أقنعة المدينة المزركشة
لوّن وجهي بألوان كثيرة
صاخبة .. متعددة .. مثيرة
إن تُظهر حقيقتي فهي رغبة أثيرة
وإن تُخفي وباء مرضي
فهو فضل ومِنّة عظيمة
لا أريد قناعاً
بألوان مزركشة عتيدة
سيلتئم مع زركشة فضاء
مدينتي العتيقة
ليُخفي زيفاً .. ظُلماً
ليُجمّل المصيبة
والحقيقة بكل أسف
أن زركشة زيفها ..
هي كل الحقيقة
صديقي الذي أعرفه ويسكن بجوار داري .. أعرف سره وهو لا يدرك أني أسبر غوره.
صديقي الذي يُظهر لي كل المودة والاحترام ويعاملني بكل دماثة .. ظاهره فخامة .. وباطنه تغرقه العطانة.
صديقي وجاري .. الأنيق بالفطرة .. النجم الجاذب للأنظار، الآسر لقلوب النساء والغازي لأحلام العذارى .. أراقبه جيداً وهو لا يرى عيني.
جاري المتعطر بعطور يشمها الداخل لأفق الطريق، اكتشفت أنه ليس شريفاً .. وأن وسامة جاذبيته وطغيان حضوره ليس إلا الزيف يخفي كارثة
الحقيقة
جاري وصديقي .. أقسم أنه كل يوم .. وبعد أن تبلغ ظلمة الليل وقت السكون، يخرج متسللاً مترقباً متخفياً .. ليسرق.
يسري مقنعاً بقناع أسود
كل يوم يسرق وينهب .. ويعود بغنائم حرامه كأسمال محملة على كتفيه ولكنها مذهبة .. تبرق وتلمع بذهب مسروق، يفضح ببريق الإثم الحرام
زيف الرجل، ويزيح هشاشة قشرة مظهره.
أزلتها .. مزقتها .. ولم يفلح في إمساكها رغم القناع الأسود
************
صديقي المقنع بقناعه الأسود .. أشفق عليه.
لا أذمه بقدر ما أتوق لإصلاح نفسه وتقويم خُلقه.
رغم الحقيقة فإن قدره لم يَهّن عليّ حتى أبخس فضل شخصه، إستعصم أن يهوي في قاع الغيب بسمته، وحدثتني نفسي أن فضائله بظاهرها تطغى
وتتعالى على ما خفى من نقيصة أمره.
قررت أن أحادثه .. أن أصلحه، حتى وإن كان مقنعاً بالقناع الأسود، حتى وإن استمرأ أن يتقنع بقناع مزركش .. يتلوى بألوان ترتع.
************
وبعد منتصف الليل .. وفي عمق الظلام المكلوم .. وعند الميعاد اليومي لخروجه المذموم، بعدما حددته بكل دقة، انتظرته عند قارعة طريق دارينا،
أتى كعادته يختال بجسده ولغة حركات عوده .. بكل عضلاته وجُل عنفوانه وحرارة بطشه.
صديقي المقنّع الذي لم أره قط بقناعه الأسود، أراه الآن ولأول مرة بقناع حالك مقحوم باللون الأصفر.
إذن اللون الأسود يتنحى .. ويتهجن بلون آخر .. كذلك يتفرد.
اختبأت خلف جدار زاوية الطريق، وما أن مر أمامي حتى مددت ذراعي، أمسكت كتفه .. ليلتفت، انتفض وارتعد ونطقت عيناه بالذعروالكرب
والرغبة في الهرب.
ربّتُ على كتفه وعرّفته بنفسي .. فهدأ واستكانت خفقات قلبه.
وما أن سكن .. حتى استيقنت شيئاً وبان لي آخر .. استيقنت أن صديقي وجاري المقنع ليس مجرماً ولم يكن أبداً سارقاً بالفطرة.
وأما ما استبان لي وأخذ نظري فكان بهاء قناعه وتداخل سواده مع صفاره.
وددت لحظتها إن كان لي مثله يلثمني بحسنه وزركشة ألوانه وبدأ لساني يخاطبه وأنا أنتظر رده المقنع المتخفي وراء الأسود والأصفر.
