نقطة ودائرة
وقف في وسط بعضهم (رهط)، وليس هناك ما كان يدل على أنهم يشكلون حلقة ،
وهو في مركزها ، ولا هو قد حسب أي حساب فعل على أنه في موقع اتهام منهم ،
أوهم كانوا يسألونه ، أو يعاتبونه أويحاكمونه ، أويريدون منه بعض الإيضات ،
لمواقف كانت قد بدرت منه في مناسبات سابقة عدة ..
لكن الزمن في هذه الحالة بدأ يمرّر دقائقه ، ويتابع حديثه بتلقائية سلسة غيرمتكلفة
وهوفي أوج شكّه فيهم من أنهم لن يسلّموا له أي تنازل أخذ يحكي:
عن حال ذاك الشخص (س) الذي لم يحسم حدود ما كان يشغله أو ما كان يشغّل
ماكينة تفكيره ، فلم يتملّك الشجاعة ليؤكد أن كيانه وقتها هو الذي يسيطر ويتحكم
على جملة هائلة من الصور والأحداث في مساحة دماغه ومخيلته المحشورة بين
عظمتين صغيرتين .. أم أن هذه العاصفة الهوجاء بكل تخبطاتها ، هي التي تحيط
وتتكوّرعلى جسمه وكيانه ، وهو لايزال يمشي ويتدافع مع الناس في موجاتهم
المتلاطمة ، كان قد تأهل بهذه الحالة من التراضي مع نفسه، إلى قطع جزء كبير مع
هذه الإكتشافات ، لولا أن ظهر له فجأة وهو يقفز على مرتفع رصيف ، وينعطف من
زاوية بناء على جهة أخرى مجهولة ، وقف في طريقه شخص(ج) بسط إليه يده ربما
يكون متشرداً .. وربما يكون من مثل حاله .. وربما لا هو هذا ولا ذاك .. يستعطفه
ببعض مال ..
توقف عن الكلام وبلع ريقه ثم توجه بنظره نحو الآخرين (رهط) حوله : وكان
صمتهم مريب جداً لم يتوقعه منهم ، وهم يصغون إليه بإنتباه وتركيز غريبان ..
تبسم وقال في سره : عجيب أمر هؤلاء(رهط) وإصغاءهم يبعث على الريبة ، حتى
صمتهم هذا في ظني أن له ثمناً ، وأخشى أن تكلفني وقفتي بينهم الآن لدفعه أو ربما جزء منه ..
فلما استيقن أن إصغاءهم كان حقيقياً تابع حكايته قائلاً :
ذلك الشخص (س) بطبيعة مشيته وبما يعانيه من شرود دائم ومستمر، كان واضعاً
كلتا يديه في جيوبه من أجل تسهيل حركته بين المتزاحمين ، فلما وقف بمواجهة سائل
المال ،(ج) اطمأن لحاله فيما إذا تابع طريقه ولم يستجب لطلبه ، أو أن يوحي له أنه
سيخرج نقودا ، ففي خضم تساؤله بشأن وفعل (غريمه..!) (ج) وهو يتفرسه : يقول لم
هذا الكائن يسأل الآخرين عن المال بهذه الصفاقة ؟ ولم يلح في طلبها ..؟ هل يحتاجها
لشراء الطعام ، أم هو جائع الآن ..؟ أم يريدها لشراء ملابس أم لتأمين مأوى ينام فيه
؟، أم للتخلص من نزوة جنسية تعصف به ؟ أم لسبب آخر غير كل هذه الأسباب وهو
لايعرفها..؟ لقد أهداه مارد تفكيره وبسرعة مذهلة فكرة فاتنة ناجعة للحصول على
جواب شاف ، وهو أن يحاول أن يصنع مثل ما يصنع هذا السائل(ج) وبالطريقة ذاتها ،
لعل شيئاً أو أمراً ما يبرز له لم يكن بالحسبان ، بل وقد انفتحت الآن في مساحة تفكيره
فتحة صغيرة ، تخبره بفكرة افتراضية مفادها : أن حالته وما كان يعاني فيها قبل أن
يلتقي بهذا السائل (ج)، ربما هي شبيهة بكثير من جوانبها الغامضة لما يعانيه ..!
ولم لا .. أجاب نفسه ، وليس ذلك وحسب ، بل ربما نحن متشابهين بما نحن فيه ..؟
في لحظتها انتبه لأصابع يده اليسرى وهي تلاعب قطع من النقود المعدنية في جيب
(جاكيته) الأيسر، تارة تقبضها وتارة تنثرها في حركة متوترة ، لقد طالت مواجهتهما
وكل منهما مصرّ على قرار ما لم يكشفه الآخر ...وبسرعة خاطفة قبض على ما
استطاعت أصابعه قبضها من قطع النقود وأودعها في كف يد ملهمه (ج)، وانطلق
بسرعة مرخياً العنان لرئتيه تأخذ أكبر كمية من الهواء ، وكأنها كانت في محبس
عاتم كابت.....!
عم الصمت والذهول لدقائق جميعهم بعد أن توقف عن الكلام ، حيث شعر أنه انتهى
من حكايته ، ولما لم يلق ردة فعل مباشرة أو تعليقاً استغرابياً علق هو بينه وبين نفسه
نيابة عنهم قائلاً :
لعلي أنا (س) وهم (ج) ، أو هم يكونوا جميعاً (س) وأنا (ج) ولا وجود
ل (رهط) أبداً ...!؟
وسوم: العدد 772