جمهورية السادة الأعزاء ..
لم يخطر ببالي ان الشخص الذي كلف باستلامي ، وهو يضع اسمه وتوقيعه وأشياء
أخرى ، على أوراق وسجل كبير الحجم ، أنه يقوم أيضاً باستلام لباسي الأول القديم
الذي اعتقلوني به ،ولكن كلامه الذي جلجل في مسامعي ،أن أبقى في لباس السجن ،وقع
علي وكأن موجة برد ضربتني ،أخلجت جسمي كله فبدأت أرجف رجفاً شديداً ، ولم تعد
تحملني رجلاي ،ففقدت السيطرة كلية ثم وقعت على الأرض ، لكني لم أفقد الوعي
،وظلّ الرجل غير مكترث وكأن شيئاً لم يكن ، فتركني لحالي وتابع عمله حتى أنهاه ،
ثم انحنى باتجاهي وسألني إن كنت أستطيع الوقوف ..! فلم أرد عليه إلّا بإيماءة خفيفة
من رأسي ..سمعته يتكلم مع الذي كان يسلمني وأشيائي منه، بكلام لم أستدركه ،
وكأنهما يتكلمان بلغة غير العربية ، مضى وقت بقيت فيه على حالي ولم استطيع
الحركة أبداً ..تابعا الحديث فيما بينهما بذات اللغة ، وأخيراً جاء من الخارج اثنان
يقتادان طاولة أوصندوق من الخشب لها ثلاثة عجلات صغيرة ، كتلك التي نراها في
الأسواق لبيع الخضار،فحملاني عليها ، وربطا رجلاي بحبل حولها ، وكذلك فعلا
بيداي ، ووضعا قطعة قماش على عيني مالبثت أن سقطت بالحركة ، وساروا بي ولم
يكترثوا ، وأنا لا أدرك غيرالرائحة الكريهة التي تنبعث من القماش ومن خشب الطاولة
..!
مررنا بطريق بين أكوام تراب في أرض مهجورة ،أوهي بقايا أبنية قديمة مهدمة
وبعض شجيرات برية بينها ، والأرض غير المسطحة التي كانت تتقافزعليها عجلات
الطاولة ، فيضرب سطح الطاولة برأسي ، وكأنني بدأت أتلقى مسبقاً وجبتي بالضرب
والإرتجاج العنيف لكل جسمي ، أو أن هذه الطريقة هي الاسترداد العمد لثمن ما تلقيته
من خدمة طبية قبل قليل ، والمرافقون الثلاثة يسيرون من دون أي اكتراث مما يحدث
لي ، أو ان هذه الوصفة عادية عندهم لكثرة ما يقومون بها مع من سبقني ، ولست
أدري إن كانت حالاتهم تشبه حالتي أم أنه لافرق بين الحالات ، فقط كانت وسيلة للتنقل
بين البنائين وكأنه طريق بريد وحيد لتبادل العينات من أمثالي ،ويبدو أنني في يقين من
أن أي احتمال من تلك الاحتمالات هو حاصل ، ذلك لسبب واحد وهو بقائي مربوطاً
بالحبال بالطاولة ، وإلّا فالمشي في هذا الطريق الوعرعلى الاقدام مثلما هم فاعلين ،
كان سيعيد لي بعضاً من صحتي ..!
وكم تمنيت أن أسأل أحدهم أو أتكلم بأي كلام ، رغبة مني بعد أن استرددت بعضاً من
وعيي طمعاً أوتعمداً بتحرشهم بالحديث لعل أحدهم يتفوه بأي حرف أو جملة مهما كانت
، لكنني كنت أنا الحذر والمتخوف جداً منهم ، حينما تذكرت نصيحة العزير الصاحب
بذاك العنبرالذي ذهب على حين غفلة مني ، بأن لاأقدم على أي سؤال أو استفسار أو
أي حديث ، إذا لم يسألك أويكلمك أحدهم ، فالويل ثم الويل ، إنك إن فعلت فستجلب
على نفسك وجبة انتقام لن تذوق مثلها أبداً وربما لن تعود طبيعياً كما كنت بعدها ..!
