يحدث في قصر العدل

يحدث في قصر العدل

حيدر قفه

قالتْ له: اجلسْ هنا يا عمي واسترحْ، أنت مُتعبٌ لا تستطيع نزول الدَّرَجِ ولا صعوده إلا بصعوبة، وسأقوم أنا بإنجاز المُعَامَلَةِ والتوقيع على الأوراق... كان يمشي خلفها وأحياناً يجاورها، نزل عليه كلامُها برداً وسلاماً، فقد كانت آلام العمود الفقري عنده لا تُطاق، الكِلْسُ الذي تراكم بين فقَراته ضغط على الأعصاب في أسفل الظهر؛ فأثَّر على الساقين، قال له طبيبه: هذا بفعل السن، فأنت قد تجاوزت الستين، والحمد لله على كل حال، لكن عليك أن تحتاط لنفسك، فلم تَعُدْ شاباً تقفز كما يقفز الغزال، وما بقي عندك من قوة ادّخِرْهُ لما بقي لك من أيام، فلا تُجامل على حساب صحتك، لكن الأمور أكبر من مجرد المجاملة، لو كانت تقف عند المجاملة لهان الأمرُ، لكنها – أحايينُ كثيرةٌ في ظل المدنية الحديثة – تُجبرهُ على الخروج من بيته، فهناك أمور لا تُقْضى إلا بوجوده... ووجوده الشخصي حصراً... ولا يسُدُّ مسده أحد... فَيَحْتَمِلُ مُكرها...

نزل كلامها على قلبه نزول الماء البارد على قلب الصَّادي الذي أنهكه العطشُ، ولكأنها حققت أمنيةً عَزَّتْ عليه...

كانت المحامية شابة رقيقة مهذبة... ماهرة في مهنتها... تعرف مداخلها ومخارجها... مع أنَّ سنَّها حول الثلاثين، إلا أنها – كما قيل له-: أستاذة... يعرفُها من بين المحاميات الكثيرات اللاتي يمتلئ بهن قصر العدل لا من (رُوبها) الأسود ذي الثلاثة خطوط الصفراء على كل كُمٍّ من كُميّهِ، ولكن من نَظَّارتها الشمسية التي تضعها دائماً مغروزةً في شعر رأسها... شعر رأسها مقصوص على (الموضة) بشكل جُمَّةٍ تُحيط بالرأس من جوانبه الثلاثة، فيه جُعُودةٌ يسيرة تمكنه من اتخاذ أية هيئة تُريحها، فلا هو بالناعم المرسل الذي تنزلق عنه النظارةُ، ولا بالقَطَطِ المؤذي، لكأنه جاء على هواها... حِنْطِيَةٌ... معتدلة القامة... لا قِصَرٌ ولا طول... متناسقةُ القوام... يستر هذا التناسق (روب) المحاماة الأسود الذي ترتديه دائماً... وأشد ما يميزها قِنى أنفها... أواه... لقد قيل له: إنه من صفات الجمال عند العرب قديماً، بَلْهَ من صفات عراقة المحتدِ، لكن أشد ما كان يعجبه فيها هدوؤها... وحركتها الدائبة من قاعة إلى قاعة، فلها عند هذا القاضي قضية... ولها عند ذاك قضية أخرى... وثالثة... ورابعة... وهي نحلةٌ تدور من غُصن إلى غُصن...

