ترجمة الحاجة رشيدة
لم تكن رغبتي في سماع تفاصيل قصة الحاجة رشيدة الياسين نابعة فقط من الرغبة في نقلها مترجمة إلى مندوبة لجنة حقوق الإنسان التي جاءت إلى القرية لكتابة تقرير حول ممارسات جنود الاحتلال في القرية قبل أسبوع، بل كانت هناك رغبة أكبر تملأ كياني، أود أن أسمع صوت الحاجة رشيدة القوي وأحدّق في وجهها، أود أن أدير الحديث بأية طريقة لأجعلها تتحدث عن أيام زمان وعن "هداة البال" وعن الحاج طاهر زوجها المرحوم.
حين رن جرس التلفون كنت أهم بإغلاق الباب لأذهب إلى السوق، فقد رفع نظام منع التجول عن المدينة منذ ربع ساعة بعد أن دام أسبوعاً كاملاً ولا بد من شراء بعض الحاجيات قبل فرضه ثانية، وزيارة بعض الأصدقاء إن أمكن. امتعضت لسماع الجرس فربما أتأخر بسببه. كان المتحدث صديق يعمل مع هذه اللجنة، قال بأن مندوبة من طرفهم تود زيارة قريتي وأنهم يرغبون في أن يرافقها شخص من القرية إن أمكن حتى يعرّف الناس بها درءاً للشكوك من جهة وحتى يترجم لها أقوال الناس لأنها لا تتقن العربية. سألته عن برنامج الزيارة لأفكر باسم مناسب لذلك، قال بأنه اعتماداً على تقرير صحفي في إحدى الصحف العبرية فإن لديه ثلاثة أسماء يرغبون في سماع شهاداتها عما حدث، وقد تفرز هذه الشهادات حاجة لسماع شهادات أخرى، بدأ بذكر الأسماء: الحاجة رشيدة الياسين، عدنان خليل الناصر .... وقبل أن يذكر الاسم الثالث قلت له بأنني سأتطوع للقيام بهذه المهمة بنفسي. اتفقنا على الموعد، "سأنتظر المندوبة في مدخل القرية غداً ما بين التاسعة والتاسعة والنصف صباحاً".
آه يا حاجة رشيدة، ساق الله على أيام زمان، أيام الدار الكبيرة والعقد والبير والساحة والعفرتة وملبسك الحامض حلو، ما الذي حدث في القرية وكنتِ الشاهد عليه. لم تذكر الأنباء سوى أن مصادمات قد حدثت في القرية، والصحف لا تصل خلال منع التجول.
توجهت إلى القرية حالاً قبل أن يفرض حظر التجول ثانية، فرصة أن أنام الليلة في القرية وأكون موجوداً غداً صباحاً. مدخل القرية، حاجز حجري للشباب، الأعلام الفلسطينية ترفرف على أعمدة الكهرباء، توقفت على الحاجز، فتحوا الطريق حين تعرفوا عليّ، لم أتعرف على أي من الوجوه الملثمة، أخبرتهم عن المندوبة التي ستصل غداً، سألوا هل ستصل بسيارة ذات لوحة صفراء أو زرقاء، أجبتهم بأنني لا أدري، ولكنني سأنتظرها على الشارع المؤدي إلى القرية وسأكون معها على المدخل.
كان المطر خفيفاً في الصباح، الشمس تظهر لحظة ثم تختفي، قطعت القرية من غربها إلى شرقها، جوانب الشوارع تحكي بعض ما حدث، أكوام الحجارة والزجاج وبقايا الإطارات المحترقة. في الليلة الماضية سمعت من أكثر من شخص عما حدث: دخل الجيش القرية بعد صدامات عنيفة، اقتحم الكثير من البيوت، حطم الأثاث، اختفى الشباب، لم تخرج الحملة إلاّ ببعض الأولاد الذين لم يهربوا من بيوتهم لأنهم اعتقدوا أن أحداً لن يسألهم لأنهم لم يشاركوا في شيء، صب الجنود كل حقدهم وغضبهم على هؤلاء، كان وائل ابن أحمد الجابر أحدهم. ربطوه بعمود الكهرباء، بدأوا بضربه بالحجارة، أطلقوا النار حول رجليه وفوق رأسه، كان يستغيث ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه إلاّ الحاجة رشيدة، تقدمت نحوه فدفعها الجنود، وقعت على الأرض، أرهبوها بإطلاق النار فوق رأسها، لم تتراجع ووصلت وائل وحررته من العمود، أخذته إلى بيتها، يبدو أنهم لم يكونوا يريدون اعتقاله وهو في تلك الحالة.
