لويزة.. كاشفة الأسرار
"أي تطابق بين أسماء شخصية القصة وأحداثها والواقع هو من قبيل الخيال لا من قبيل الواقع"
كان يحمل بين يديه علبة كرتون صغيرة مغلقة، وهويخرج متخفيا.. حذرا محدثا خشخشة من فتحة ضيقة مابين القصب الطويل، الذي تمتد من فوقه كظلال مترفة أغصان الأشجار المخضرة المطلة على نهر اللوكس ... نظر إلينا باستغراب غيرمتوقع وجودنا بهذا المكان ... كان الوقت مساء، وكنا في بداية الصيف والجو عليل منعش .. نستظل تحت أشجارالشفرجل والتين مأخوذين بانسياب ماء الوادي وخريره في انتظار آذان المغرب ... وأشاح بوجهه عنا، وأكمل المسيربين الأشجار، والأعشاب إلى أن غاب عن أعيننا تحت نباح الكلاب ....
كان شابا يافعا أسمر اللون، طويل القامة، مفتول العضلات بلحية كوبية خفيفة... فسألت صديقي عن ما يمكن أن يحمله هذا الشاب في تلك العلبة قائلا :" لا أظن أن بالعلبة ثمارا مسروقة كالبرقوق أوالمشمش.. فالعلبة صغيرة ووزنها يبدو من حملها خفيفا، وحذره يشي بأن مايحمله أهم من الثمار، وأغلى. فما السر الذي يخفيه في هذه العلبة، ويحرص عليه، ويغامرمن أجله بهذا الشكل؟! فأجاب صديقي، وهويشير إليه قائلا :" إنه أبو الكلاب .ألم تعرفه؟ .. وأضاف إنه متخصص في سرقة جراء كلاب الحراسة الغالية الثمن، والنادرة منها على الخصوص.. فذهلت للأمر.كيف يستطيع الدخول إلى الحقول والفيلات المحروسة، ومجالسة كلاب شرسة بهذا الشكل ويقترب من جرائها؟.
أوقف علي صديقي شرودي، وتفكيري، وهويكمل حكايته قائلا :"أبو الكلاب هذا يتقصى كالمخبرين كل يوم من بستان لبستان، ومن بيت لبيت أخبار الكلاب خاصة الحوامل منها .حتى إذا حان موعد ولادة واحدة منها ربط علاقة صداقة مع أهل البيت، أو حارس البستان. وحمل للكلبة ماتشتهيه من اللحم والفراش، ولازمها كالقابلة حتى تلد، فيأخذ أجمل جرائها. فيعتني به، ويربيه، ويدربه ..وبعدها يبيعه بثمن غال لأصحاب الفيلات، والبساتين .
ومن نوادره يضيف صديقي أنه باع مرة كلبا شرسا بثمن باهض لأسرة ثرية بمدينة القصبة، وعاد منها الكلب إلى البيت بعد شهرين فباعه مرة أخرى لصاحب بستان آخر بثمن أغلى من الأول..فقدعلم كلابه كيف تهرب بعد البيعة وتعود إليه سالمة. وواصل صديقي أما لماذا سمي ب"أبو الكلاب" فتلك قصة أخرى. فقد أوصته مرة كلبة جميلة كان يحبها ويدللها حد الجنون وهي تلد بأن يعتني بجروها الوحيد بعد موتها ...حتى أن الذين حضروا الوصية من رفاقه، أقسموا بأغلظ الأيمان بأن الكلبة الفاتنة الشقراء ذات العيون الخضر، والجسد المنحوت كانت تنظر إليه بعيون دامعة وهي تنزف، وتودع، وتوصيه على جروها .."لم تكن تئن والله.. منظرها وهي تلد، وتتوجع، وتودع وتنظر إليه يقطع القلب... لم يكن منظرها منظر كلبة تموت وهي تلد ...وإنما كان منظر امرأة جميلة رقيقة المشاعر توصي زوجها، وهي تفارق الحياة على ابنها الوحيد ...ماتت الجراء الأخرى تحت نظراتها، وهي تلعقها بأسى وماتت هي بلحظات بعدها وظل المسكين لوحده يتيما... كان يشبهها في كل شيء في جمالها، وفي وفائها، وفي دلالها ...لذلك تعلق به، واعتنى به أيما اعتناء، ورفض بيعه بأي ثمن، قائلا لكل من عرض عليه الأمرأو حاول إغراءه: "أبيعك أي كلب آخر إلا جاك .. فهذا ابني ، ابن حبيبتي لويزة ..وهل يوجد في الدنيا من يبيع فلذة كبده إلا إذا كانت أمه.... ويصمت ثم يكمل بحزن لويزة كانت عندي أفضل من بعض الرجال خاصة في مواقف الشدة ضد أولاد... فلا يخون الخبز والعشرة إلا ابن الحرام ....و منذ ذلك الوقت عرف في البلدة، والبلدات المجاورة ب "أبو الكلاب".
وسوم: العدد 877