وهاهم يتركوني في مواجهة أشعة الشمس ، مربّطاً على الطاولة اللعينة والابخرة تفوح
منها لزمن طويل ، ولا أسمع ولاأرى أي أحداً منهم ، فقط صوت فتح الباب الحديدي ثم
إغلاقه ..! وبعد أن تأكدت من أن الشمس قد أكلت مني وفعلت فعلها فيّ ، جاء الأمر بالدخول ..
منذ أن دخل اليقين في نفسي أنني سأعيش وقتاً غير معلوم الأرقام ولا معلوم الأيام
ولا السنين ، وخاصة ، مع تبدل الاشكال من حولي ، سواء بانتقالي أنا ،أم بتبدلهم هم
بكل ألوانهم وأطيافهم ، فعملت بما أمكنني من ظرف على أن أسارع بتكوين تلك القاعدة
اللامرئية واللامحسوسة من أي من مستويات الضغط والاجبار القسري العنجهي التي
بدأت تماثيلها تلوّح بأساليبها من أول ساعة استقبال لي بهذا المكان ..!.
ربما كان خوفي الشديد وضعفي الجسماني الذين اتصفا بهما كياني ، هما اللذان أخّرا
الهجوم العشوائي الهمجي علي ، وطالت لبعض الوقت ،ولاأدري إن كان هذا الوقت
أياماً أوأشهراً ، وربما لأكثر من سنة متقطعة ،بالتناوب بين التغير بالمكان أوبالذين
يؤدون واجباتهم الرعناء تلك بكل حرفية أو وطنية.
سأترك تداعيات التذكر تلقائياً ومن دون تحضير مسبق أو ترتيب دراماتي ، وذلك من
أجل أن لاتفلت منها الكينونة الخاصة التي استجمعت بها ارتدادات البقاء والمعاناة ،
والتي عملت على تخزينها بطريق التكديس الذهني ، من أجل أن لاتزداد معي حالة
الرهاب من العدوانية التي زرعت فيّ الارتجاف العصبي من مجرد رؤية أي من تلك
الاشكال سواء المحققين أو الجلادين أو حتى أولئك الذين يوزعون وجبات الطعام . إذ
لايمكن ولا بأي لفتة من لفتات النظر أو التعاطف أن تمنح أي معاملة خاصة أبداً، ولو
حدث ذلك ولو بخطأ في الظن أو التقدير، فسوف تجر الويلات على من يلوذ بها ، أو
يجعل منها متكأً لاوهام هي في الأصل ليست عنصر من الثقافة ، سواء كانت ثقافة
ماقبل التشريف إلى هذه الأمكنة أم بعدها وهي طامة لاتحمد أثارها أبداً .
بقيت لزمن طويل مجهول الهوية ، لا أحد يتناولني لا بالاسم ولا بأي صفة أولقب مهما
كان ،وكنت متفائل بهذا الوضع ولاأدري سبب التفاؤل ، وأقصد بالتفاؤل من حساب
محسوس ،استجمعت أجزاؤه من كوني لم أصنف مع المصنفين الذين طبقت عليهم التهم
وبرامج وجبات التعذيب ، فكأني أحسب أن برنامجي لم توصف له وجبة خاصة معينة
وإنما لازلت في العموميات الفائضة .
