أولياء الله الصالحين
رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت، قدَّر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان، فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي : ما أقدمك هذه البلاد ؟ قلت : كان قصدي إليك، ومعوَّلي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع إليَّ من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي، لأدرك بركة أنفاسك، وأحظى بعلوِّ إسنادك .
فقال : وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حقَّ معرفتي، لما سلَّمت عليّ، ولا جلست بين يديَّ، ثم بكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حضره، ثم قال : اللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا .
يا ولدي، تعلم أني رحلت أيضاً لسماع " الصحيح " ما شياً مع والدي من هراة إلى الداووديِّ ببوشنج، ولي دون عشر سنين، فكان والدي يضع على يديَّ حجرين، ويقول : احملهما، فكنت من خوفه أحفظهما بيديَّ، وأمشي وهو يتأمَّلني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي حجراً واحداً، فألقي ويخفُّ عني، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي، فيقول لي : هل عييت ؟ فأخافه، وأقول : لا ، فيقول : لم تقصِّر في المشي؟ فأسرع بين يديه ساعةً، ثم أعجز، فيأخذ الآخر، فيلقيه، فأمشي حتى أعطب، فحينئذ كان يأخذني ويحملني .
وكنا نلتقي جماعة الفلاحين وغيرهم، فيقولون : يا شيخ عيسى، ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج، فيقول : معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل نمشي، وإذا عجز أركبته على رأسي إجلالاً لحديث رسول الله ورجاء ثوابه .
فكان ثمرة ذلك من حسن نيته أني انتفعت بسماع هذا الكتاب وغيره، ولم يبق من أقراني أحد سواي، حتى صارت الوفود ترحل إليّ من الأمصار، ثم أشار إلى صاحبنا عبد الباقي بن عبد الجبار الهرويِّ أن يقدِّم لي حلواء، فقلت يا سيدي، قراءتي لجزء أبي الجهم أحُّب إليّ من أكل الحلواء، فتبسَّم، وقال : إذا دخل الطعام خرج الكلام، وقدّم لنا صحناً فيه حلواء الفانيذ، فأكلنا، وأخرجت الجزء، وسألته إحضار الأصل، فاحضره، وقال : لا تخف ولا تحرص، فإني قد قبرت ممن سمع عليّ خلقاً كثيراً، فسل الله السلامة .
فقرأت الجزء، وسررت به، ويسَّر الله سماع " الصحيح " وغيره مراراً، ولم أزل في صحبته وخدمته إلى أن توفي ببغداد. قلت : وبيَّض لليوم وهو سادس الشهر قال : ودفنّاه بالشُّونيزيَّة. قال لي : تدفني تحت أقدام مشايخنا بالشُّونيزية، ولما احتضر سندته إلى صدري، وكان مستهتراً بالذكر، فدخل عليه محمد بن القاسم الصوفيُّ، وأكبَّ عليه، وقال : يا سيدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» فرفع طرفه إليه، وتلا : " يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ " [يس: 26- 27] فدهش إليه هو ومن حضر من الأصحاب، ولم يزل يقرأ حتى ختم السورة، وقال : الله الله الله، وتوفي وهو جالسٌ على السجادة.
وسوم: العدد 954