. هذا الأمر أعطى اللوحة قسطاً كبيراً من الأصالة، ذلك لأن الألوان بسيطة وتبرز أهميّة كل واحدة من تجاعيد عمر الرجل العجوز، التي تحفظ في طياتها تاريخاً حافلاً بالتجارب.

جلسنا في المقهى، حيث شربت زوجتي شراب "الليمو-نعنع" في حين شربت أنا عصير الشمّام. من حولنا جاس الكثير من الزبائن الذين كانوا يشربون القهوة ويدخنون. الأمر الذي تذكرته حين عدت متعباً إلى البيت، هو أن كل من كانوا ليلتها في فتّوش، لم يتذوقوا الشراب والقهوة والسجائر فقط، بل أيضاً لوحات وسام الجديرة بالمشاهدة.