قالتْ: اجلس هنا واسترح حتى أعود إليك!! امتثل لموقفها النبيلِ... في قاعة الانتظار الواسعة – والتي هي ممر لكل الاتجاهات – جَلَسَ، كان لا يُحِبُّ أن يجلس على أي كرسي. دائماً يختار الكرسي الذي يكون ظهرُهُ للجدار، لا يُحب أن يعطي ظهره لأحد... ولا أن يجلس خلفه أحد... جلسَ... وأبعد مَنْفَضَةَ (السجائر) العمودية عنه، حتى لا يؤذيه بعض الجالسين برائحة (سجائرهم)... مع أن الإدارة العامة لقصر العدل أصدرت تعليمات – قيل إنها مشددة – بمنع التدخين في قصر العدل، إلا أَنَّ الناس لا تعبأ بهذا التحذير، ويُجرؤهم على ذلك المحامون المبتلون أنفسهم، فهم أول من يدخن ويعصى التعليمات والأوامر... قالوا في الأمثال: (...) لا داعي... حتى لا يرفع أحدهم عليه قضية سب وتشهير مع أنه ليس مخترع هذا المثل بل توصل إليه الأقدمون بعد خبرة طويلة ومشاهدات كثيرة. والأدهى من ذلك الموظفون أيضاً – وعلى غير اتفاق – يتعاضدون مع المحامين في مخالفة الأوامر والتعليمات التي يقولون عنها صارمة... المواطن العادي المبتلى بالتدخين أيضاً ينظر حوله... يتلفت... يقرأ اللافتات المُحذِّرة من التدخين... يرى منافض (السجائر)... المحامين المدخنين... الموظفين المدخنين... حتى عامل المقصف (ويسميه المولعون بالإفرنجية: بوفيه أو كافتيريا) وهو يدور بين الناس بالشاي والقهوة... يتباهى (بسيجارته) بين أُصبعيه وهو يهمس: شاي... قهوة... كلهم مدخنون مخالفون...

جلس... أعطى ظهره للجدار... أبعد عنه مَنْفَضَةَ (السجائر)... جاء رجل وجلس بجواره... شاب في دابر العشرينات من عمره... أخرج (سيجارة) وأشعلها... ذّكَّرَهُ باللافتة التي فوق رأسه... قام وترك له المكان... لم يطفئ (سيجارته)!! جاء شاب آخر... في يده (سيجارة) مشتعلة... سأله الرجل الستيني بأدب:

كم عمرك يا عم؟!

في الثامنة عشرة...

أليس من الحرام أن تُهلك هذا الشباب وتلك العافية... شاب في مقتبل العمر... مثل الورد... تتعجل الأمراض؟! وتضيع زهرة شبابك في هذا التبغ؟!

استخذى وضحك...

ماذا نعمل يا حاج... الدنيا مُرَّةٌ... والدخان يخفف عنا من مرارتها...

لا يا ولدي... بل يزيدها مرارة...

يا حاج... همومنا كثيرة...

لستَ وحدك من تكاثرت عليه الهموم... نحن مثلك... لكن لا نطردها بالدخان... فنزيد البلاءَ بلاءً.

ابتسمَ... سكتَ... لم يطفئ (سيجارته)... ذَكَّره الشيخ الستيني بتعليمات إدارة قصر العدل... أشار إلى اللافتة المُثَـبَّـتَةِ فوق رأسيهما... قال الشاب بتأفف:

وهل أنا وحدي الذي يخالف التعليمات؟! انظر حولك... الموجودون في القاعة أغلبهم مخالف للتعليمات!!

كُنْ أنت من الفريق الذي لا يخالف... أهل الفضل قِلَّةٌ... المميزون قلة... الكَثْرَةُ لا يكون معها الحق دائماً...!!

الله يخليك يا حاج... اتركني في حالي...

قام وانصرف... أدرك الستيني كم كان الشاب متوترَ الأعصاب... لا أحد يأتي إلى هنا مرتاحاً... فئة قليلة التي تأتي لوظيفتها هنا... ومِنْ عدا هؤلاء مهمومون... متوترون...

