أحدث وسيلة للتحقيق
لا أعلم أيهما أشد وطأة على نفسي ، هذا الشتاء القارس ببرده وأمطاره ، وبطول
ساعات لياليه التي تجثم على كون المدينة بكآبة ما فيها ، وكأنها تعيش في حالة
اجترارمتوحش لما فيها من بشر وحجر وما تبقى من شجر ، أم من قلة مواردها من
المواد الغذائية ومواد التدفئة ومواد الطبخ ، كيف لنا أن نستكشف حقائق كل هذا الوطء
من شظف العيش ، وكأن الذي يرى هذا الوطء بقسوته وثقله ، لا يجرؤ أن يفسر ذلك
بما يستعرضه البث التلفزيوني من برامج عن العالم المحيط ، وبما يضخه من اعلام
مشوه مركزإلّا بتفسير وحيد لا ثاني له أبداً ،وهو أننا نعيش بجزيرة نائية في إحدى
المحيطات على سطح أحد الكواكب في هذه المجرة العظيمة ، ولاشأن لنا بأي مكان أو
أرض آخران غيرها ، وأن المصدر الوحيد الذي يهب لنا وسائل التمكن من الاتصال
بالآخرين ، ومن العيش والتنفس سواء بالغذائية أم الحياتية الأخرى بقلتها التي لاتكاد أن
تقاس بأي مقياس، أنهم هم المتفردون بإدارته :
فكيف يكون ذلك ..؟، لانعلم
وكيف ومن أين ؟ لانعلم ..
ربما هناك كائنات مختصة بالاتصال مع هؤلاء ..!! لانعلم
وكل الذي نعلمه أنه لايمكننا أن نحصل على رغيف خبز واحد هكذا بمشيئتنا الإنسانية
الفردية ، وكذلك لايمكننا أن نحصل على ليتر واحد من وقود التدفئة ،هكذا بإرادتنا
الفردية أو برغبتنا الإنسانية المنقرضة أصلاً، وأما بقية الأمور التي لايمكن لأي تاريخ
إذا ما رجع وجلس بيننا ، أن تتسع صفحاته لما يمكن أن يروي عن أيام الشتاء ولياليه
، وربما يعيش الانسان لفصل آخر وتكون في أمنيته أن يروي للتاريخ ما فعل به تاريخ
موسم الخريف الماضي فقط .
جلست أمام شخص ادعى أنه برتبة ضابط ، لم يصرح عن رتبته ولا عن اسمه ، وما
أدراني أنه لو صرح بذلك أنه يكذب ولا يقول الحقيقة ، وإن كان ذلك فعلاً فما الذي
يفيدني وأنا أجلس أمامه ، أنا على كرسي غير مريح وهو خلف طاولة مكتبه الباهر،
وأول الفوارق كان وجود هذا الكرسي غير المريح بين فخامة أثاثه ، إضافة إلى ما
أخذ هذا الضابط كل ما أتيح له من العناية الشخصية من وسامة مصطنعة وهندام أنيق
بآخر موضته..!
بعد انتظار الموعد هذا لأكثرمن ساعتين ،في المكتب الذي وضعت على سطح طاولة
موظفه لوحة في مقدمتها كتب فيها مدير مكتب المعلم ..! تفضل عليّ وحانت المقابلة
التاريخية ، وبعد أن قام بحركات أوحى بها إلي أنه يقوم بواجبات الضيافة بكل لباقتها،
رحب كل الترحيب بيّ حتى أحسست بالخجل الفعلي من صدق مشاعرها ، وقد فتح أحد
الادراج من طاولة مكتبه وتناول شيئاً ناولني إيّاه أخذته ولم أعلم ماهو ، ولكن بعد
تقليبه من كل أوجهه ، تعرفت إليه بعد فراق لأكثر من عشرة سنين ، وقد تجمد الدم
في عروقي وبدأت أصابع يداي تبردان شيئاً فشيئاً ، وسرى البرد إلى قدماي ،لم أتمالك
نفسي إذ أحسست بالخوف ممزوجاً ببعض فرح انكتم فوراً في نفسي ، وكان صوته
المنقذ مما لاحظه علي :
- دفتر محاضرات الجامعة ..! كراس جميل أليس كذلك ، صديق دراسة وذكريات
ذهبت ولن تعوض ..!
رغبت بالرد بأي كلمة ، ولكنه تابع ثانية بجملة خبيثة :
- اشكر من احتفظ لك به ، أكيد كان يقدر هذه الأشياء فعلاً ، ولولا هذه الخصلة عنده لما رأيته الان بين يديك أبداً ، وذهب حيث ترمى قمامة المدينة منذ سنين .
واستمر يسابق التبجح المتصنع الذي أخذ يسيل منه سيلاً ، ولم يعرف كيف يضع له
حداً :
- كنت الضابط المسؤول عن أمن وحماية الجامعة ، وعقب حادثة جريمة أمنيّة
وقعت بالقرب من السكن الجامعي ، توسع البحث الأمني في مباني الكليات وخلال
مروري بإحدى الردهات ، وأظن كانت في كلية التجارة ساعتها ، تعثرت قدمي
بالدفتر ، والحقيقة لم أستدرك لحظتها ما الذي دفعني لحمله والاحتفاظ به وظل الدفتر
لأيام طويلة في مكتبي ، مغمور بين كثير من الصحف والأوراق والنشرات غيرها .
وسكت لحظة وهو يضحك وقال لي :
- هل أطلت بالحديث ..؟ هل زال الخوف عنك أستاذ رامز ، إني أروي لك
ماحدث فعلاً ، هل أكمل لك قصة الدفتر ، أم تأخذه وتذهب به بكل يسر وأمان ..؟
إنني أنا من احتفظ بالدفتر ، ولم أكن قاصداً ذلك ، إنما هكذا مرت الحكاية ، ولست في
مكان أمزح فيه ، إذا رغبت به فخذه حالاً ، وإن كان لا ، فأنا سأظل أحتفظ به من أجل
القصة الجميلة المكتوبة فيه ، هل تتذكرها ، قصة سيد والنهر..؟! إنها رائعة ، هل
لديك غيرها . .؟
ثم أردف قائلاً ، وكأنه يريدني أن أسمع له حتى النهاية ، ولا أدري إن كانت النهاية كما
يريدونها هم ، أم كما نتمناها ، وهي مُرّة بكل أنواعها ..!
- قصة الدفتر تشبه إلى حد بعيد قصة وصولي لهذا المكتب ، وأنا واثق ومتأكد كل
التأكيد ، مثلما أعجبت بقصة سيد والنهر، أنك لو استمعت لي ، ستكتبها يوماً عاجلاً أم
عاجلاً وستكون قصة رائعة بكل المعايير ..!
وسوم: العدد 870