قصة الوزير والبردعة

من الحياة اليومية لمواطن سوري

 هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت معي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان. 

 كما ذكرت في قصص سابقة، فبعد تخرجي في بداية الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية، وقبل سفري إلى أمريكا، عملت كمعيد في الكلية المذكورة يومين في الاسبوع لمدة فصل واحد لمادة الرسم الصناعي وذلك بمساعدة أحد أساتذة المادة الذي دعم طلبي للوظيفة. كان صديقي الأستاذ هذا من الدمشقيين (العتيقين) وله شعبية واسعة في الكلية بين الطلاب والأساتذة على السواء بسبب روح النكتة وسرعة البديهة التي يمتاز بها معظم سكان هذه المدينة العريقة.

 في ظهيرة أحد أيام الصيف، وبعد انتهاء محاضرتي، اجتمعت مع الأستاذ إياه في مدخل الكلية حيث كنت في طريقي إلى البيت بسيارة المؤسسة (اللاندروفر) وسألته إن كان يرغب أن أوصله إلى بيته في المهاجرين فوافق. كنا في منطقة العدوي والساعة حوالي الواحدة بعد الظهر حين قال لي (إذا كان ماعندك شي، روح نبارك للحمار ببردعة الوزارة). من جهتي، كنت على علم بأن أحد الدكاترة المهندسين والذين كانوا يدرسون في الكلية أصبح وزيراً في واحدة من وزارات (عبد الرؤوف الكسم)، وعلمت حينها أنه كان المقصود وعلمت تماماً مالذي قصده الأستاذ بكلمة (حمار). كان هذا الدكتور المهندس من أبناء مدينة كبيرة غير دمشق ومن أكثر المدرسين كفاءة في الكلية حيث كان قد تخرج من جامعة عربية سمعتها أفضل بكثير من سمعة جامعة دمشق وحاز على درجة الدكتوراة وبامتياز من جامعة أوربية غربية، أي أنه لم يحصل على أي من شهاداته بالواسطة أو الدفع. وكان صديقي الأستاذ قد تخرج أيضاً من نفس الجامعة العربية وشارك ذلك الدكتور في السكن خلال سنوات الدراسة، وبالتالي فقد كانت صحبتهما عميقة ووثيقة وخاصة أنهما انتهيا بالتدريس معاً في نفس الكلية فيما بعد.

 وصلنا إلى مكتب سكرتير الوزير والذي سألنا من نحن ولماذا نريد مقابلته. بروح النكتة التي يتحلى بها صديقي الأستاذ، قال للسكرتير: قل لمعلمك أن (معلمه) فلان واقف على الباب. سرعان مابدى الإحراج على وجه السكرتير، لأن معلم الوزير هو رئيس الوزارة، ولاأعتقد أن أحداً في سورية حينها لم يكن يعرف شكل (عبد الرؤوف الكسم)، وبالتالي ظن الرجل أننا حتماً مسؤولين أمنيين وبالتالي دخل سريعاً إلى مكتب الوزير ليخبره. لم تمض ثوان حتى رأينا سعادة الوزير بنفسه يفتح الباب ويستقبل صديقه الأستاذ بالعناق ويدعونا للدخول. ما أن أصبحنا داخل المكتب حتى قدمني له معرفاً باسمي قائلاً: لاأعرف إذا كنت تذكر هذا (الشب) فهو كان أحد طلابك وتخرج منذ فترة قصيرة ويساعدني حالياً كمعيد لمادة الرسم. ثم تابع الأستاذ حديثه قائلاً بأننا كنا في منطقة الوزارة في طريقنا إلى البيت وقرر أن يزوره في مكتبه ليبارك له بحصوله على (البردعة)، والتي لمن لايعرفها هي سرج الحمار.

