كنا وحيدين
خديجة وليد قاسم (إكليل الغار)
في هدأة الليل الساكن القابع تحت عباءة سوداء مرصعة بجمرات تزين سماه... جمرات استمدت لهيبها من أنات الموجوعين ، وآهات المكلومين .. و شوق المعذبين .. و في حلكته التي تلقي بظلال من الحزن المستكين ... و في ترانيمه التي عزفت بألحان المتأوهين و المتألمين ...جلسنا وحيدين نتقاسم لحظات صمتنا .. و نتحاور بلحظ عيوننا و نتعاتب بمزيد تباعدنا .. و كأن تحديا خفيا نشب بيننا .. في معركة مصيرية ما بين الصمت و الإفصاح ...
في الوقت الذي كنت فيه أصارع دمعاتي وهمساتي المحبوسة في داخلي ... في الوقت الذي كانت الحيرة تسكنني و تغلفني .. في الوقت الذي كنت للفهم أطمح لعلني أفصح ...في الوقت الذي نبتت في أرضي ألف لماذا ولماذا ؟.. كان يستلقي على الأرضية البيضاء باسترخاء و هدوء غامضين ... استرخاء يخفي في داخله بركانا على وشك الانفجار .. وسيلا لا يجيد سوى الدمار .. متحفز رغم السكون و الهدوء .. و بنبض خلجاتي يرتوي و ينوء ...
و كلما ندت عني همهمة تفلت في غفلة مني و رغما عني .. كان يتوثب و بتحفز لتفجير بركان الصمت الذي ضاق به ذرعا .. و أرهقه و جعا ..
طال صمته و ترقبه .. بل ربما ملله و سخطه و هو يطالعني مرة .. و ينقر بيديه مرة .. ويتأفف أخرى ...و في لحظات ثانية .. كانت نظراته تحمل توسلا عجيبا .. و استجداء غريبا لكلمة تفلت من إسارها هاربة مني .. أو همسة تدفعني و تغلبني .. احتار في أمري ولم يدر كيف يستخرج سري ..
لم يقوَ على الصبر طويلا ... رمقني بنظرة غاضبة لم أعتدها منه في يوم من الأيام .. رغم حميمية الصداقة التي تجمعنا و اللحظات الكثيرة التي قضيناها معا و التي تشاركنا فيها لحظات عشناها في الأماسي العاصفة ..و الليالي الحائرة .. .. و بصوت أجش مرتفع صرخ في وجهي : و ماذا بعد ؟؟
رغم اضطرابي لأسلوبه المفاجئ و نبرته القاسية .. غير أن سيل الأحزان المستكين في داخلي .. جعلني لوهلة أنظر إليه نظرات بليدة لا مبالية .. ما لبثت بعدها أن أشحت بنظري عنه في كبرياء مجروح .. مع بعض دمع مسفوح .. و دون وعي مني، اتجهت نظراتي صوب النافذة .. و كأنني أرقب شعاعا من أمل يرسله لي قمري الذي أدمنت الارتشاف من جماله .. والارتواء من بهائه ..و التغني بعظيم سنائه ..و لكن من اعتبرته دوما خير صديق .. ضنّ في لجج الظلام الرابض على أنحاء قلبي .. و المتربص بي في دربي .. لم أملك حينها إلا أن أرد نظري و أكتم أملي الخائب في أنفاسي اللاهبة الملتاعة ... لم أجرؤ الالتفات إلى ذاك المستفز الذي يحاول استخراج و اصطياد مكامن الألم .. و الذي بقي يرمقني بنظراته المتعجلة .. لكن هذه المرة دون صوت أو كلِم ..بل بترقب و لهفة صرعهما صدى صمتي .. و لهيب أنفاسي المتعثرة بين صمتي و جهري ...
أطبقت جفني المرتجفين .. جعلتهما كرفيقين متعانقين في لقاء تمنيت أن أجد فيه سكينتي المفقودة و الأمان المبدد الضائع .. و لكن .. أنى لمثلي أن تجد ذلك في مثل هذه المحاولات البائسة التي لا تسمن و لا تغني من جوع ..
بعد لحظات طويلة من محاولاتي البائسة .. و بعد فترة مملة من الانتظار الصامت الجريح ..انتابتني ثورة مفاجئة .. و دون وعي مني وقفت في عزم و اشتعلت عيناي ببريق التصميم .. وقفت بصلابة غريبة كجندي طال انتظاره لاقتناص عدوه .. ما إن يلمحه حتى يبدأ برشقه بسيل من الرصاص الذي طال مكوثه في رشاشه الأصم ..
شعرت برغبة عارمة في أن أبوح .. أصرخ .. أفجر قنابل صمتي .... رغبة في أن أعلن ثورتي التي أرهقني كتمانها دهرا طويلا .. نظرت إلى المسكين الذي يشاطرني وحدتي و يترقب مني الكثير و الكثير .. فإذا به قد تغيرت ملامح الكسل التي كانت تعتريه .. اعتدل في جلسته .. نظر إلي بامتنان و تشجيع .. ثم ما لبث أن وضع رأسه على بساطه الأبيض .. دون أن يرفع عينيه عن شفتي اللتين كانتا تخفيان صراعا داخلهما .. لكن فجأة و في لحظة لم أتمن وجودها.. ثورتي المفاجئة لم تلبث أن خبت حدتها رغما عني ..و دون إرادة مني .. نظرت إليه بدموع اعتذار كسيرة تنبئ عن عجزي عن التعبير و البوح .. في ذات اللحظة التي كانت حروفي تتصارع و تتصادم في معركة مهولة في داخلي .. تلك الحروف التي ضاقت و احترقت بلهيب الأشجان الذي بات يكويها و يجلدها بسياطه الحارقة ...
و بعد صراع مرير ما بين تلك الحروف التي كانت تتدافع للخروج من عمق بركاني اللاهب .. خسرت تلك الحروف البائسة جولة جديدة في معركة كان الصمت هو الفائز فيها و بلا منازع .. المعركة التي اعتاد هذا الصمت المتجبر على الفوز فيها دائما ... غير أن هناك حرفين أفلتا في غفلة من هذا الصمت الكئيب ...تلقاهما ذلك القابع المسكين الذي كان يمني نفسه بصيد وافر وعظيم .. تلقاهما بخيبة أمل شديدة .. تلقاهما و شرر غضبه يتطاير أمام عيني المطرقتين حزنا و ألما إذ خيّبت أمله .. و بدّدت حلمه.. و رغم ذلك لم يملك سوى احتضان حرفيّ البائسين برهة من الوقت فهما المغنم الوحيد الذي خرج به من هذه المعركة الخاسرة .. ما لبث بعد ذلك أن غرسهما على بساطه الأبيض الذي لم يعد أبيضا أو نقيا .. مذ وطئت قدما الـ ( الألف ) و الـ ( الهاء ) أرضه ...