ثورة الجذور
خديجة وليد قاسم ( إكليل الغار )
(1)
رغم سنواته السبعين ..لم يترك أبو أحمد عادته التي دأب عليها منذ سنين طوال ..فلا يمكن أن تراه عندما تمر الساعة التاسعة مساء من باب مقهى السعادة إلا و كوب الشاي بين يديه يرتشفه في لذة غريبة ، و كأن هناك علاقة ما لا يفهمها أحد تجمعه بهذا الكوب العجيب .. و لا ينافسه في عادته هذا ، إلا الابتسامة المشرقة التي ترتسم على محيّاه دوما ، حتى في أحلك الظروف و أقساها .. ابتسامته التي ارتبطت به ارتباطا و ثيقا و التي جعلته قريبا من الناس ، محبوبا منهم .
رغم محاولته هذا المساء رسم ابتسامة صادقة على وجهه كعادته غير أنه لم يستطع إخفاء معالم الحزن الذي لا يخفى على من يعرف أبا أحمد و يعرف جمال وإشراقة ابتسامته ..
- ما بك يا أبا أحمد .. لماذا أراك اليوم حزينا ؟
و كأنه كان في غفوة ، استيقظ منها على صوت أبي عاصم :
- لا شيء .. لا شيء يا أبا عاصم ، أنا بخير والحمد لله .
- بخير ؟! لا تحاول إخفاء حزنك عني ، أتظن أن صحبة أربعين عاما ليست كافية لأن أعرفك وقت فرحك و وقت حزنك ؟.. أبا أحمد ، لا تكتم الألم في داخلك و إلا سيتحول إلى جمرة من نار تحرقك .
- إييييييه يا أبا عاصم .. لم يستطع أبو أحمد الاستمرار في إنكار حزنه ، بل و لم يحاول مسح دمعة فرّت من عينه على حين غفلة من رقابته عليها .
لستَ غريبا يا أبا عاصم ، تعلم جرحي الذي بدأ نزفه قبل عشرين عاما ، منذ سافر أحمد إلى ألمانيا ليكمل دراسته ، منذ ولج عالم الغربة التي آلمتنا و كوتنا بنار لا ترحم .. تعلمُ أنه بعد خمس سنوات من سفره ، انقطعت أخباره عنا تماما ، لا هاتف ، لا رسائل ، لا خبر يأتينا من طرفه يطمئننا عنه و يبرد نار قلبي ، و لعلك تذكر ما قمت به كي لا تتألم أمه المسكينة ، كنت أوهمها أنه بخير ، عبر رسائل وهمية ، أكتبها أنا و أقرأها على مسامعها بما يطيب خاطرها و يسعدها ، بل و أمعنت في ذلك ، حين استفدت من الشبه بين صوتي و صوته ، فكنت أكلمها على أنني أحمد .. رغم أنها كانت تبدي استغرابها أحيانا ، و تقول ، أصبح صوت أحمد كأنه صوتك تماما .. كنت أهز رأسي مواريا دمعة تحجرت في زاوية مقلتي ، دون أن أنبس ببنت شفة .
بالأمس يا أبا عاصم ، بينما كنت أجلس معك هنا نلعب الشطرنج و نتجاذب طُرَف الحديث ، كان هناك زلزال يحصل في منزلي ..
بعد أن ودعتك و عدت إلى البيت .. ما إن دلفت بوابته ، إلا و شعرت بكآبة ثقيلة تجثم على نفسي و تخنقها ..
كان البيت مظلما ،و هذا الأمر غريب في بيتنا ، حيث إن أم أحمد لا تحب الظلام ، بل تحب أن تشعل النور في كل زاوية في البيت ، حتى الأماكن التي لا تستدعي وجودنا فيها .. أخذ قلبي يخفق بشدة .. مددت يدي إلى مفتاح النور .. و هالني عندها منظر أم أحمد التي بدت كشبح صامت ليس من شيء يتحرك فيه إلا الدموع التي تنساب على وجنتيها .. أسرعت إليها متلهفا .. سألتها عما دهاها و أصابها ، و إذا بها كبركان ينفجر في وجهي صارخا :
لماذا أخفيت عني الحقيقة .. لماذا جعلتني أعيش الوهم و الحلم الخادع طوال سنين غيبة أحمد ؟ لماذا و لماذا ولماذا ؟؟؟ لا أدري كيف كانت كلماتها تتسارع بطريقة عجيبة لم أعهدها منها .. أول مرة منذ زواجي بأم أحمد تصرخ في وجهي ، بل و تعاتبني بقسوة ليست من طبعها و لا عهدتها منها طوال السنين الفائتة .
