حديث عابر مع ألماني

هيثم بن سعد الصعب

[email protected]

بسم الله الرحمن الرحيم

لبعض الظروف قدمت لألمانيا و بقيت فيها لمدة ليست بالقصيرة , وكنت أثناء شرائي تنهال علي السنتات -أجزاءٌ من اليورو-  النحاسية مما لا قيمة لها في الحقيقة , فلو اشتريت شيئًا بـ 9.01 فستغمر بتسع وتسعين سنتًا لا يُسَاوِنَ الحديد الذي نُقشن عليه,  فاضطررت لحملها معي فإذا ابتليت بها عند شرائي أعطيتهم مما معي فلا أمطر بها كما كل مرة و لكثرتها وتناثرها وضعتها بجورب نظيف أسود, و بما أن منظر الجورب غير أنيق فإني أستحيي أن أُخرج منه السنتات و بالتالي أمطر بها  كما  كل مرة , إلا في آخر مرة فكان حسابي 10.02ومعي عشرة يوروات فتمالكت الشجاعة كي أخرج السِنْتين و أتجنب أن أصرف العشرين يوروًا التي بالمحفظة من أجل هذين السنتين اللعينين فأخرجت جورب السنتات و أخرجت هذين السنتين و تفاجأت بضحك رجل ألمانيٍ كان بعدي , الضحك كان شديدًا بعث الخجل في نفسي مما جعلني أُسارع بالخروج من المتجر بلا ترتيبٍ لأغراضي-  بالمناسبة في ألمانيا أنت من تأتي بالكيس و أنت من يضع مشترياتك في الكيس – وبسبب هذا توقفت خارجًا لترتيبها من جديد وخرج علي الألماني الساخر فتجنبته إلا أنه ناداني وخاطبني بالألمانية فصرّحت له بأني لا أعرف لها إنما أعرف الإنجليزية فتحدث وكانت لغته مقارنةً بغيره من الألمان طَليقةً جدًا. فقال لي أن فكرتي بحمل السنتات جيدة فشكرته على مجاملته اللطيفة بعد ضحكته الساخرة,  ثم بدأ يسألني من أين أنت ؟ وماذا لديك هنا ؟  -بشغف نادرٍ أن تجده حيث أن الألمان باردون جدًا وقلما يبادرون بالحديث - فأجبته , وبالمقابل سألته ماذا تعمل ؟ وهنا بدأ يتحدث ويسهب كأنما كان ينتظر أن يبث شكواه و حزانه لأي أحد فقال لي أنا رجل مصاب بالسرطان و تحسنت حالي الآن إلا أنه لا عمل لدي و أقيم ببيت للمشردين الآن فأجبته ماهي شهادتك  فأجابني بأنه جامعي وسبق أن عمل إلا أن ظروفًا نفسية و جسمانية واجهته جعلته بمصاف المشردين وقال لي أن حياته مذ أن تنفس هواء هذه الأرض تعيسة جدًا فأبوه و أمه كانا صديقان , الأب ايرلندي و الأم من ألمانيا وهو ناتج من هذه الصداقة فأثناء حمل أمه اختفى أبوه فسافر لأمريكا وتورطت أمه به, فمصاريف رعاية هذا الطفل عالية و أبوه اختفى فما كان منها إلا أن رمته لأقرب دار حضانة فاحتضنته أُم أخرى كانت خيرًا له من أمه و أبيه و انهى جامعته ثم بدأ يبحث عن أهله فوجد أمه فقابلته بوجه عبوس وقالت ليس لدي مال فقال لها ما جئتك للمال طالبًا ! و أثّر هذا الاستقبال السيء في نفسه فتركها وذهب لأبيه في فلوريدا أمريكا كان استقبال أبيه و إخوته أفضل بكثير من أمه إلا أنه تفاجئ بزوجة أبيه تختلق المشاكل و تقول لأبيه لا حاجة لي بابنك هذا ! وليس لي علاقة بماضيك و ما فعلت فيه, فما كان من أبيه إلا أن يحاول صرفه فأبت كرامته عليه إلا الذهاب و أصيبت التي تبنته بالسرطان فجلس يعتني بها طوال ثلاث سنين حتى ماتت و أصيب هو بعدها وبعد ذلك فقد كل ممتلكاته فالتأمين الطبي حسب كلامه لا يغطي كل المصاريف و الآن هو في بيت المشردين براتب 400 يورو من الدولة بالكاد تكفيه, وقلت له هل لك زوجة أو ابنًا ينفعك فقال أنه لم يتزوج قط إنما مر بتسع علاقات فاشلة ! – وهذا طبيعي فأنا أعرف كثيرًا منهم على هذه الشاكلة – سنة من العلاقة ثم تنهار ثم سنة نقاهة حسب كلامه حتى تتوق نفسه لواحدة جديدة و هكذا !  طلب رقمي فقلت لها أعطني رقمك أنت أولًا فأخرج لي كرت عمله السابق وبكى فقلت لم البكاء؟!, قال:" هذا كرت الأيام الجميلة يوم أن كنت أعمل", ساعدته في إدخال مشترياته في حقيبته ومضيت حامدً اللهَ على الإسلام فالعمران عمران القلوب لا عمران الشوارع و الأزقة.