المقامة الكورونية
حدثنا نبهان بن يقظان قال: عاش الناس دهورا وقرونا، حتى دهمتْهُم كورونا. وإنْ يكُ ما قبلُ على غير ما يرام، لِتسلُّط شرارِ الأنام. وكلُّ بليّة وجائحَه، ناطقةٌ فاضحَه. وليس مما قُدّر مَفر، وفي الأصداف دُرر. وإن كانت النفوس في هلع، والمرء لا يخلو من جزع. إن أُعطيَ مَنع، وإن صُدّ صدَع. والشيء بالشيء يُذكر، وما لا خير فيه يُهدَر. فما إنْ عمّ خبرُ الفيروس، حتى نشِبَت حربُ البسوس. فغدا الناسُ في الأسواق، في تزاحُم وعِناق. واشتدّ الزحامُ والدفع، وعمّ الصّخبُ والقمع. وتخَطّفَ الناسُ الدقيق، والورقَ الصّحي على التحقيق. وكلَّ ما يَصلحُ للتخزين، والإشباعِ والتموين. وإنْ كان أكثرُه ضرر، حافظاتٌ وسكّر. ممّا يُخرِّب المناعَه، ولا يَعدِلُ شيءٌ القناعَه.
وقيل أنتم في حَجْر صحّي، وكلُّ نبيهٍ يضحّي. هذا قرارُ أولي النّهى، فيا ويلَ من عصا أو سها. ومن أنذر، فقد أعذر. لا تَصافُحَ ولا قُبَل، ولا عِناق ولا جدَل. وفي "السلام" كفايَه، لمن كانت له درايَه. لا يخرج ولا يغادر، إلا ذو أرَب قاهر. واضعًا كِمامَه، وحبّذا العِمامَه. وإياكم وحديثَ المجالس، وحَوْكَ المكرِ والدسائس. فإنه إذا عمّت العدوى، فلا أملَ ولا جدوى. صلّوا في بيوتكم، لا حُجّةَ لكم. فالصلاةُ مقبولَه، وكلُّ عِلة مرذولَه. وفيما يَضر، أمورٌ تَسُر. قال مُقدَّم الحي: وأنتِ يا سلوى، منك البلوى. ليس الوقتُ للعَهر، ولا حرجَ بعد شهر. فقال منافق، أنا موافق. وفي المساء أُلفِيَ يتسكّع، فقال وهو يتضرّع. إنما أبحثُ عن السجائر، تنفيسًا لاعْتِكارِ الضرائر. قال المقدّم: اِلزمِ الدار، يا غدار. أما بك مروءة أو حياء، والناسُ بين خوف ورجاء. لو أقعدَ الناسَ المرض، وحِيلَ بين السبب والغرض. فمِن أين لنا باللقاح، وكيف الفلَاح؟ وحالُ البلد لا يخفى، سواء طِبُّه والمشفى.
وطلع على الناس الصباح، ولا غُدوّ ولا رواح. قد أُغلِقت المقاهي، وصُفِّدت الملاهي. وسُكِرتِ الحانات، وسُرِّحتِ القَيْنات. وانفضّ السّكارى، وهُم حيارى. وأقفَرت المدارس، لا مُعلمَ ولا حارس. ورُفعت الأقلام، وانتكست الأحلام. وأُخرِجت المكانس، وشمّرت الأوانس. وقيل هلمّ إلى الصابون والماء، وتعقيم الأرض والسماء. فإن الفيروسَ مُتربّص، وما لنا من مُخلِّص. وتفرّقَ الناسُ شذَر مذَر، في حيطةٍ وحذَر. وقالوا لا نَزورُ ولا نُزار، هذا والله عار! أوَ قد اقتربت الساعَه، أقصّرنا في الطاعَه؟ لِمَ نزل البلاء، أغضبٌ أم ابتلاء؟ إلامَ هذا المصاب، وحتّامَ العذاب؟ أمَا في الأخبار غيرُ من هلَك، ومن أضناهُ الفيروس ونهَك؟
وقيل للتلاميذ الزَموا بيوتكم، لا يَحطِمَنّكم الفيروسُ لا أبَا لكم. سيَبلُغكمُ العلمُ من بعيد، ويكون أقربَ من حبلِ الوريد. لكنّ أهل النباهةِ والرأي، فطنوا بعد جهد ولَأْي. لسوء الحالِ والمعاش، وضنْكٍ وهشَاش. إذ لا غُنْية للتراتيب، عن شابِكةٍ وحواسيب. ومَن كان من ذوي الاستطاعَه، ولمحَ النورَ ورامَ اتباعَه. جاءته الدروسُ تَتْرى، ومجتمعةً أحيانا أخرى. فتراكمت الأعمال، في زمن قَلال. فاتّضحَ والأَمارةُ ساطعَه، ألا مناصَ من خطّة جامعَه. تُذيب الفوارق، وتُزيل العوائق. و"تُكوِّن" المعلِّم، كذا المتعلِّم. ومَن يكن الحَذّاء أباه، تَجُدْ نَعلاه.
قال نبهان بن يقظان: وأما الكادحون فاستثقلوا المكوث، وقالوا أنأكل الخَشاشَ والرّوث؟ ومِن أين لنا بالأرزاق، ولا عملَ ولا إنفاق؟ وقال المعْوِزون: قد كنا من قبلُ في إملاق، ما لنا جَديٌ ولا عَناق. حتى جاءتنا الأيام بأمّ الرُّبَيق على أُرَيق، وما نراها تُدْبر حتى ينشفَ الرّيق. وقال قوم: ما هذا حَجْرا بل حصار، فعلامَ "العَسكرة" في عُقر الدار؟ إنما هي مؤامرَه، أشبهُ بالمقامرَه. فإن الدولار عما قريب، منهارٌ ولا ريب. فكان لا مناصَ من الإفلاس، ومن وقوع الفاس على الراس. فاستبق القوم الداهيَه، قبل انكشاف الخافيَه. ابتغاءَ انتعاش البنوك، وإن ساء السلوك. ورجاءَ جنْيِ الرّبا والفوائد، مصائبُ قوم عند قوم فوائد. وقالت طائفة: إن طالبان، أعجزوا الأمريكان. وقد وقع الوِفاق، على الفِراق. درءًا لمفاسدَ جَمّه، وإبراءً للذمّه. فاختُلِق الفيروسُ اختلاقا، ليقع الفَرّ غسَقا. والناسُ في شغَل، قد أذهلَهمُ الذي حصَل. وقال قوم: إنما هي الصينُ في سُوحِ البقاء، ترومُ زمَّ البيع والشراء. لِتغلَّ الأسهمَ والصناعَه، وتبلعَ "البورصةَ" والبضاعَه. وكثُرت الأقاويل، وأغربتِ التحاليل. وانبرى قوم يصفون الأعشاب، لكل صحيح ومُصاب. وغدا الكل أطباء، لا يُعجزهم داء. ولا حاجة "لتحليل"، ولا فحصَ ولا تعليل. سيّان الطبيب والعَشّاب، والكرَوان والغُراب.
قال نبهان بن يقظان: فهذا الذي كان، في ومضةِ آن. قد بدَهَ الأمرُ البَرِيّه، فعظُمتِ الرَّزيّه. وفيما حدّثتُكم معتبَر، لمن فكّرَ وقدّر. وللأغرار يقال في شجَن، الصيفَ ضيّعْتِ اللبَن.
وسوم: العدد 872