أبو سعدج الفايزجي ( المرابي ) !؟
" أبو سعدج " عينان جاحظتان ، بطن متهدل، رأس مربع سقط أكثر شعره ، دمامة في الشكل ، قصر في القامة ، رثاثة في الهيئة !! لم أكن – وأنا دون العاشرة – أعرف شيئاً عن الربا والمرابين ، ولكن صورة أبي سعدج " الفايزجي " كما يسمونه في بلدتنا الصغيرة، كانت توحي إليّ بكثير من الأشياء مما يجعلني أتحاشى الوقوف على باب دكانه، دون أن أجد المبرر العقلي لهذا التحاشي ، إلا أنني أقلد الكبار في ذلك . وكانت خيالاتي الطفولية تزداد غنى من خلال تبريرات (أهل السوق ) لتصرفات أبي سعدج، بحيث أصبح صورة كريهة للتندر بين الناس .
فإن كان الرجل فيه شح يجعله يريق ماء وجهه من أجل الحصول على حوائجه بأرخص الأثمان ، قيل له بسخرية مُرّة : لقد سبقت أبا سعدج!
وإن كان آخر يشتري رخيصاً، ويبيع غالياً، فما أسرع ما يقال له بتهكم : هل صاحبت أبا سعدج؟!
وإذا قطع التيار الكهربائي لعطل طارئ ، تذكَّره أحد المهمومين من الدَّين ، ليقول في ألم ساخر : حتى في هذا الليل المظلم يستطيع أبو سعدج أن يفرق بين الليرات الذهبية !
وإن أذّن المؤذن في مسجد السوق، وأغلق التجار دكاكينهم ، غمز أحدهم بعينه ، وهو يعبر دكانه، ليهمس في أذن صاحبه بأن أبا سعدج يتمنى أن يطول خشوع المصلين، وأن يقرأ الإمام سورة البقرة في كل ركعة لينفرد وحده بالسوق ...
وإن تجاذب الناس أطراف الحديث عن الصلعان ، تحمس أحدهم، حتى يصل به الأمر إلى أن يقسم بأن أبا سعدج يحمد الله على صلعته، لأن ذلك يوفر عليه ثمن مشط يسرح به شعره .
وإن رأوه يحضر عرساً نظروا إليه شزراً وهو يأكل من الوليمة وقالوا : إن والد الزوج استدان منه بالفائدة ليزوج ابنه ، فها هو ذا قد حضر ليأكل من الطعام ، ويشعر الحاضرين أنه صاحب الفضل في الزواج.
وإذا جاء إلى تعزية وتظاهر بالحزن ، نظروا إليه مستنكرين وقالوا : إنه ربما كان الميت مديناً له بشيء ، لذلك بدا عليه الحزن ..
وإن أفاق باكراً، وتمشى قرب النهر ، تناقلوا فيما بينهم أن أبا سعدج ينتظر الريفيات المبكرات اللواتي يحضرن اللبن ليشتري منهن قبل وصولهن إلى دكان الوسيط ، وارتفاع السعر بعد أن يباع بالمفرق ...
وإذا جلس في المقهى ، وأخذ ينفث من دخان نرجيلته ، قالوا : إنه يُذكّر المقامرين بنفسه واستعداده لإقراضهم عند الحاجة .. وأن التنباكْ الموجود في رأس النرجيلة قد نفد ، ومع ذلك فهو يسحب منها، ليبرر تواجده وحيداً على الطاولة !..
ويموت أبو سعدج، وتمر السنوات ويتهدم أكثر السوق، وتتغيّر بعض المعالم فيه، ويصبح الصناع والأجراء الذين كانوا صبياناً، معلمين وأصحاب دكاكين ..
ويبقى دكان أبي سعدج كما هو ، بعد أن تحول إلى مكان ترمى فيه النفايات والمستهلكات ، وأكْبَرُ مع هؤلاء ... وتبقى صورة " أبي سعدج الفايزجي" في الذهن يستحضرها الخيال ... على الرغم من قبحها ، كلما رأيتُ مرابياً ، وذكرت المرابين .
الفايزجي : يقصد بها الذي يقرض بالفائدة ( أي بالربا )
وسوم: العدد 943