- أوتدري أني منذ زمن أعرف سرك؟
- لا يهم أبداً منذ متى .. وكيف تأتى لسري أن ينجلي .. ولا لأنك أقحمت أنفك في عميق شأني .. ولا لفضولك المدان أن يجرؤ أن يهددني.
دهشت لشجاعته ولرباطة جأشه .. ولم أدر.. هل تمالك زمام ملكاته وعقص لجام ارتباكه وربما غضبه، لأنه يعرفني، أم لأنه بريء من ظني.
لاحظ صديقي انبهار قسماتي وابتسامة رضائي وانتشائي .. فعاجلني قبل أن أنطق
- جاري ورفيقي .. أرى الاستحسان على فمك وأنفك، أرى في عينيك هزيمة كل منطق، لو كنت مقنّعاً .. لو تلثمت بقناع مثلي .. يختال ويبرق،
لما فضحتك قسمات وجهك.
أحاول مجدداً أن أباغت .. أن أستعيد هيبة درع مكسور وسيف ساقط، أن أمتطي فرساً كفارس ترجل رغماً، أن أظهر براعة قائد مغوار مرابط.
- عزيز عليّ أن تبدل فطرتك، أشفق على سمعتك وسمتك، عرفتك شريفاً بخلقك .. باسمك، حزين أن تظهر للناس مجدداً وأنت تتخفى مجرماً
وراء قناعك الأسود .. هل تسرق؟
- هل انتهيت؟
- نعم .. أجل، فلا أرى لاتهامي كلمات أوقع وأبلغ .. توجع مثل قولي بكل بيانه .. وإن كان متهالك.
- فلتسمع إذن .. نعم أسرق، لكن للحقيقة وللمنطق أكشف لك وأوضح .. لعلك تفهم .. لعلك تُقدر .. لعلك تندم وتتروى .. لتزيح الظلمة ويدركك
النهار المصبح، لعلك تكون أنت نفسك داخل منظومتي وأنت لا تعِ أنك ميمون رابح ولا زلت تربح.
- كلماتك عميقة .. تجرح .. ولكني لا أفهم.
- تعاتبني لأني أسرق .. أم فقط لأنك ملثم بقناع يزيّن وجهي دائماً مبهجاً .. حدد اتهامك حتى لا أتخبط.
- بكل الحق يغرقني التعجب لأنك تسرق، وتغتالني الحيرة لأنك بالقماش الأسود تتقنع، أما وأنه اليوم .. لا أدري .. لماذا أقحمته بالأصفر؟
- إذن .. لتسمع جيداً .. أنصت .. فكر ودبر ولا تتنمر.
- آذاني كلها صاغية لك.
- أوتدري؟ .. سأخبرك سراً، كل المدينة تسرق .. رجالها ونساؤها .. شيوخها .. شيخاتها .. أطفالها القُصر .. حتى الخدم كلٌ في قصر سيده
يرتع، .. أوتفاجأت؟ هل اندهشت؟ .. أشفق عليك .. ربما أنت استثناء من قلة قليلة لا تسر بالإثم ولا تنزع حياءها فتعلن الفرق بيني وبين
المدينة أني أتوشح بقناعي الأسود .. ولكن بما أنك كشفت أمري .. ولا أصدق أنك بإمكانك حفظ سري، لزم عليّ الآن أن أثبت قولي .. وأن
أصحح دواخل عقلك .. وأن أعيد صبغ ألوان ضميرك بجُل مقدرتي .. سأجعل كل المدينة بحقيقتها لك تظهر، كلهم .. كلهم سيتقنعون بأقنعة
ملونة .. مزركشة، وكل قناع بِكَم ألوانه .. اختلاطها .. تداخلها وامتزاجها، سيتحدث .. انتبه الألوان هنا لها معنى ومغزى، القناع ذو اللون
الأوحد السائد .. بدون أي لون متداخل، صاحبه أكثر اللصوص شرفاً، إنه يسرق من أجل أن يسد رمقه .. أن يقهر جوعه .. لا لكي يعيش
دهراً .. القناع ذو اللونين .. صاحبه يسرق من أجل أن يترف .. أن ينعم برفاهية كاذبة كأهل المدينة، ولا عزاء لكل مسرف .. أما كل قناع
زادت ألوانه عن اثنين .. فاعرف أن صاحبه قد أوغل في قاع الجريمة وقد أسرف .. حتى إذا ما رأيت قناعاً بألوان متعددة .. متداخلة
تتزركش، فاعرف وتيقن بأن صاحبه بفطرة خبيثة متجذرة، وُلد وتربى وترعرع وهو بالحرام يزهو ويفخر.
