لقاء بعد سنين
حماد صبح
سلمان محمد إبراهيم عودة ! كيف هذا ؟! وأمام اسمه وصفان متتابعان :" الشهيد المجاهد " ! سكن أحمد أمام شاشة الحاسوب يسرح بفكره وخياله في دهاليز ماضٍ بعيد . كم من السنين انقضت عليه ؟ أربعون ؟ اثنتان وأربعون تقريبا . محمد إبراهيم عودة زميله في الصف الثالث الابتدائي . سلمان ابنه . اختفى محمد من المدرسة دون أن ينتبه أحمد لاختفائه . كل عام كانت إدارة المدرسة تعيد توزيع التلاميذ على الصفوف . لا يتذكر عنه شيئا بعد الصف الثالث . وقدر بعد أن تذكره تاليا أن أسرته قد تكون انتقلت إلى مكان آخر . ويكتشف الآن أنها انتقلت إلى جباليا ، إلى مخيم اللاجئين فيها مثلما توضح سيرة الابن الشهيد .وقبل انتقالها إليها كانت تسكن في منطقة القرارة . ومن هناك كان محمد يقطع عدة كيلومترات إلى المدرسة في دير البلح . تابع أحمد قراءة السيرة مصححا نحوها وإملاءها ومقوما أسلوب عباراتها ، وحاذفا منها ، ومضيفا إليها من قصاصات الصحف التي تحدثت عنه وقت استشهاده لإعداد سيرة من صفحة ونصف أو أكثر قليلا لنشرها في سلسلة كتب عن الشهداء . وعرف من معلومات السيرة أن زميله ، بل صديقه ، فكل من زاملناهم في الماضي نشعر بأنهم أصدقاء أعزاء حين نتذكرهم أو نلتقيهم صدفة؛ لا زال حيا . نجا من كل ما قاسته جباليا من أهوال الاحتلال ، وهي التي فجرت بروق ورعود الانتفاضة الأولى وعواصفها ، وضحت بمئات الشهداء وآلاف الجرحى والسجناء . عاش محمد واستشهد ابنه سلمان في هجوم مع رفيقين له على مستوطنة نيتساريم مثلما تروي سيرته . في الحياة من المصادفات كل غريب عجيب . كان من الأناشيد المقررة على الصف الثالث نشيد " الجندي " ، وفيه يخاطب جندي أمه قائلا : أماه حان ذهابي لساحة الميدان × وهبت روحي وجسمي لخدمة الأوطان . وترد عليه أمه مشجعة : بني اذهب سريعا ...
وأثناء تتابع التلاميذ على تسميع النشيد قال المدرس فجأة : نريد واحدا في دور الأم .
وتلفت التلاميذ إلى بعضهم ، وغلبهم الصمت والوجوم ، وارتفع صوت المدرس : من يقوم بدور الأم ؟!
ولم يتحرك أحد . كلهم يرون القيام بدور الأم ( المرأة ) حطا لكرامتهم ، ويخشون أن يعيرهم به زملاؤهم .
ووجد أحمد نفسه يشير إلى تلميذ يجاوره ويقول : كامل يقوم بدور الأم .
فهب كامل واقفا يصرخ : أنا امرأة ؟! طيب . والله لأخلي كلبنا يقطعك تقطيعا .
ومثل بيديه عملية التقطيع ، وكرر : طيب . سترى .
وكان لأسرة كامل كلب أبيض أغضف الأذنين شرس يرعب المارة خاصة الصغار . واعتاد أحمد تحاشي عدوانيته العنيفة بالتضحية بنصف الرغيف الذي يأخذه معه إلى المدرسة دون غموس ، فيلقيه إليه قطعة قطعة ، وكلما التقم قطعة هر وزام حتى تأتيه القطعة التالية إلى أن يبتعد وراء أحمد عن البيت ، وتهدأ شرته مع نهاية نصف الرغيف ، ويكون أحمد اشترى سلامته بجوعه ، ومع ذلك كان لا يفوت توديعه بنبحة تخرج مثل طلقة أخيرة كأنه ينبهه إلى أن مفعول الرشوة مؤقت ، ولن يحدث أي تغيير في طبيعته العدوانية .
