البليونير
لطالما أثار ملوك الفولاذ والنفط وسائر الملوك الآخرين في الولايات المتحدة خيالي بقوة كبيرة . وبدا لي على وجه اليقين أن هؤلاء الناس الذين يملكون كل هذا المال الوفير لا يمكن أن يماثلوا الآخرين الفانين من أمثالنا ؛ فلابد أن لكل واحد منهم _ كذا قلت لنفسي _ ثلاث معدات ومائة وخمسين سنا على الأقل . وأيقنت أن المليونير لا يكف عن الأكل من السادسة صباحا حتى انتصاف الليل . وغني عن البيان أنه يأكل أجود أصناف اللحم وألذها . ولا ريب في أنه يشعر بالإعياء قبيل المغرب من المضغ إلى حد أنه _ كذا تخيلت _ يأمر خدمه باهتضام الوجبات التي ازدردها راضيا في النهار . وبعد أن يرتخي ويغطيه العرق ويقارب الاختناق يُجبَر على المضي إلى فراشه بمعونة خدمه ليكون صباح الغد الساعة السادسة مقتدرا على الابتداء ثانية في الأكل . ومع ذلك سيستحيل على هذا الرجل _ مهما تكن الأوجاع التي قد يتكبدها _ أن يستنفد حتى نصف عوائد ثروته . والمؤكد أن هذه معيشة فظيعة ، إنما ماذا في مقدور شخص واحد أن يفعل ؟ ماذا في مقدور مليونير _ ماذا أقول ؟ _ بليونير واحد أن يفعل إن كان لا يستطيع أن يأكل أزيد مما يأكله كل فانٍ عادي من بني الإنسان ؟ وتخيلت أن هذا المخلوق المتميز يلبس ثيابا داخلية من الذهب وينتعل أحذية مساميرها من الذهب أيضا . ولا ريبة في أن ثيابه _ المصنوعة من أنفس صنوف المخمل _ طولها في الأقل خمسون قدما ، ومزررة بثلاثمائة زرار من الذهب . ولا ريب في أن الضرورة
الملزمة تجبره في الإجازات على لبس ستة أزواج من السروايل الغالية مع كل بدلة . ومؤكد أن هذا اللبس لا راحة فيه البتة ، ولكن إن كان المرء على هذا القدر من الثراء الواسع فما في طوقه أن يلبس مثل سائر الخلق . وتصورت جيب البليونير من الضخم بحيث تجد الكنيسة أو مبني مجلس الشيوخ متسعا فيها بسهولة . وخيلت لنفسي بطنه في حجم سفينة عابرة للمحيط وليس في قدرتي بيان طولها وعرضها . ولم أستطع أن أكون لنفسي فكرة بينة عن جِرم البليونير ، وإن افترضت أن غطاء السرير الذي ينام عليه من مئات الياردات المربعة . أما إن كان يمتضغ الطباق فلاشك في كونه يمتضغ أحسن صنوفه ، فيحشو فمه برطلين كل مرة . وحين يتسعط _ كذا فكرت _ فلا شك في أنه يستهلك رطلا من السعوط على الأقل في المرة الواحدة . ولا ريب في أن لأصابع يديه مقدرة سحرية على الاستطالة متى شاء . وفي القوة الروحية تخيلت بليونيرا من نيويورك يمد يده عبر مضيق بيرنج ليستعيد دولارا تدحرج في مكان معين في الطريق إلى سيبيريا دون إجهاد نفسه في الاستعادة . والغريب أنني ما كونت لنفسي فكرة جلية تخص رأس هذا الوحش ؛ فقد تبدى لي الرأس شيئا مستزادا تماما عن حاجة جسم مكون من عضلات وعظام ضخام صنعت لتعتصر المال من كل الأشياء . ومن له الآن الاقتدار على تصور انذهالي حين اقتنعت _ في مواجهة أحد هذه الكوائن الخرافية_ بأن البليونير إنسان يماثل سائر خلق الله ؟ فقد رأيت شيخا ذابل البدن يسترخي مستجما في كرسي ذي ذراعين ويداه البارزتا الأعصاب مطويتان على جسم مألوف الأطراف . كان محياه الرهْل البشرة حليقا أنيقا ، وتغطي شفته السفلى الهدلاء فكين صلبين زرعت فيهما أسنان ذهبية ، أما الشفة العليا الناعمة والضيقة والباهتة فلا تكاد تتحرك حين يتكلم . وكان له عينان لا لون لهما ولا حواجب ، وجمجمة كاملة الصلع . ولا ريب في أنه جال في بال الناظر إليه أن قدرا قليلا من الجلد لازم لذلك الوجه الضارب إلى الحمرة ولتلك السمات الغُفْل من التعبير والمتغضنة مثل سمات وليد جديد . أكان ذلك الإنسان في مبتدأ حياته أم كان يقترب من منتهاها ؟ ولم يكن في لبسه ما يميزه عن كل فانٍ عادي من بني آدم . وكان خاتمه وساعته وأسنانه هي كل ما يحمل من الذهب ، وقيل إنها تقارب نصف رطل . والرجل في جملته يذكرنا بمرأى خادم مسن لعائلة من عائلات الذوات الأوروبية . ولم يكن في رياش الغرفة التي استقبلني فيها أي مجلى من مجالي البذخ غير المألوف ، وكل ما يمكن قوله عنه إنه متين . وعلى قَسْري عنَ في بالي إذ كنت أشاهد قطع الرياش الثقيل أن الفيلة تكثر دخول بيته . سألته غير مصدق ناظري : أنت البليونير ؟
فرد في اقتناع بإيماءة من رأسه : نعم . حقا .
_ ما مقدار ما تأكل من اللحم في الفطور ؟
فاعترف يقول : لا آكل أي لحم في الصبح . آكل ربع برتقالة ، وبيضة ، وأحتسي كوبا صغيرا من الشاي . هذا كل شيء .
وطرفت عيناه البريئتان _ اللتان تشبهان عيني طفل _ ببريق خابٍ كأنهما قطرتا ماء موحل .
قلت ثانية شبه محبط : طيب . كن أمينا معي ! قل الحقيقة ! كم مرة تأكل في اليوم ؟
أجاب هادئا : مرتين . أجتزىء بالفطور والغداء . أتناول في الظهيرة حساء ، وشريحة لحم أبيض صغيرة ، وخضرا ، وفاكهة ، وفنجان قهوة ، وسيجارا .
ازداد اندهاشي وتنفست وواليت أسئلتي : لكن إن كان ما تقول صحيحا فماذا تفعل بمالك ؟
_ أربح به مزيدا من المال .
_ لأي غاية ؟
_ لأربح مزيدا فوق المزيد .
كررت سؤالي : لأي غاية ؟
فمال نحوي معتمدا بيديه على ذراعي كرسيه وقال وشيء من الفضول بادٍ على محياه : لعل بك مسة جنون !
_ وأنت ؟
فأمال رأسه وقال صافرا صفرة ناعمة من بين أسنانه الذهبية : مهرج صاحب حركات . أنت أول إنسان أتعرف عليه من نوعيتك .
ثم رد رأسه للخلف ، وتطلع إلي صامتا متفحصا بعض الحين .
سألته ثانية : ماذا تعمل ؟
فرد موجزا : أكسب المال .
فصحت مبتهجا حاسبا نفسي بلغت أخيرا كنه سره : أوه ! إذن أنت مزور !
فانفعل وارتجف سائر بدنه ، ودارت عيناه بتأثر ، وقال بعدما سكن ثائره : ما سمع أحد بذا من قبل .
ونفخ وجهه ، ولا أدري لماذا . وتفكرت ، ثم سألته : كيف تكسب المال ؟
فقال : أوه ! بسيطة جدا . أمتلك سبل قطارات ، والمزارعون ينتجون الغلال النافعة التي أحملها إلى الأسواق ، وأحسب لنفسي حسابا دقيقا كمية المال التي يجب أن أتركها للمزارع حتى لا يجوع ، وليظل قادرا على مزيد من الإنتاج ، والباقي أحفظه لنفسي أجرة نقل .بالتأكيد هذا بسيط جدا .
_ وهل المزارعون راضون به ؟
رد في سذاجة طفل : لا أحسبهم راضين . إنما يقال إن الشعب لا يرضى أبدا . دائما ثمة أناس يريدون المزيد .
* للكاتب الروسي مكسيم جوركي
وسوم: العدد 986