- أوهكذا تكون مدينتنا؟! .. لن تلعب بعقلي لأصدق هذا المنطق، وكذلك لا أملك تكذيبك، فتصدُق وأبدو أنا كأبله أحمق .. هل تستطيع أن تثبت لي
جريمة مدينتنا؟ .. هل تملك عصا موسى فتشق عباب مدينتنا لتنطق؟ هل تقدر؟
- انتظر لترى .. وسترى
لوى وجهه وأحكم لثام قناعه وانصرف
وكذلك أنا .. التفت لوجهة داري .. لأعود .. وأنا أدعو أن يخزه الله في كل تهمة نطقها .. وألا يتحقق منها شيء فلا أرى واحدأً من أهل المدينة
بقناع ملون .. ولا لون سائد أبيض كان أو أسود
************
لم أنم ليلتها، إستبد بي الفضول .. علت أمواجه، مالت بي تماماً .. يميناً ويساراً عالياً وتحتاً .. حتى أغرقت رأسي وقطعّت أنفاسي قِطَعاً.
ما كان لي من اختيار إلا أن أذهب إلى نفس مكان لقائنا .. في نفس التوقيت الليلي، لأراه مرة أخرى.
وجاء الرجل المقنع .. صديقي وجاري، بفلسفته ورؤيته المطعونة، ورغم الظلمة .. لاحظت اختلافاً جذرياً في هيئته هذه المرة، كان يرتدي قناعاً
مزركشاً بألوان عدة .. تبرق وتلمع في شدة ظلام تلك الليلة، أما يده اليمنى فكانت تقبض على أنبوب محكم الإغلاق .. وبداخله غبار كثيف كأنه
دخان أبيض فر من حريق ليُحبس سجيناً داخل سجن صغير .. زجاجي مستطيل.
لم يُفاجأ بمقدمي ووجودي، كأن فراسته قرأت في عيني ليلة البارحة جموح رغبتي وانبهار فضولي .. وعاجلني:
- أهلا بك .. توقعت مجيئك.
- إذا كنت صادقاً فإني أشهد بفراستك.
- لقد صدقتك قولي منذ سؤالك الأول بالأمس .. هنا وفي ظلام يشابه ظلامنا هذا، أتصدقني في كبير الأمر وتشكك في أمر ضئيل مثل فراستي؟
- أنا لم أصدقك بعد، لم أُجزم بمخروج لسانك .. لا في كبيرة ولا في صغيرة.
- وماذا تريد إذن؟
- أسئلة أخرى أريد أن أستوضح
- ماتزال شكوكك متقدة .. فلتسأل
- كيف عرفت أن أهل المدينة كلهم سرّاق؟ هل رأيتهم؟ هل شاركوك سرقاتهم؟ وشاركتهم؟ ولماذا تربط بين السرقة والقناع بلونه الأوحد وألوانه
المختلطة .. ما العلاقة؟ كيف اكتشفت؟ كيف تسنى لك؟
- لتشحذ سمعك في بؤرة ملكاتك .. وانتبه .. أنا لم أقل كلهم .. بل أكثرهم، دائماً ما توجد قلة تأبى وتتمنع ولكن .. عندما تنتشر الفتنة .. عندما
تتعرض كل الأنفس لاختبارات عزيزة صعبة، هنا تستطيع أن ترى المعدن الحقيقي للقلة .. هل تصمد؟ هل تتعالى وتترفع؟ أم تهوى مع باقي
الأغلبية النتنة؟ .. أما عن يقيني بأنهم يسرقون، يفعلون جريمتهم ويستخفون .. فقد وعدتك أني سأكشف كل الحقيقة لنظرك، هناك من رأيته
رأي العين .. وهناك من يُضمر السرقة .. يخطط لها حتى تتاح له وتتيسر عند الحين، أما عن القناع وأحواله .. وسر اتصاله بحرامهم
وزركشة ألوانه، فهذا داخل في إطار تحقيق وعدي .. أن أكشف لك كل الحقيقة بغاية جهدي، لتصبر ولتطمئن ولتصدق، في غضون أيام قليلة
ستتعرى أمامك كل الحقيقة .. وأرجو ساعتها أن تراها مجردة بغير قناع، حتى وإن ارتدته هي .. وتلثمت به أنت، حتى وإن .. لم تر وجهي
بعد اليوم.