 بدا الإحراج فوراً على وجه الوزير، ليس لأن الأستاذ استعمل هذه الكلمة بوجودي، ولكن لأنه استعملها هنا في الوزارة، حيث سارع ورسم ابتسامة مصطنعة على وجهه وقال له بصوت خافت أقرب للهمس الجملة التي يحفظها كل السوريين عن ظهر قلب ويعرفون تماماً ماذا تعني. قال له: (استرنا استاذ، الحيطان إلها أدان، بدنا نرجع لننام ببيتنا اليوم)، ثم غير الحديث سريعأ وانتقل لموضوع آخر. طبعاً ماقصده الأستاذ، وكان ومايزال يحصل في سورية الأسد، أن النظام وحين يعين أحداً من خارج (جماعته) في مناصب وزارية أو إدارية، فهو يفعل ذلك إما للإستفادة من ألقابهم. فتعيين الدكتور فلان أو البروفسور علتان، يوحي للشعب وللعالم بأنه نظام يؤمن بالعلم والكفاءة وبوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بغض النظر عن انتمائه الطائفي أو السياسي. أو يفعل ذلك لتمرير صفقات رشوة وسرقة يستفيد هو وجماعته منها ثم ليلصقها فيما بعد، وتحت عنوان محاربة الفساد، بهذا الوزير أو ذاك المدير المنتمين للأكثرية وبحيث يظهر هو وأفراد (جماعته) من الأقلية وكأنهم أشراف مكة.

 وفعلاً، وبعد فترة قصيرة، تم إجبار وزارة (الكسم) على الاستقالة بعد أن تم استدعاء عدد من وزرائه للاستجواب بتهم مختلفة، بما فيهم صاحب (البردعة)، تحت سقف ماكان ولايزال يحلو للنظام تسميته (مجلس الشعب). ومن عاصر تلك الفترة يعرف أن بعض هؤلاء الوزراء قد تم إرسالهم إلى السجن باحدى التهم الآنفة الذكر، والبعض الآخر، ومنهم صاحبنا، قد تم فصلهم بتهم مثل (الاهمال) أو (التسيب) أو (سوء الادارة). صدف أن أحد أقاربنا كان عضواً بارزاً في مجلس الشعب حينها، ودعاني لحضور إحدى جلسات مسائلة الوزراء والمدراء تلك، والتي كان النظام قد جعلها جلسات مفتوحة للعامة ليكسبها صفة الشفافية والعدل. وقد فهمت فيما بعد أن التهمة التي كانت موجهة للوزير صاحب (البردعة) هي أنه (سمح ومجاناً باستعمال معدات هندسية ثقيلة تابعة للوزارة من قبل أشخاص من خارج الوزارة ولانجاز أعمال خاصة بهم). مالم يجرؤ الوزير على قوله حينها أن هؤلاء (الأشخاص) ما كانوا (عاديين) بأي مقياس، بل مسؤولين أمنيين أو برتب عسكرية عالية وحصراً من (الجماعة) ولايجرؤ أحد أن يرفض لهم طلب ولاحتى رئيس الوزارة نفسه. وقد فضل الوزير حينها عدم الافصاح عن ذلك علناً ووافق على الاعتراف بتهمة (سوء الادارة) مفضلاً إياها على أي تهمة اخرى يمكن أن تقوده إلى السجن، ومعترفاً ضمناً باستحقاقه لتلك (البردعة) التي زاره الأستاذ برفقتي ليبارك له بها. تمت مكافئة رئيس المجلس حينها (عبد الله الزعبي) على إدائه لتلك المسرحية بتعيينه رئيساً للوزارة، ليأتي دوره بعد حوالي العقدين ويتم استدعائه هو نفسه للتحقيق بتهم فساد ثم إعلان (انتحاره).

 هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، ففي (سورية الأسد) يعامل أفراد الأكثرية مثل (خرفان العيد) حيث يتم التضحية بهم حين الحاجة لتبييض صفحة النظام وجماعته ولتذكيرهم أن هذا الوطن ليس وطنهم، وأنهم ليسوا بأكثر من عبيد لخدمة النخبة من الجماعة الحاكمة.

وسوم: العدد 778