لقاء غير مرتقب
(أي تشابه في الأحداث أو الشخصيات أو الأسماء هو من قبيل الصدفة لا أكثر ).
بعد أن تورمت قدماي من كثرة المشي، والبحث من شارع لشارع، ومن إقامة لإقامة، ومن سيارة أجرة لأخرى، جلست على كرسي طويل بإحدى الحدائق المهملة وسط المدينة...كان الجو باردا وغائما بعد ليلة ممطرة، والشمس تطل أحيانا من بين السحب المثقلة، والأشجار الموحشة الذابلة بخجل كامرأة فاتنة يعتري وجهها الخجل فيزيدها بهاء ونضارة...انشغلت برؤية المارة، والعمارات الشاهقة أقارن أحيانا بينها من حيث المساحة، والهندسة والموقع، ومتسائلا أحيانا أخرى مع نفسي كيف يستطيع سكانها النوم تحت هذا الكم الهائل من ضجيج السيارات، والمتشردين، والحمقى والسكارى .. ثم أعود من جديد وأسأل المارة المستعجلين عن شارع النخيل، وعن اسم الطبيبة، وعيادتها..كنت كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، فطنجة شكري بصخبها متاهة ليس لها مثيل.. بعد تفكير طويل تركت الحديقة، وقصدت حارس السيارات المركونة على جانب الرصيف فدلني بحب على مدخل إحدى العمارات مشيرا بأصبعه إلى الطابق الرابع...ولجت المصعدلأجد نفسي أمام باب خشبي مطلي باللون الأسود زين بلوحة برونزية مكتوب عليه الدكتورة وصال اختصاصية في جراحة، وأمراض العيون، بعد أن رن الجرس بالداخل، وفتح الباب رحبت بي السكرتيرة بابتسامة آلية، وملامح محايدة وجامدة. جلست على كرسي بالقرب من باب تفضي إلى شرفة مغلقة تطل على شارع جانبي أنتظر دوري، ولم يكن ثمة غير عجوز مريض منشغل بالذكر والتسبيح، والسعال بأعلى صوت...
بدت قاعةالانتظارموغلةفي الوحشة، والصمت كمقبرةمنسية..الكراسي الفارغة مثناثرة في كل مكان..جدران مطلية باللون الأبيض تذكرك بقبور الموتى ..صورباهتة لعيون مريضة، ونظارات شمسية وطبية مصحوبة بنصائح، ورموز، وإشارات .. تتوسط الصالة مائدة مصنوعة من الخشب بنية اللون وضعت عليها مزهرية بها وردة وحيدةبلا لون، ولا طعم ولا رائحة..أحسست بنفور من المكان وغربة قاسية، وتملكني الخوف كالعادة من هذاالصمت المريب الممزوج برائحة الدواء،والحزن، والمرض.فقد كنت أنفر منذ صغري من أمرين: مراكزالشرطة والمستشفيات ...قطعت علي الممرضة شرودي أكثر من مرة بأسئلة مقتضبة حول اسمي ونوع المرض الذي أشكو منه، وأشياء أخرى ثم حملت الأوراق كإوزة ومشت في ممر طويل يفضي إلى غرفة الفحص. كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء، ولم يتبق على موعد القطار غير ساعة ونصف. فتح الباب من جديد وخرجت الطبيبة، وهي تخطو خطوات واسعة، وسريعة، وخلفها الممرضة الشابة والسكرتيرة وأحد المرضى تقدمت نحوي مباشرة، ومدت يدها إلي مرحبة.. وهي تضغط على يدي بحرارة وتربت على كتفي أكثرمن مرةقالت، وملامح الحبور بادية عليها، وعيناها مشدودتان إلي تحققان في وجهي، وفي اسمي المدون على الأوراق : "لا أصدق والله !. أنا سعيدة برؤيتك، ولقائك مرة أخرى ..ياااه !الصدفة خير من ألف ميعاد، والدنيا كم هي صغيرة لهذا الحد ! ثم أردفت:" مازلت كما أنت لم تتغير" .. تهت كما هي عادتي باحثا عن صورتها، واسمها من بين أسماء التلميذات اللواتي درسن عندي.. .لكنها بدهاءومكرممزوج باللوم أوقفت سيل تخميناتي مردفة:"ربما نسيتني أستاذ !.. بيني وبينك أنا لم أنساك . ولايمكن أن أنسى اسمك. فهومحفور بالذاكرة " وابتسمت حتى ظهرت أسنانهاالناصعة البياض، وواصلت كلامها مرحبة بي"تفضل .. تفضل مرحبا بك أستاذ إلى غرفة الفحص"وهي تفحص عيني تعود كل مرة لتسألني عن الأحوال، والصحة، والأهل.. كشفت علي بحنو الأمهات وأمرتني بتغيير النظارات، ورفضت في النهاية وبإلحاح أن تتقاضى أجرتها، وأبقتني بجانب مكتبها لفترة في حيرة من أمري .ارتدت معطفها على عجل وألقت بشعرها الأشقر الناعم إلى الخلف، ووضعت نظارتها على المكتب، وأقفلت خلفنا باب العيادة، ومنها إلى سيارتها.. عند باب السيارة تعللت بموعد سفري وبضرورة عودتي مبكرا ..بدت الطبيبة وهي تمسك بيدي وتقدوني رغما عني إلى سيارتها بيضاء البشرة. فارهة الطول في الثلاثين من عمرها. جميلة، وأنيقة، بعيون واسعة كشرفات تطل على البحر، وبملامح هادئة ومنشرحة كبركة مائية على ضفاف مخضرة تفوح منها رائحة عطر مسكر، فالعطر الرخيص كالخمر الرخيص يشعرك بالتقزز والغثيان...