صديقي وجاري الملثم أمامي بقناع مزركش .. مُفوه مُقنع مُفحم، لماذا أشعر دوماً أني أتضاءل أمامه ولا أكبر مع يقيني بإثمه واعترافه به، هل هي
شجاعة منه أم أنها ثرثرة لسانه وسفسطةٌ تُبهر؟ .. لماذا ينتابني هذا الشعور الداخلي منذ أمس .. أنه نبي الله موسى .. وأنه سيسحرني ويُعجز؟ ..
أتشجع .. أقاوم بشدة مغناطيسية تأثيره وأسأله:
- ما تلك بيمينك يا صديقي؟ لماذا تتخفى اليوم وتتلثم من وراء باقة من ألوان مختلطة؟
- أمّا عن قناعي المزركش فأنت تنسى أو تتناسى ولا تتذكر، عما قريب ترى كل المدينة مُقنّعة، وقد صنفت لك أقنعتها، أما اليوم فيتعاظم إثمي
وتعلو جريمتي وأصل إلى أفق الذنب بيدي .. يدي، تسألني عما أمسكه بيدي اليمنى .. تماماً هذا ما سأحقق به وعدي، هي جريمة القرن
بمفهومها الأبدي، في غضون أيام قليلة تنجلي كل الحقيقة .. ولكن أوعدني .. إن رأيتني أو لمحتني في ذروتها .. فلا تنظر إليّ ولا تلاحقني.
لم أفهم تماماً مغزى كل ما قال، وهو .. لم يتريث ولا انتظر .. لوى رأسه كعادته وانصرف، وكل ما تذكرت من قسمات وجهه المتخفي وراء
الألوان .. كانت عينيك بكل الشرر، أحاول جاهداً أن أرسم في خيالي كل تفاصيل وجهه بدون قناع .. حتى إذا ما رأيته وسط الأحداث أناديه وأسأله،
لا أدري ماذا سيحدث وكيف سيكون؟ .. ولكن إحساسي بوعده أن القادم أسوأ مما شطح به خيال كل الحالمين.
************
صراخ .. عويل .. بكاء .. نحيب
استنجاد واستغاثة بأي قوة فوقية .. بالمجهول ذاته
هرج ومرج
بين عشية وضحاها انقلب حال المدينة كلها ..
ما الأمر ؟ .. ما هذا الخطب الفظيع؟
خرجت للطرقات في ذروة صباح النهار لاستكشاف الأمر، الناس تتساقط صرعى كأحجار الدومينو المرصوصة بانتظام، مئات وربما آلاف .. ثم ..
يكفي نفخة هواء هزيلة لتُسقط أولها .. فيتساقطون كلهم تباعاً، كلهم بلا استثناء.
الموتى في كل مكان، ورائحة الموت ذاتها تعبق هواء المدينة .. فلا يُشم غير تلك الرائحة الكريهة، لتنذر من لم يمت بعد .. أن أجله قادم .. سريعاً
مهرولاً ولا محالة، في غضون أيام .. ساعات أو حتى دقائق معدودة.
لا أجد من يحدثني .. يُفهمني ما استغلق على فهمي، الكل يجري في كل الأنحاء، الجميع يتخبطون ويتخابطون.
ومن بين الجموع .. من وسط الأعناق المشرئبة، ومن قلب صرخات اليأس المتعالية، وجدت كهلاً وقوراً جالساً في هدوء مثير للفضول والحسد،
اقتربت منه .. جلست بجانبه وسألته:
- عمت صباحاً يا سيدي.
