الحب خلف الضباب ...

هبطت أميرة في مطار هيثرو..كانت تجر حقيبة سوداء متوسطة الحجم..الحقيبة تجر صاحبتها للوراء فيما أميرة متوثبة لمعانقة الحاضر... حينما تعادلت قوتا الدفع والشد توقفت أميرة برهة..ترددت .. هل بامكانها ان تنقذ حبا مضت عليه واحد وعشرين عام بالتمام والكمال..هرب عادل في ذلك التاريخ ولم يكمل دراسته الجامعية .. اوضح لها ان السودان اصبح سجنا كبيرا.. كان الوعد ان تلحق به بعد عام..ولكن لم يتحقق الوعد أبدا ..رغم الشوق الجارف خشيت من لحظة التقاء العيون..كل شيء في حياتها مضبوط على التوقيت القديم.

في الجانب للاخر كان عادل يدقق في التدفقات البشرية الخارجة من جوف المطار..اكثر من مرة كان يتقدم ولكنه يكتشف ان العنوان خطا ..توجس ان تكون أميرة تخلفت في مطار عمان..لم يكن وحيدا..جاءت بصحبته أسرته البريطانية..فيرنا وابنها وابنتها..تردد كثيرا قبل ان يوافق فيرنا على فكرة ان تكون هي والعيال في استقبال حبيبته..رضخ لوجهة نظرها..هو هكذا دائماً لا يستطيع ان يقول لا لهذه السيدة البيضاء البدينة..دخل حياتها قبل عشرين عاما..وجد اعلان صغير في صحيفة (صن دي) ..اسرة صغيرة ترغب في ضيف يشاركها السكن في بيت صغير ..حينما رفع سماعة التلفون كانت فيرنا ترد من الطرف الاخر.. قالت له تبدو وكان الانجليزية لغتك الثانية ..شعر ببعض الاهانة التي تشير الى ضعف لغته الانجليزية..سرعان ما عالجت الموقف حينما رددت " الذين يتحدثون اكثر من لغة دائماً هم متميزون".

رمى عادل بنظرة اخيرة على فيرنا..كل شيء تغير وأصابه التقادم الا هذه الابتسامة..تذكر ذاك اليوم العاصف بعد مرور شهر على اقامته مع اسرة فيرنا..قرر في ذلك اليوم ان يرحل الى عنوان جديد..كان البيت جحيم لا يُطاق..طفلان دون الخامسة وزوج سكير وزوجة تعمل لأوقات طويلة حتى توفر نفقات الاسرة الشقية ..اكتشف لحظتها ان الممرضة ذات الخمسة وثلاثين عام كانت تبحث عن حارث ..كانت تخاف على اطفالها من نوبات جنون جيمي..قرر في ذلك اليوم ان يلتحق بمجموعة سودانيين عزاب يسكنون شمال لندن..في الباب ردته تلك الابتسامة الحنونة..في ذاك المساء سحبت فيرنا حقيبة الضيف وقالت له "ساتخذ القرار الصعب".

لم يكن يتصور القرار الا بعد نصف ساعة.. قامت فيرنا بتعبئة كل متعلقات زوجها في حقيبة كبيرة..منذ ذلك اليوم غادر جيمي المنزل..كان يعود مرة واحدة في العام في ليلة عيد الميلاد ثم يختفي..كان ضمير عادل يؤنبه فيما تؤكد فيرنا انها اتخذت القرار الصحيح الذي كان من المفترض ان تتخذه قبل سنوات طويلة..أصبحا صديقين..يعتني بالاطفال لحين عودتها من المشفي..بعدها يمضي الى الجامعة..حدثها عن حبه الضائع في أدغال افريقيا وعن حكومة بلده ذات القبضة الحديدية..أخبرته عن معاناة جيلها ..مؤسسة الاسرة بدات تتفكك..قالت له اذا أردت زيارة امي علي ان استخدم الهاتف لتحديد ميعاد مسبق.. كانت تسأله دائماً عن الاسلام..تعتقد ان المسلمين اكثر ترابطا..الاسرة عندهم شيء مقدس.. الاسئلة الحائرة جعلته يلتفت الى جذوره..بدا يقرا القران من وقت لآخر..صام رمضان في منتصفه ولكنه لم ينقطع أبدا عن الصيام في كل عام.

ذات يوم بعد مرور ستة اشهر شعر انه يشتهي هذه السيدة التي لا يفصلها عنه الا حائط من الخشب..رد نفسه وكبت شيطانه..عند الصباح استيقظ مبكرا على غير العادة..كان ديفيد وأخته قد مشيا الى المدرسة.. أخذت فيرنا فنجانين من القهوة وسندوتش من الجبنة بالبيض..وضعت يدها على يده.. قالت له اعرف ماذا تريد.".. انا موافقة بشرط ان اتزوجك ".. في المساء تم الزواج في كنيسة قديمة بحضور امام عراقي كان يدرس في جامعة لندن..حضر المناسبة السعيدة خمسة أشخاص بجانب العروسين .

حينما التصقت الاجساد في الفراش الوثير ألقت بشرطها الثاني..لا تريد أطفالا ..جفل عادل من المشهد..قفزت الى ذهنه كل العقد العنصرية والرواسب التاريخية ..ببعض الغضب قال "اعرف لا تريدي أطفالا من زوج اسود".. إعادته برفق الى أحضانها ثم همست في أذنه" اريد ان أمنحك حق تقرير المصير في اي وقت..متى ما حضرت حبيبتك من افريقيا سانسحب من حياتك بكل رفق ومودة ".. البارحة حينما ذكرته هذه العبارة التي مضى عليها عقدان من الزمان وافق على ان تصحبه برفقة الاسرة الى المطار..في هذه اللحظة قبضت على يده ناتاليا التي تدرس الطب في جامعة برنجهام " دادي اين عمتي لماذا تأخرت ".. شعر ببعض تأنيب الضمير ..عودة أميرة ستعكر صفو اسرة كانت تقدم له كل المشاعر الطيبة .

حينما انتابه التردد ظهرت أميرة ومن ورائها حقيبة سوداء ..تغيرت بعض الملامح وساد بعض التوتر ..ثوان وعاد الهدوء والآفة الى المكان ...قفز ديفيد الى حيث أميرة قائلا "قلقنا عليك كثيرا "ثم أمسك بالحقيبة السوداء متعهدا برعايتها..شعرت أميرة بعاطفة جياشة وهى تحتضن فيرنا..السيدتان اجهشتا بالبكاء ..في موقف السيارات الخارجي تفرق الجمع..فيرنا مضت بأسرتها الصغيرة الى البيت القديم فيما اختلى عادل بذاك الحب الخرافي.

وسوم: العدد 679