أمسكت بيدها .. حاولت تهدئتها كي أفهم منها ما حصل .. و بعد لأيٍ و جهد طويل ، استطعت أن أجعلها تتماسك قليلا ..و تهدأ بين ذراعي كطفلة صغيرة تنشد الأمان عند والدها.. و من بين دموعها التي لم تستطع أن توقفها تكلمت و قالت :
بينما كنت أعد لك طبق الحلوى الذي طلبته مني ، و بينما كنت أترنم ببعض الكلمات التي اعتدنا ترديدها معا ، رن جرس الهاتف .. لأول وهلة ظننتك المتصل ، كعادتك تحب أن تطمئن عليّ عندما أكون وحدي في البيت .. أسرعت نحو الهاتف مبتسمة متلهفة لسماع صوتك .. و إذا بالصوت يأتيني حزينا كئيبا ..و كأنني شعرت من بين حروفه لسعة دموع حارقة .. كان أحمد .. أحمد يا أبا أحمد ..
توقف قلبي هنيهة ، ثم استعجلتها في الكلام ، و قلت لها : اكملي .. بالله عليك لا تتوقفي ..
استأنفت أم أحمد الحديث : كانت أول كلمة قالها لي : سامحيني يا أمي .. اغفري لي ما أخطأت بحقك أنت و والدي ، بل وما أخطأته بحق نفسي .. وبلهفة الأم المكلومة سألته : أحمد ما بك ؟ أخبرني .. قبل أسبوع تحدثت إليّ عبر الهاتف ، و كنت كعادتك مرحا سعيدا ، و كانت أخبارك طيبة ، ما الذي جرى ؟
- قبل أسبوع ؟؟؟ كلا يا أمي ، أنا لم أتواصل معكم بأي شكل من الأشكال منذ خمس عشرة سنة .. و بعد أخذ و رد بيني وبينه ، أدركت أنك كنت تخفي عني ما تعلم أنه سيكون سببا لجرح عميق في نفسي و ألم عظيم لا أستطيع احتماله .. علمت أنك ارتضيت أن تعيش الهم والحزن و الألم وحدك ، و بقيت تنعشني بالأمل عبر الرسائل و المحادثات الوهمية ... و هنا يا صديقي توقفت أم أحمد قليلا و كأنها أدركت أن ما فعلتُه لم يكن خداعا لها ، بقدر ما هو تجنيب لها لألم لا و لن تستطيع احتماله .. و تبدلت كل مشاعر غضبها مني ، إلى مشاعر الود التي أعهدها منها دوما و التي هي من يرطب عليّ هجير الحياة الصعبة والقاسية ..
- آسفة يا أبا أحمد .. ما كان علي أثور في وجهك و أقسو عليك بكلماتي الجارحة رغم المعروف الذي عملته معي .. لكن قسوة المفاجأة ، جعلتني أضيّع البوصلة و أتحدث إليك بما لا تستحق ..
- لا عليك يا أم أحمد .. أقدّر ما جرى و لا ألومك على تصرفك .. لكن بالله عليك أكملي ..
و هنا قاطعه أبو عاصم قائلا : أخبرني بسرعة ، كيف هو ؟ و لماذا انقطعت أخباره ؟ و ماذا يعمل الآن ؟ ومتى سيعود إلى أرض الوطن ؟ و ..
-مهلا يا أبا عاصم .. على رسلك دعني أخبرك ما أخبرتني به أم أحمد
(2)
تناول أبو أحمد كوب الماء الموضوع أمامه ، و بغصة لم تخفَ على أبي عاصم تابع كلامه قائلا :
- تعلم يا أبا عاصم أننا كنا ننتظر بلهفة و شوق عودة أحمد و هو يحمل شهادته التي نفخر بها ، و كنا نعدالعدة كي نخطب له سهى ابنة صديقنا أبي زياد .. و من غيرها تصلح لابننا و قد جمعت كل الفضائل : النسب ، والأدب ، و الأخلاق ، و الثقافة و العلم و الجمال ..؟
عندما كلمته أمه بهذا ، كي تأخذ رأيه أن نخطبها له قبل عودته ، فوجئت بثورة عارمة من قبله ، و قال لا أريد لا سهى و لا نهى .. وكل بنات البلد لا يملأن عيني ..صُدمت والدته من ردة فعله و لم تدر ماذا ترد عليه .. و بأصابع مرتجفة تسكنها الخيبة ناولتني سماعة الهاتف و أسرعت باكية إلى غرفتها .
حاولت أن أفهم منه وجهة نظره و حاولت إقناعه بما أراه الصواب والخير له و لنا ، و لكنني كنت كمن يتحدث إلى جدار أصم .. و إذ بي أفاجأ بقوله أنه تزوج من الفتاة التي تناسب أفكاره و أسلوب حياته الجديدة .. و كأن أفكارنا و أسلوب حياتنا يا أبا عاصم أصبحا سُبّة و عارا يريد التخلص منها بأي ثمن .. فجعت بكلامه الذي جعلني أستشف التغيير الكبير الذي حصل له ، والذي لم يكن في الحسبان ،و من غير وعي مني ، قلت له : إن كنت تريد أن يكون لك أب و أم .. اترك هذه الفتاة التي لا تناسبنا ..و عد فورا إلى بيتك و أهلك ،و إلا ، فاعلم أنني لم أنجب ولدا اسمه أحمد ..
لم يجب ، أغلق سماعة الهاتف ، و كانت هذه آخر مكالمة بيننا .. و منذ ذلك الوقت انقطعت أخباره عنا ..