نظر إليّ كأنه يستنكر جرم فعلته ويستهجن تحيتي، وقرر أن يرد ليصحح خطئي الذي لا أدريه.
- أيُ صباح يا بني .. ألا ترى هذه المهلكة والمقتلة؟
- مَن يقتل مَن؟
- هذه هي المصيبة .. إننا لا نرى القاتل ولا نعرفه.
- ما الأمر؟ .. هلا تفضلت وشرحت.
- إذن .. أنت لا تعرف .. ولك عذرك، يبدو أنك لم تخرج من دارك ولا تعرف أخبار المدينة التي هي بالضرورة ستكون أخبارك، المدينة
أصابها وباء خطير، قالوا أنه فيروس قاتل .. يصيب رئاتنا ويخنق أنفاسنا، كما ترى .. الجموع تتساقط كأوراق الأشجار في عنفوان الخريف.
وبينما الرجل يستكمل شرحه ويسرد شكواه وهمه، عاد عقلي واسترجع آخر مشهد لي مع جاري منذ ليلتين مضيا، واستوقفتني ذاكرتي عند تفاصيل
مشهد الأنبوب الزجاجي بيده اليمنى .. بدخانه الأبيض المحبوس .. وعن وعده وقسمه أنه سيرتكب جريمة القرن بما يمسكه.
بان كل شيء وانكشف، هذا الملعون أقسم وبر بقَسمِه .. لم يكن هذا الأنبوب إلا الموت يتخفى بين تلافيف دخانه الأبيض .. الفيروس القاتل والوباء
الأعظم.
كان عليّ أن أقوم من مقامي بأقصى سرعة
لا أدري .. هل لأهرب؟ أم لأستعد للوباء؟ أم .. لكي أُخطط للانتقام .. لاغتيال جاري الملعون؟
وعندما قررت وهممت بأن أقوم ودفعتني قدماي للنهوض، وجدت محدثي .. الرجل الكهل الوقور .. صريعاً ميتاً بجانبي.
************
قضيت ثلاثة أيام حبيساً في داري بملء إرادتي .. محتقناً بكل السخط، أريد أن أخرج لأصافح طرقات المدينة كما تعودت، ولكني خفت أن يصيبني
الوباء، وهلعت من فكرة أن أخِر صريعاً في عرض الطريق مختنقاً بفيروس لعين.
أريد أن أخرج لأهاجم وأسطو على دار جاري الذي كان يوماً ما في غابر الأيام .. صديقي، لأقتله .. فقط لأقتله، ولأنتقم لأهل المدينة من فعلته، بل
لأنتقم لكل البشرية التي سيصيبها الوباء من بعد .. بفعلته.
ولكني جبنت من مجرد طرح الفكرة، لأن بيده أصل الداء وسر الوباء، وإذا فعلتها واقتحمت عتبة داره .. سيلقي عليّ فيروسه من المسافة صفر،
وسيحدث بجسدي ما حدث بالإنسانية بعد إلقاء أول قنبلة نووية، من المؤكد أنه قد غادر داره .. بل أكاد أجزم أنه قد ترك المدينة كلها .. تغلي في بوتقة فيروسه
المميت .. وهرب، من المؤكد أن هذا المجرم قد هرب.
كرهت عزلتي .. وأردت أن أعرف أخبار المدينة وكيف تعاملت وستتعامل مع الوباء، أرغب أن أشارك في إسعاف المصابين وحمل الموتى رغم
احتمال العدوى، أريد أن أعلن لكل أحياء المدينة.
بعلو صوتي .. أريد أن أصيح فيهم من فوق أعلى بناية
(يا قوم .. أنا أعرف من نشر الوباء بينكم .. ليخترق صدوركم وليرديكم صرعى برئات تئن من قلة الهواء .. هذه صورته فاقتلوه).
كنت قد قررت أن أفعل هذا فعلاً، أن أدبر أي وسيلة لنشر صورته على أوسع نطاق .. بعد أن أخطب فيهم خطبة عصماء، ولكني لا أدري شيئاً عما
يحدث بالخارج، الجهل بالأحداث أشد وطأة من العُزلة.