بقيت في هذه الفترة الطويلة منبوذاً من الطرفين ، منبوذ من هؤلاء النزلاءولا أعرف ما
أطلق عليهم غير كلمة نزلاء ، فلم يقبلوا صحوبيتي لهم ، فأراهم متوجسين حذرين مني
ومن أي كلام معي ، بالرغم مما ينزل بهم من ألوان التنكيل الصباحي والمسائي ،
وبالرغم من سوء حالاتهم الجسدية والصحية ، ومن أولئك الذين يتولون إعطاءالدروس
المجهرية بأحدث طرقها وأساليبها ، وقد عرفت مصدر تفاؤلي من طريقة وأسلوب
إعطائي الدرس الوحيد شبه اليومي فقط ، إذ عرفت أنهم يقرفون مني حين ينادونني
بالمجهول ، فلا يهنأ لهم التلذذ في تكملة الدرس المنظم ، فيلجأون لعشوائيتهم وخبراتهم
الفردية..وقد وصلت لهذه الخلاصة يوماً بعد يوم ، من تراكم أصواتهم مع أصوات
النزلاء ومما يتكلمون معي وحتى الشتائم وضربات اليد تختلف .
الحقيقة أن هذه الفترة التي لاأعلم كم بلغت ، عملت خلسة باستغلال بعضاً من خلوتها
مع نفسي وقمت بمحاولة إيجاد ترتيب ما أريد أن أسجله أو أتخيل أنني في المستقبل
سأكتبه على مبدأ وفواعد رؤياي في التأقلم والتعايش مع نفسي ، من دون أن أظهر
للخارج أي من ردود أي فعل مهما كان، وقد كان جسمي من الضعف لا يمكن له أن
يصمد ابداً، فما بالك الضرب بأي شيء وبأي مكان ، وبأي وقت ..ولا مسعف بعدها
ولا أي وسيلة للتخفيف . وما كنت أتوخى وأحذر إلّا أن يضربني أحدهم على رأسي أو
بموضع كليتي اليسرى ، فالأول يفقدني كل ما أملك ، والثاني ينهي مقاومتي وبشكل
نهائي لأي شيء ..وهنا كان البكاء هو الفاضح وهو الذي يصنع من النبذ شرخ بين
الرجولة الكاذبة والرجولية الخيالية ، ويا للهول ويا للأسف ، فقد صدمت في أول
مشاهدي هنا ، حين لم أرى أي معنى لأي رجولة ، تلك التي يتحدث عنها التاريخ وتلك
التي وصفتها الوطنيات ،وتلك التي يتشدق بها الشعراء وحتى جبابرة الاقوام ..!
هنا مكارم الرجولة تتحول إلى أكوام من الجيف والقمامة ، أكوام وجبال تفوح منها
روائح كريهة لايمكن تقبلها أو حتى وصفها ، والذي يقوم بصنعها أوبإزالتها في وقت
واحد وبكل يسر ولامبالاة ومن دون أي تكلف ، كائنات لايمكن أن توصف بأي مقياس
ولن يجد لها أي اسم بأي قاموس ولاباي أرض ،لا بين البشر ولا بين بقية الخلق على
وجه الأرض ..!!
وعجبت حيث تذكرت ، وياليتني لم أتذكر، لمَ يصرّ هؤلاء الذين يدّعون ويتفاخرون
بشعاراتهم التقدمية التي يريدون أن يتقدموا بها إلى مصاف الأمم المتقدمة ،لم يصرون
في مقدمة ندواتهم التي يدّعون بثقافتها الإنسانية ،ونشراتهم وبرامجهم في الاذاعة
والتلفزيون ،أن يبدأوا بقول ... :
أيها السادة الأعزاء ...!
هنا في هذه الغرف النائية والبعيدة عن أي شيء اسمه مدنية ،والتي يمارس قيها أعتى
من كره الانسان بعصور التاريخ كله أقذر غاياته....
وإنها ليست غرف عادية إنها محميّات ..!
بل هي حظائر أوهناجر،يتكدس ويذلّ فيها كل عزيز في الجمهورية مهما كان:
عزيز أسرة ، عزيز بيت ، عزيز أخوة ، عزيز صداقة ، عزيز عشيرة ، عزيز حارة ،
عزيز فكرة ..! عزبز أي صنف أو مرتبة من المراتب الاجتماعية الإنسانية .
هنا إذا ما لم يعلم بها أحد بعد ..
هنا مقبرة الأعزّاء. ..أيها ......؟!
وسوم: العدد 872