أين أبنائي ؟
(هذه القصة حقيقية ، وقعت عام 1415هـ ، وقد ذكر لي أبي أسماء أصحاب القصة ، والمدينة التي حدثت فيها ، ولكن الذي يهمنا هو موضوع القصة لأخذ العبرة والموعظة ، بغض النظر عن أسماء أبطالها ) .
والقصة : هو صديق عزيز عليَّ جدا ، أحبه ويحبني ، ونحن جيران في مجال التجارة ، وكنا نرى بعضنا كل يوم تقريبا، والأيام التي لانرى بعضنا فيها قليلة جدا ،وكان من عادتي أن أصلي صلاة الجمعة والجماعة في مسجد الحي ، مع صاحبي هذا أكثر الأوقات ولله الحمد و ذات يوم ذهبت لصلاة الجماعة في المسجد ، وما أن أنهى الإمام صلاة الفرض ، حتى وقف مواجها للناس وهو يقول : الصلاة على الميت .
أدينا الصلاة ، وتقدم الناس لحمل الجنازة إلى السيارة المعدة لهذا الأمر ، وسألتُ أحد الواقفين حولي عن المُتَوَفَّى مَن يكون ، فقال : (فلان بن فلان ) التاجر المعروف . يالله !!! إنه صديقي بل أخي ،صدق العُمُر ... صُدمت ، حزنتُ ، سألتُ الله له الرحمة ، وإني لأشهد له بالصلاح والمحافظة على الصلوات ، وعلى صدقه و ورعه في عمله التجاري ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا نزكي على أحدا .
توفي بسكتة قلبية رحمه الله في الليل ولم أعلم بالخبر ،وكان بيني وبينه حسابات تخص عملنا في التجارة ، وبعد فترة من الحادث بدأت أصفي حساباتي المادية مع ورثة الفقيد ــ يرحمه الله ــ
وكنت أعلم أن عليه دينا لأحـــــــــــد التجـــــــار مقداره ( 300000 ) ثلاث مئة ألف ريال ، فطلب مني التاجر أن أذهب معه للشهادة بخصوص الدين عند أبناء المرحوم ، وحيث إن الدين لم يكن مثبتا بصكوك لأنه تم عبر عدة صفقات متبادلة بين التجار ، والثقة قائمة بين الجميع على امتداد الأيام . رفض أبناء المرحوم تسديد المبلغ لأنه لايوجد إثبات بصك شرعي ، ولأن العلاقة بيننا نحن التجار تحكمها الثقة فلم يوثق ذلك التاجر مراحل التسديد ، وردوا عليَّ شهادتي ، وقال لي كبير الورثة : (لم يترك لنا والدي سوى 600 ألف ريال ، فهل نسدد الدين الذي لم يهتم صاحبه بإثباته ونبقى بلا مال !!! ) . دارت بي الدنيا وتخيلت صديقي المرحوم معلقا في قبره مرهونا بدينه ، لا ثم لا .. كيف أتركك وأتخلى عنك ياصديق العمر وياشريك التجارة ، وياصاحب الخلق الرفيع ؟ بعد يومين لم أنم فيهما ،
وكنت والله كلما أغمضت عيني بدت لي ابتسامته يرحمه الله ، وكأنه ينتظر مني المساعدة ، فتوكلت على الله ، عرضت محلي التجاري بما فيه من بضائع للتقبيل والبيع ، وجمعت كل ما أملك ، فكان المبلغ 450 ألف ريال . حمدتُ الله كثيرا على توفيقه ، وقمت بتسديد ماعلى أخي المُتَوَفَّى ، وبدأت أفكر باستخدام مابقي لدي من المبلغ في التجارة ، وبعد أسبوعين جاءني التاجر الدائن للمرحوم وأعاد لي ( 100 ألف ريال ) وقال: إنه تنازل عنها عندما عرف أني بعت بضاعتي ومحلي من أجل تسديد دين صديقي المتوفى ، ولم يكتفِ هذا التاجر بذلك ، بل إنه ذكر قصتي لمجموعة من تجار المدينة ، والخير مازال موجودا في نفوس أبناء هذه الأمة المباركة ،
فاتصل بي أحدهم وأعطاني محلين كان قد حولهما لمخزن ، قائلا لي : لتعود لتجارتك من جديد ، بل وأقسم عليَّ أن لاأدفع له ولو ريالا واحدا .
وما إن استلمت المحلين ونظفتهما مع عمال هنود إلا وسيارة كبيرة محملة بالبضائع نزل منها شاب صغير في الثانوية وقال: هذه البضائع من والدي التاجر فلان
يقول لك عندما تبيعها تسدد لنا نصف قيمتها فقط والنصف الباقي هدية لك . وكل ما احتجت بضاعة فلك منا بضائع على التصريف ، الله أكبر ... الله أكبر .. أشخاص لا أعرفهم بادروا بمساعدتي ،جاؤوا والله من عدة نواحٍ ، وانتعشت تجارتي أضعاف ما كانت عليه قبل تلك الحادثة ، واليوم وبعد مرور بضعة سنوات أخرجت زكاة مالي وقد زادت أضعاف ماكنت أخرجها من قبل ، فلله الحمد والمنة . كنت أتذكر أخي وصديقي ، فأبكي والله على حال أبنائه بعد موته ، فلذات كبده لم يكترثوا بسداد دين والدهم طمعا بالميراث ،فأحزن والله أشد الحزن ، وألتفتُ إلى ماقام به تجار هذه المدينة المباركة تجاهي وتجاه الفقيد ــ يرحمه الله ــ فيغمرني فرح ، وأحمد الله على أن أمة سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم بألف خير .
وسوم: العدد 882