أريد أن أخرج .. لابد أن أخرج .. سأخرج
************
فتحت الباب لأرى نور مدينتي المفتقد، اصطدم نظري بألوان كثيرة .. آلاف وربما ملايين، بهرجة بكل درجات ألوان الكون والأحياء .. وكل
الكائنات، الألوان كلها تتحرك وتتشابك وتصطدم في حركة سريعة .. أسرع من انهيار الشهب البيضاء في ظلام الليل القاتم.
أشحذ بؤرة بصري .. أعصر حدقة عيني لأحدد وأجسّم ما أفزع رؤيتي.
يا إلهي .. هرج ومرج مثل ما رأيت آخر مرة، كل البشر يجرون .. يلهثون ويتدافعون في اتجاهات مختلفة، ولكن هذه المرة .. كلهم أو أغلبهم
يرتدون أقنعة وقائية .. كلها ملونة بألوان كثيرة .. تحققت نبوءة الوغد.
أترجل لأرى أكثر .. لأستوعب ماهية مظهر هذا الحدث، في كل ساحة مذياع يذيع بصوت ذكوري أجش.
(أرجوكم .. ارتدوا الكمامات .. لتنجو من الوباء .. ارتدوا الأقنعة لتقوا أنفسكم من المهلكة).
وعند ناصية الطريق رجل مُقنّع بقناع مزركش .. يقف ماسكاً بأقنعة كثيرة ملونة .. مزركشة تماماً كقناعه، يتدافع إليه الناس ليشترون بضاعته،
وحولهم دوائر لمجموعات أخرى .. منهم من يهمهم بصوتٍ خفيض ومنهم من يصيح على استحياء
(الكمامات غالية .. أقنعتكم الملونة باهظة الثمن، كيف ننجو؟ .. سنموت هكذا .. نريد الأقنعة المزركشة)
وما لبث أن توحد الصياح وتجمعت الهمهمات .. لتعلو رويداً رويداً لتصير مثل هتافات الصفوف الأولى للثائرين على الطغيان عندما تشتعل
الثورات.
وعندما أيقن عديمو الأقنعة أنه لا فائدة من صياحهم .. وأنه قد حكم عليهم .. بحكم سابق محدد أن يكونوا بواكير الضحايا بسبب فقرهم، بدأ أولهم
وهجم على بائع الأقنعة .. خطف منه قناعاً وجرى .. فعلها وتجرأ .. ليتدافعون كلهم .. على الرجل ويطرحوه أرضاً .. سارقين كل أقنعته .. ليتركوه جثة
هامدة .. قتيلاً بعد أن داسوه بأقدامهم، ولم ينس آخرهم قبل أن يطأه أن يمد يده إلى قناعه .. لينزعه ويمضي به منتشياً.
ألتفتُ لكل ركن وكل زاوية في الساحة .. لأرى تطوراً خطيراً فاق مصرع بائع الأقنعة، كل من ليس له قناع يمسك سكيناً أو حجراً أو غدارة
ليصرع بها آخر مُقنّع ولينزع منه قناعه، الأجساد تتهاوى في كل ركن وزاوية، من لم يمت بالوباء .. مات صريعاً لأنه يمتلك قناعاً.
والعجيب والمرير كذلك .. والذي أكده لي بصري بعد أن انغمست في قلب الحدث، أن كل الأقنعة .. ملونة .. مزركشة.
************
ليس لي أي مفر الآن، إحتمال إصابتي بالعدوى كبيرة، لقد أخطأت عندما تركت داري وغامرت واختلطت بهذا الزحام المستعر المجنون .. بعدما
رأيت خيالات المجانين تتحقق مجسدة أمامي.
أريد كمامة .. أريد قناعاً لأحمي نفسي، لا أريد أن أهلك وسط تلك المهلكة.
أبحث يميناً ويساراً عن بائع جديد للأقنعة .. حي لم تطؤه أقدام الغوغاء، أبحث .. أجول بنظري وسط ضوضاء الفوضى ولا أجد .. كلهم صرعى ..
كلهم جثث متناثرة، سرقوا كماماتهم واختلسوا أقنعتهم ليعيثوا في المكان فساداً بجنونهم.