***
دار الحاج طاهر، أو دار الحاجة رشيدة، حتى قبل وفاة الحاج طاهر كان بإمكانك أن تقول دار الحاجة رشيدة من غير أن تغضب الحاج طاهر. الحجارة البيضاء، البرندة الشمالية، شجرات الليمون، أحواض الأزهار، البوابة الخضراء المفتوحة دائماً مغلقة على غير عادة. طرقت بقبضتي، جاء صوتها المميز من الداخل مستفسراً، وقبل أن أرد على سؤالها كانت فتاة تخرج من البرندة نحو البوابة لتفتحها، سألتها عن نفسها وعن حال الحاجة، أجابت بأنها بنت الجيران وأن الحاجة في الداخل ولا تستطيع النهوض بسبب رجلها.
تقدمت من الحاجة في فراشها، سلّمت وسألتها عن صحتها وعن ابنها الغائب وأولاده وهل تصلها منه رسائل، عاتبتني على قلة الزيارة فاعترفت بتقصيري واعتذرت. تقدمت المندوبة منها وسلّمت عليها وقالت مساء الخير وكيف حالك، ضحكت الحاجة وعلّقت "الدنيا الصبح يا بنت الناس". عبّرت المندوبة عن إعجابها بترتيب الغرفة، جو شرقي حقيقي، وأعادت على مسمعي إعجابها بالشرق ومحبتها له، الغرفة مفروشة على محيطها بالفرشات الصوفية، كانون النار النحاسي وإبريق القهوة النحاسي، الوسائد المطرزة، وكيس مطرز معلق فوق فراشها يحتوي المصحف الشريف. استفسرت الحاجة عما قالته المندوبة، ترجمت لها الأقوال فضحكت، استغربت هذا الإعجاب، "على ماذا تحسدنا هذه الأم عيون زرق" وأضافت "قل لها أن تصلي على النبي". ضحكت، كيف سأترجم لها، ستسألني وما دخل العيون الزرق بالموضوع، "يا سيدتي، أنا نفسي لا أدري لماذا يخاف الناس في بلدي من العيون الزرق، ربما لأنها ترمز للأجنبي"، ضحكت وطلبت مني أن أعرّف الحاجة رشيدة بهويتها وأنها صديقة أمريكية وتدافع عن حقوق الإنسان، وافقت بشرط أن أكتفي بالقول بأنها أجنبية حتى لا أثير حساسية الحاجة ضد الأمريكان، لكن الحاجة كانت لي بالمرصاد "أجنبية، من أي بلاد يعني؟".
كانت مهمة الترجمة صعبة، عليك أن تشرح للمندوبة كل ما تقوله الحاجة، وحديث الحاجة ذو شجون كثيرة، ووسط الحديث تتذكر الحاجة أن عليها أن تؤكد على دعوة الغداء لك وللضيفة حتى لا تظن هي أو تظن أنت أو أحد من الجيران الحاضرين أن الدعوة كانت مجرد رفع عتب، ومما يزيد الأمر تعقيداً أن الحاجة ببيتها وحديثها فتحت لك أبواب الذكريات والمواجع فأردت أن تفتح ذاكرتها على أيام زمان لتسمع منها حديثاً عن الزيتون والبيادر والدار القديمة وحين أنقذتك من "علقة" ساخنة بحزام الجلد عندما وقفت بينك وبين والدك وحلّفته بحبيبه الرسول أن يتركك فتركك رغم أنها هي التي اشتكت أمر عفرتتك إليه. هل اعتقدتْ أنها كانت تقوم بمهمة مشابهة حين تقدمت لإنقاذ وائل من أيدي الجنود؟ كان بودي أن أسألها لكنني خفت أن أثير سخريتها وسخرية الحاضرين.