كرر المدرس : نريد أما . أختار بنفسي ؟! أو استعمل الناشفة ؟!
وضرب الطاولة بعصا اللوز العقداء التي يحضر له بعض تلاميذ مناطق الكروم غيرها كلما أبلى واحدة على جلود التلاميذ .
وانفرجت الشدة الغماء ! هرول محمد من آخر مقعد في السطر الملاصق لجدار الصف الشرقي ، وقبل أن يقف قبالة التلميذ الذي سيمثل دور الجندي صرخ المدرس : صفقوا له !
وخفض صوته بعد الأمر بالتصفيق ، وقال شيئا لابد أنه سيء .
وصفق التلاميذ في حرارة وقوة ما سبق أن صفقوا بمثلهما لأروع الإجابات . أنقذهم محمد من موقف ضيق عليهم صدورهم وخافوا أن يجبرهم المدرس عليه . وإكراما زائدا لمحمد أمرهم بالتصفيق له ثانية بعد قيامه بدور الأم .
وتأفل سنين وسنين ، ويشاء الله أن يقوم محمد بالدور حقيقة لا تمثيلا . لا ريب في أنه قال لابنه سلمان : بني اذهب سريعا ...
كاتما ما الله به عالم من الخوف والقلق عليه . وقرر أحمد أن يتصل به
. وفي اليوم التالي ، حوالي العاشرة ، دخل الآذن على أحمد وأخبره أن رجلا يريد أن يراه ، فقدر أنه محمد ، وأوقف الحاسوب وذهب للقائه . وجده واقفا في أول القاعة التي ينتظر فيها زائرو المؤسسة ، وهي رحبة على يمين الممر الذي تقوم مكاتبها كلها على يمينه أيضا . اندفعا يتعانقان . تعانقا ثلاث مرات ، وكلما قطعا عناقا سأل كل واحد الآخر عن حاله . واصطحبه أحمد من يده إلى مكتبه ، وهناك راحا يتأملان بعضهما في ابتسام واشتياق . أحسا أنهما طويا كل سنين الفراق وعادا إلى الصف الثالث .
قال أحمد : أعزيك في سلمان . ابننا كلنا .
وغيرت التعزية لون وجه محمد وقال متأثرا : رحمه الله .
سأل أحمد : كم سنة مرت على تلك الأيام ؟
_ عمر . سبحان من جعلنا نرى بعضنا ! سألت مرة عنك قريبا لي في دير البلح . قال إنك درست في سوريا .
_ وأنت ؟
_ اكتفيت بالتوجيهي . ولدي أيمن تخرج في "الإسلامية "، وأخته إيمان تخرجت في "الأقصى" .
وهم أحمد أن يقول : وسلمان استشهد في السنة الثانية من دراسته الجامعية ، لكنه فطن لما في من إهاجة لحزن محمد .
ولما سأله محمد عمن رزقه الله من الأبناء ذكر عددهم وجنسهم ومهنهم ، فانفتحت عينا محمد واسعتين وسأل : ابنك جمال الذي يعمل في مكتب " البيت للهندسة المعمارية " ؟
_ ابني ، وكنيتي أبو جمال . هو أكبر أولادي .
_ تصدقني ؟! حين رأيته تذكرت وجهك . اشترينا من المكتب خريطة بيتنا الجديد . تحب أن أفاجئك ؟
وانتظر أحمد المفاجأة صامتا مثبتا عينيه في وجه محمد الذي تابع مجيبا : اشتريت نصف دونم ، اسأل أين ؟! في القرارة . ليس بعيدا عن مسكننا القديم . البيت في مرحلته الأخيرة .
_ خبر يسرني كثيرا .
_ لم أنس القرارة . أين تسكن الآن ؟
_ قريبا من سكني القديم . اشتريت دونما وبنيت فيه .
_ عدنا جيرانا . ولو بعيدين شيئا .
_ قريبون قلبا .
_ عندما نسكن في البيت سأخبرك .
وأخبره بعد حوالي شهرين ، بعد يومين من صدور أول كتب سلسلة الشهداء، فذهب إليه ، وسلمه نسخة من الكتاب ، ففتحه على سيرة ابنه ، وقرأ سطورا ، وسقط الكتاب من يده ، وراح ينشج مغطيا وجهه بيديه .