لا .. لن أموت صريعاً موبوءاً بفيروس خبيث كنت أول من شاهده قبل الانفجار، عار عليّ أن أبقى هكذا .. أكتم سراً فضحه مرهون بوقت عاجل
مؤجل، سأستحق بسببه الإعدام العلني .. هنا على رؤوس الأشهاد .. في هذه الساحة، لأصارع من أجل بقائي حياً .. حتى ينتهي الوباء، ثم لأجد هذا الملعون
جاري .. لأصرعه هنا بدلاً مني أمام الإنسانية كلها.
سينتهي الوباء .. حتماً سينتهي، كل شيء سينتهي .. لابد أن ينتهي، ولكني الآن في حاجة إلى كمامة .. قناع يحميني .. أريد قناعاً .. لابد لي من
قناع.
************
سيدة حدباء عجوز تمر بجانبي .. تمشي على مهل، وكباقي أهل الساحة ترتدي قناعاً جميلاً مزركشاً يزهو بألوانه.
أقترب منها .. وأجد لساني صريحاً صفيقاً يحدثها
(سيدتي .. أسألكِ بحق عمركِ المديد الذي عشتيه أن تعطيني كمامتكِ، إذا أصابكِ الوباء وانتهيتِ .. فلقد عشتِ ما يكفي ولا حاجة لكِ بسنين أخرى،
أما أنا فكما ترين .. مازلتُ شاباً وأحتاج لأنفاس الحياة، أما إذا نجوتِ من الوباء .. فستفخري بأنكِ وهبتِ لمثلي حياة أخرى .. سيدتي .. من فضلك .. أعطني
كمامتكِ)
السيدة تنظر إليّ بكل الازدراء، عيناها تقولان بكل الصمت
(نح عني أيها الملعون .. هل أنت أبله؟)
وأكاد أرى فمها من وراء قناعها يتحرك بعلامة الامتعاض
(سيدتي .. أرجوكِ .. أكرر طلبي .. أعطني قناعكِ لأعيش)
السيدة لا تضيع وقتها لمجرد النظر لمجنون مثلي، تعطيني ظهرها وتمضي ..
إذن لا مناص من الحل الآخر، لقد استخدمت الحسنى ولم تُجدِ، أمد يدي لتلابيب المرأة، أدير جسدها لأرى وجهها واضحاً نقياً أمامي، آخر نظرة
ألقتها عليّ قالت (إرحمني)، ألطمها بقوة لتسقط صريعة على الأرض.
لم أنتظر كثيراً، بدون ذرة إحساس بندم أو رجاء بمغفرة .. انتزعت القناع من على وجهها وارتديته .. ثم شققت طريقي وسط الزحام.
************
بمجرد أن استقر القناع على وجهي واستكان .. انتابني إحساس أن الجريمة تكسوني وأني مجرم عتيق .. عتيد في إجرامه.
أرغب في أن أقتل آخرين بشهوة جامحة .. أن أسرق كل ما أراه.
رفعت وجهي لأعلى لأرى أجواء المدينة، الألوان كثيرة .. فاقعة .. متداخلة .. مزركشة، بديعة تشبع نظري.
لا أدري .. هل هذه الرؤية بسبب قناعي المزركش؟ .. أم لأن أهل المدينة كلهم يرتدون مثل قناعي؟
وفجأة .. ومن على بُعد أمتار قليلة .. ومن بين سحابات الألوان المبعثرة .. ظهر صديقي وجاري الملعون .. واقفاً وسط الحركة، يرتدي قناعاً أسوداً
حالِك .. ينظر إليّ بعينين كلها حبور ونشوة لانتصارٍ بائنٍ مبين، أكاد أرى ابتسامة التشفي من وراء قناعه القاتم.
لوّح لي كأننا مازلنا جيراناً وأصدقاء ...
ثم ذاب واختفى وسط زحام الألوان ...
وتركني وحيداً وسط المدينة بقناعي المزركش .. وسط ساحة المدينة المزركشة.
الجمعة 5 يونيو 2020
الساعة 01:30 ظهراً
من على شاطئ البحر .. ال Marginal
لواندا – أنجولا
وقت الحظر بسبب جائحة كورونا
وسوم: العدد 882