نظر أمامه... بدأ لعبة مراقبة الوجوه... وجد قُبَالَـتَهُ تماماً فتىً وفتاة... عمراهما في العشرينات... قد يكبرها قليلاً... التصاقهما ببضع يوحي بالمودة الشديدة... يقيناً ليسا أخوين ولا زوجين!!... الابتسامات العريضة... الهمس المتصل... الضحكات المتوالية... الشوق العارم الذي يَـشِعُّ من العيون، ويرتسم على زوايا الفمين... أليسا محاميين؟! أين (روباهما)؟... لكن جلستهما توحي بمودة سابقة... (الله يُوفّق)... لعلهما كانا زميلين في الجامعة... التقيا هنا... فانبعث الشوق جارفاً... هو في بَدْلَتِهِ الأنيقة، وربطة العنق المنسجمة، وكومة من الإضبارات على حِجْرِهِ... محامي متدرب؟!... رُبَّما... هي... بشعرها المسدول على كتفيها... بقميصها المفتوح المعلن صراحةً عن قميص قطني التحمَ بجسدها حد التماهي... متآمراً معها ليبرز أنوثة صدرٍ فوق العادة... بنطالها المتجانس مع لون قميصها المفتوح... يقترب الرأسان... همسٌ لا يسمعه أحد... ضحكةٌ فاقعةٌ منها... ابتسامة وقورة منه... تضحك... تُكركر... تُخفض رأسها مع ضحكها المتواصل... رأسها ينزل... ينزل... ينزل... الرأس يلامس ركبتيها... ثم في حركة مفاجئة تنفضه إلى الأعلى، فيتطاير شعرها إلى الوراء... ويبرز صدرها ضاجاً بأنوثته الطاغية... والضحك لا يتوقف... تُمَسِّدُ بيمناها على شعرها لِتُعَدِّلَ من ثورته... ويسراها تغطي فمها ليحتفظ بذيول ضحكتها المغرقة في السعادة... وضعت ساقاً على ساقٍ... أدخلت ساعدها الأيمن بين ساقيها... ثم شبكت بين أصابع يديها على هذا الوضع... الوضع الجديد يشي براحة عجيبة... لا يَشْعُرَانِ بمن حولهما... ليس عندهما توتر... يقيناً إنهما محاميان تحت التدريب... المستقبل يفتح لهما ذراعيه... بدأ الرجل الستيني يفكر في جلستهما هذه... الدلال الذي يطفح من تعانق أصابعها وقد تشابكت الساقين بالذراعين... آه لو كان عنده كتاب ابنه (معتز) عن (لغة الجسد) لفهم معنى هذه الحركة... هذا المَشْمُوطُ ذكاءً ودهاءً (معتز) يحب الكُتب كثيراً... لا سيما كتب علم النفس... عندما اشترى الكتاب أخذ يشرح لإخوته معنى حركات اليدين والساقين والعينين وزوايا الفم وإنحناء الرأس، وعودة الظهر إلى الخلف، وتشبيك اليدين خلف الرأس... صورة متعددة كثيرة... كُلُّ صورة تنم عن وضعٍ نفسيٍ لصاحبها... أغرى أخاه (مؤمناً) بشراء نسخة أُخرى من الكتاب لا سيما وهو متخصص في علم التسويق، ولا بد أن يعرف نفسية من يفاوضه... هذه المعرفة المسبقةُ أثناء المساومة تفتح له مَغَالِيقَ أشياء كثيرة... تحكم له بالنجاح في مهمته... اشترى الكتاب... الرجل الستيني يندم لأنه لم يشترِ هذا الكتاب... لو اشتراه وقرأه لعلم ما يدور في نفسيهما... ما معنى حركتها هذه... جلستها... تداخل ذراعيها بساقيها... مرجحة ساقها العلوية... خلع فردة حذائها ثم تعليقها في إبهام قدمها... مَرْجَحَة الحذاء على هذا الوضع... تبليل شفتيها ليدوم لمعانهما... تَذَكَّرَ قولَ الأقدمين:"من راقب الناس ماتَ هَمّاً"!!.

جاءت مُحاميتهُ المهذبة... لقد أنجزت أوراقها... أوراقه... ليس مهماً النسبةُ تكون لمن... قام معها... تبعها حيث أشارت إلى دائرة الإجراء في الطابق السفلي... انصرفت لبعض شأنها وبقي وحده...