" هي ..هي " هكذا رددت وهي تلوح بيدها أمام وجهي:" أين سرحت.." أما زلت تسرح وراء الغزلان كما هي عادتك؟"" بأية سنة درست عندي؟ فاجأها سؤالي فردت مبتسمة، وهي تفتح باب السيارة عندما نصل للبيت سوف تعرف فأنت ضيفي اليوم.. لن تفلت" ركبت بجانبها وقادت السيارة بسرعة جنونية فرجوتها أن تتمهل فقالت: "لا عليك لا تخف طالما أنت بجانبي... أسعد سوف يطيرهذا المساء من الفرح عند رؤيتك "فقلت لها من أسعدهذا فردت علي وهي تخفف من سرعة السيارة وتنعرج بها يسارا منحدرة في شارع يؤدي مباشرة إلى الكورنيش، وزرقة البحر:" أسعد الموسيقي الذي كنت تسخر منه في الفصل وتقول له "بداخلك حب للعزف والشوق، والطاولة لا تصلح لذلك عليك بتعلم العزف على الأوتاروليس على الأقلام فكنا ننفجر ضحكا عليه .. فقلت لها :"آآه تذكرته ذلك التلميذ الأشقر الروبيو" فضحكت ضحكة طويلة مدوية وهي تضرب بيديها على مقود السيارة :" الربيو.. الرويبو جنني هذا الروبيووالله حتى تزوجته"..لما وصلنا للبيت وكان أشبه بفيلا صغيرة مؤلفة من طابق واحد محاطة بأشجارالعرعار، والنخيل، ونوافذها، وشرفاتها تطل على البحرمباشرة. ضغطت على الزرففتحت لناالباب خادمة تشبه الخادمات الفلبينيات في مظهرها، وملامحها، وقامتها القصيرة، وعيونهاالضيقةالبريئة..أخذت الطبيبة بيدي ومشيت خلفها تجرني كعربة في ممرطويل دافء تؤثثه لوحات زيتية، وتحف نادرة، وقطع الأثاث الغالية الثمن..
وهي تنادي بأعلى صوتها:"أسعد..أسعد..الروبيو..الروبيو" خرج الروبيو من غرفة النوم مذعورا كطفل نائم أرعبه صراخ أمه .نظر إلينا مستطلعاالأمر، محدقا في وجهي غير مصدق مايرى ثم ارتمى في حضني وضمني إليه بحب وشوق في عناق طويل وخلفنا زوجته تردد :"مفاجأة أليس كذلك" فرد عليها وهو يجلسني على أريكة مخملية ناعمة مرحبا"حقا مفاجأة .. ومن العيار الثقيل ..أين عثرت عليه" فقلت نيابة عنها:" الصدفة خير من ألف ميعاد "" لا يمكن أن أنسى تلك الأيام ولا يمكن أن أنسى موقفك مع زوجتي وصال عندما كانت تلميذة تدرس بجانبي. لقد غيرت النظارة التي قمت بشرائها لها كل شيء في حياتها وفي حياتي أنا.. كانت أقرب إلى مغادرة الفصل لولا تشجيعك لها" فعرفت أنذاك من هي..كانت موسيقى أم كلثوم المنسابة كمياه الجداول بين الحقول وهي توصلني إلى محطة القطار تعيدنا إلى ذكريات جميلة مضت، وإلى تلك الطفلة التلميذة الجميلة ذات الظفيرة الشقراء الخائفة، والخجولة .المنطوية على نفسها، كعصفورة وجدت نفسها صدفة في قفص، بعيدة عن حضن أسرتها، وعن الأشجار التي تحبها، وعن الأنهار المتدفقة فانكسرت.وكان علي أن أنصت إليها، وأطلق سراحها وأكسر القفص خلفها...أوقفت وصال علي شرودي مرة أخرى قائلة "عادتك هي عادتك أستاذ الشرود أو كما كنت تقول لنا حصانك المفضل." وواصلت كلامها:" لا يمكن أن أنسى أبدا تلك اللحظة وأن تقدم لي النظارة خفية بعيدا عن الأنظار كهدية لكي أقرأ بها وتؤدي ثمنها من جيبك بعد أن عجزت أمي عن شرائها بعد وفاة الوالد " على رصيف محطة القطارالعائد إلى مدينة القصر الكبيرعانقتني بحب وهي تودعني قائلة: " سوف أنتظرك على نفس الرصيف أنا والربيو هذه المرة انتبه لصحتك ..سفر سعيد" .طوال الرحلة شغلتني صورتها مثلما شغلني شرودها وهي طفلة تدرس عندي بالفصل.
وسوم: العدد 861