يلوح للريح
كنت أراه احيانا على الشارع الرئيس الموصل بين بيرزيت ورام الله، بالقرب من أبو قش يحمل عصا رفيعة ويتمشّى يحدق في الوجوه المصادفة من خلف نوافذ السيارات. كانت له على هذه الحال سنوات كثيرة. ولأنني أعرف أخاه، فقد كنت التقيه في صالون منزله الريفي. يدخل لبرهة قصيرة ثم يخرج بسرعة. التحية قد لا يلقيها. يتناول طعامه أو يقضي غرضه ويسرع نحو قطيع الأغنام يسرح به إلى الخلاء.
لا أدري من أخبرني أنه كان يعمل في كافتيريا الجامعة، وهناك تعرّف على طالبة من غزة من عائلة معروفة لا اريد ذكرها. في ذاك الوقت، قبل الانتفاصة الأولى وخلالها، كان يمكن للمقتدرين من غزة الدراسة في بيرزيت. يقولون أن الطالبة لهت به وأن شيئا حصل له ووقعت مشكلة علنية فترك العمل. وتغيرت حتى ملامح وجهه ومشيته وتراجع كلامه و ندر. لا يثق إلا بأغنامه. وجهه الأسمر خلا من التعابير، لكن ثمة ما يشبه السذاجة لم أكن متاكدا من أصلها. فحسب الوصف كان ذكيا وحيويا لكنه لم يدرس في الجامعة، وصار أقرب للعته. لقد تحنطت ملامحه وتقلص وعيه أو ادراكه للأشياء ومبالاته، واستقر عالمه، مع نسيان للتفاصيل المباشرة، في الحقول والأغنام والمشي على الشارع الرئيس والانعزال.
مع ذلك، على الشارع، كان يلوح من وجهه إلى الريح ما يشبه الفرح.
هل نسي عذاباته واختار البسيط المريح، أم نقلها لسريرته وأطبق عليها بالصمت؟ هل انتقى تفاصيله الخاصة واختار أن يدور داخلها؟ هل لا يزال يراها مصطفة في الدور بانتظار تسلّم وجبتها، مسرورة رغم أي شيء باهتمامه بها، تنقل التفاصيل لصاحباتها يوما بيوم مزهوة واثقة ضاحكة ساخرة لاهية، وفي اللحظة التي يحاول هو بعد شهور جعلها وقائع تنقلب غاضبة وتتسبب بفضيحة على الملأ؟
كانت تعني له نفسه التي يحاورها، وما في الأنثى من مباهج، والعائلة التي لم تمدّه بالمشاعر التي يحتاجها، والناس الذين سترتفع منزلته عندهم، وأبواب مستقبل يمكنه أن يدخله مطمئنا أنها معه، وجدوى من أنفاس الحياة. ألف عناء اختبر وتركت الاختبارات خيوطها التي انعقدت عليها، الطالبة.
وفي لحظة واحدة، تدمّر كل شيء.
ومع أنه مات الآن، أراه بالقرب من الحرش يمسك عصاه الرفيعة، معطفه الأخضر مفتوح، متوسط القامة، عيناه تفتّشان في نوافذ السيارات عن وجه بعينه مؤمنا بقدرة المصادفة أو غير المصادفة على الوقوع.
وبوسعه دائماً إذا لم يحصل شيء الغناء للأغنام والأشجار.
وسوم: العدد 1082