قاعة المِلَفَّاتِ غاصة بالناس، لا يكاد يجد لنفسه موضع قدم، المراجعون يَشُبُّونَ على أَمْشَاطِ أرجلهم لتتطاول قاماتهم، الرؤوس تشرئب إلى الأعلى لعلها ترى الموظف القابع في شُغل خلف الحاجز الخشبي الممتد بعرض القاعة... الأيدي تُلوِّح بأوراق كثيرة... أرقام كثيرة تقذفها الأفواه لعل أُذُنُ الموظف تلتقطها ليحضر المِلَفَّات المطلوبة... كُلٌّ يريد أن يُنهي معاملته... كان الله في عون الموظف... كيف يستطيع أن يحتفظ بهدوء أعصابه في هذه المحرقة من الأصوات والتأففات وضيق الصدور؟! لكنهم... كلهم... معذورون... والموظف أيضاً معذور... أليس ابن آدم مثل الناس كلهم... له طاقة... أعصاب... هموم أيضاً... هل يا تُرى تَعَوّد على هذا الوضع فأصبح لا يُبَالِي؟... قال الرجل الستيني في نفسه: لو كنتُ مكانه لفقعتْ مرارتي في أسبوع!! الحمد لله... الحقيقة أن هذا الشاب يملك طاقة من الصبر عجيبة... يثور أحياناً... لكنه محبوب من الجميع... فالكل يطلب وده... ليس وده فقط، بل خبرته أيضاً... فهو حُجَّة في فهم الإجراءات... وصياغة المعاملات... لكنه – للأسف – يدخن بشراهة... لا يكاد يطفئ (سيجارة) حتى يشعل منها أخرى... نصحه الرجل الستيني أكثر من مرة... بين له الحُكْمَ الشرعيَّ في التدخين... لا فائدة... بعض الناس يحتاج إلى زلزال حتى يغير عادته... كم كان يلوم صديقه الأديب أن اتخذ المحاماة له مهنة وهو شاعر مُرْهَفٌ... أيعيش رجل بملئ إرادته في وسط المشكلات الطاحنة؟! فكان يضحك ضحكته الهادئة يقول: تَعَوَّدْنا... والأدهى والأمر من ذلك أنه وَرَّثَهَا لولده...

سمعتُ من الكلمات التي تتقاذف عجباً... كُلٌ يسأل عن مشكلته... لكن الأعجب إصرار  البعض على حبس الخصم... ليس المهم عنده أن يدفع الخصم ما عليه من حقوق... لا... بل المهم أن يقع... أن يخطئ... أن يتأخر ولو يوماً واحداً، حتى يركض لإجراء معاملة الحبس... شهوة الانتقام أعلى نبرة من استرجاع الحقوق... التشفي أشهى لبعض النفوس... ماذا دهى الناس؟! أين التراحم؟ أين المودة الباقية؟ هل الأفلام سبب هذا التحول الاجتماعي؟ هل العولمة وراء هذه السلوكيات النابية؟... ويستمر تداعي الخواطر على عقل الشيخ الستيني... آه لو يعلمون ما هو السجن؟ وهل فيه إصلاح حقيقة؟! أم مزيد من تدمير الشخصية، وتحطيم السوية، وتنمية الإجرامية؟! السجن قديم... قديم... من قبل يوسف (عليه السلام)... لكن... كيف كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المذنبين؟ ما طريقته في السجن؟ لماذا اشترى عمر داراً فاتخذها سجناً في مكة فكان أول سجن في الإسلام؟ وهل للسجن ضرورة؟ أم إلغاؤه أفضل؟ وإن كان ضرورة فما الاحترازات الواجبة حتى لا يتحول البريء الذي كان خَصْمُهُ ألحنَ بحجته إلى مجرم عتيد؟!

تكاثرت الهَـلاَّتُ على عقل الستيني وهو في هذا الجو الخانق من التزاحم، وعدم المقدرة على التدافع مثل غيره من المراجعين... ولم يخرجه من حَوْمَةِ التداعيات وخَنْقَةِ الزحام إلا ربتٌ خفيف على ظهره... التفت... وجد رجلاً يصغره سناً... يعرفه:

فلان...

نعم...

عهدي بك عاكف في بيتك على كُتبِك وأَبْحَاثِكَ، ما الذي أخرجك من صَوْمَعَتِكَ وجاء بك إلى هنا؟!

ابني (كريم)...

لو اتصلتَ بي لأحضرتُك بسيارتي بدلاً من إزعاج ابنك!! فأنا أحضر إلى هنا يومياً... مكان عملي قريب من قصر العدل... يامحاسن الصُّدف... لم أرك منذ سنتين... أعطني الأوراق حتى أنجزها لك...

أخذها... وغاب في الزِّحام... وتركه واقفاً يمضغه الألمُ...