من بين كل تعاريج الحديث وشجونه، وتحت إلحاح المندوبة بأن تركز الحاجة في حديثها على ما حدث لأن الوقت يمضي وأمامنا سماع شهادات أخرى، كنت ألتقط كلمات الحاجة رشيدة وحركات يديها ووصفها الدقيق لما جرى لأضعه في ترجمة تصبح شهادة في ملفات اللجنة، وأسأل نفسي: هل سيجدي كل هذا في تخفيف المعاناة؟ قرأت الجدوى في عيون الحاجة، كانت تشعر بالارتياح كلما أنهت فقرة من حديثها وأفسحت لي المجال للترجمة ورأت اهتمام المندوبة.
أغلقت المندوبة دفترها ووضعته في الحقيبة، شكرتُ الحاجة، ووعدتها بأن أزورها قريباً، رشفت آخر رشفة من فنجان القهوة، دعوت الله أن أشربها في المرة القادمة مع ابنها محمد في البيت. أحكمت إغلاق البوابة، مضينا نحو شهادة أخرى وكلمات الحاجة رشيدة مرسومة في ذهني صوراً كاملة التفاصيل كأنني كنت شاهداً على ما حدث.
***
واستقرت إفادة الحاجة رشيدة في ملفات اللجنة: سمعت الحاجة رشيدة صوت الرصاص، لم يكن بعيداً، سمعت معه رطن الجنود وزعيقهم، رمت صرة العدس التي كانت بيدها، كان الوقت ضحى وكانت تحضر للغداء، اشتهت العدس المجروش، كانت الجارات يسترقن النظر من خلف الأبواب المشقوقة، نظرت إلى آخر الشارع، طار عقلها، ولد مربوط بالعمود، لم تعرفه ولم تسأل نفسها من يكون، كان الدم يغطي رأسه ووجهه وملابسه، لم يكن بعيداً، مقابل دار عارف الصالح، حملت عكازتها واتجهت نحو المكان، انتبه الجنود لوجودها، صرخوا عليها "روخ بيت"، تقدمت، هجم أحد الجنود ودفعها، وقعت على طولها، طارت العكازة، نهضت وأحضرتها وتقدمت، هجم عليها مرة أخرى ودفعها، كانت الوقعة أخف هذه المرة لأنها كانت منتبهة، نهضت مرة أخرى ومشت نحو العمود، أطلقوا النار في الهواء، رفعت عكازتها وقالت "ما بتخافوا الله"، وصلت العمود، قالت للصبي "ما تخاف يا ستي"، بدأت بحل قطعة الحبل، هجم عليها جندي وشدها، تمسكت بالولد وقالت لهم "هذا ابن ابني"، الظاهر أن الجنود صاحوا بالجندي الذي كان يشدها، تركها وذهب لجماعته، فكت عقدة الحبل وحضنت الولد، فطنت للجنود، كانوا يبتعدون من الحارة، سحبت الولد من يده، مشت مسافة ووقعت، حضر الجيران ساعدوهما هي والصبي، كانت رجلها تؤلمها، وصلت الدار، حضر الدكتور خالد، نظف جروح الولد وضمدها، فحص رجلها، الحمد لله، لم يكن كسراً، مجرد رضوض، لكنها مؤلمة جداً، أعطاها دواء، كتب للصبي وصفة طبية، غفت بعد أن أخذت قرصي دواء. استيقظت بعد وقت فلم تجد الصبي، أخبرها الجيران أن أهله قد جاؤوا وأخذوه، علمت منهم أنه ابن أحمد الجابر من الحارة الغربية، دعت الله أن يحميه لأهله، تذكرت أنه في عمر حفيدها سامر، لو كان سامر هنا في القرية لحدث له ما حدث لوائل.
وسوم: العدد 952