طيب ، و ما الذي جعله يتصل بكم بالأمس بعد هذه السنين الطويلة ؟ ما الذي أخبرتك به أم أحمد يا صديقي ؟
- أخبرها أنه في بداية زواجه بهذه الفتاة ، كان يشعر بأن الدنيا حيزت له بمفاتنها و بهرجها ، و كأنها فتحت له باب السعادة الذي كان يتمناها ، لكن ما هي إلا شهور قليلة ، حتى بدأ يستفيق من هذا الكابوس الذي أوقع نفسه فيه .. بدأت منظومة القيم المغروسة فيه تقرّعه.. شعر بأنه خسر أهله و دينه و العيش على تراب وطنه الغالي بسبب هذا الزواج غير المتكافئ .. و الذي بدأ يظهر على حقيقته .. فلا حياة زوجية مستقرة ، و لا زوجة تهتم به و ترعاه و تخفف عنه مشاق الحياة ، ولا مراعاة للقيم والمبادئ التي تربى عليها (رغم أنه أهملها و قمعها فترة من الوقت .. لكن البذور الحية لهذه القيم وا لمبادئ ، عادت و نمت من جديد ).. عندها أدرك أي مأزق وضع نفسه فيه .
و منذ ذلك الوقت ، بدأت معاناته المريرة ، فكر في أن يعود معتذرا نادما ، لكنه للأسف يا أبا عاصم أحجم و خشي أن لا نقبل اعتذاره و ندمه ، بقي عالقا في ذهنه تهديدي له بأنه ليس ابني و لا أعرفه إن أصر على هذا الزواج .. فاضطر أن يبتلع خيبة أمله و يغضي على مضض على حاله .. وليته عاد وقتها نادما .. ما كنت لأرده خائبا ، بل كنت سأحتويه و أحتضن جرحه و ألمه .. و لكن هيهات ..
و ما زاد الطين بلة و جعله يضطر للتعايش مع هذا الزواج البغيض هو تلك الطفلة التي لا ذنب لها ، والتي كان عليه أن يرعاها بلحظ مقلتيه ليشربها عادات أهلها المسلمين ، و ليس عادات المجتمع الذي ستنشأ فيه و تتربى على أفكاره البعيدة كل البعد عن أسباب السعادة الحقيقية .
أصبح أحمد و كأنه بين فكيّ كماشة ، لا هو قادر على العيش مع هذه الزوجة التي لا تعرف عن قدسية و معنى الزواج شيئا و لا هو بقادر على تركها لأجل ابنته التي يخشى عليها من تربية قد تودي بها إلى حيث جحيم اللا أخلاق ، و اللا قيم ، و اللا مبادئ ...
مرّ عليه عام آخر و هو في هذا الصراع المرير .. حاول جاهدا التأقلم مع الوضع ، لكنه لم يستطع ، و أخيرا وجد نفسه مضطرا لإنهاء هذه العلاقة و انفصل عن زوجته بعد أن تنازل لها عن البيت وا لسيارة و جلّ ما يملك مقابل أن تبقي له الطفلة ليربيها و يرعاها كما يريد .
غير أنها سرعان ما تنكّرت لوعدها ، و مثلها لا تعرف ذمة أو وعدا تفي به .. استطاعت انتزاع الطفلة منه بأمر من المحكمة و حرمته من أن يرعى ابنته و يربيها .
جن جنونه و شعر أن الدنيا قد دارت به و ألقته في قاع جحيمها ، كيف سيترك هذه الطفلة المسلمة العربية تتربى على يد من ليس في حياتها معيار لأي قيم أو مبادئ أو أخلاق يحرص كل أب فاضل أن يربي عليها أطفاله ؟
و في لحظة يأس و قنوط ، اقتحم البيت على طليقته ليأخذ منها الطفلة و جواز سفرها عنوة كي يهرب بها إلى بلاده التي ستكون خير محضن لها و خير غارس للقيم التي يريدها أن تنشأ عليها
و كان أن دفع الثمن غاليا .. لم يفلت من فعلته ، حيث أودع السجن ، و لم يخرج إلا قبل شهرين حاول خلالها البحث عن ابنته لكن دون جدوى .. كل الذي استطاع معرفته أن الأم والطفلة غادرتا إلى بلد آخر .
لم يجد بداً ولا مناصاً من أن يعود إلى وطنه حاملا خيبته و انكساره .. فليس غير وطنه و ليس غير أهله من يحتضنون ألمه و جرحه و يربتون على كتفه ليخففوا عنه أثقالا ناء بها كاهله .
لذلك اتصل بنا و حرص على اختيار الوقت الذي يعلم أنني أكون فيه مع أصدقائي في المقهى لأنه كان يريد أن يتحدث إلى والدته ، فقد كان يخشى أن يكلمني خوفا من ردة فعل غاضبة مني عليه .
طلب منها السماح و المغفرة ، كما توسل إليها أن تتوسط له عندي كي أفتح له قلبي و بيتي مجددا بعد أن فعل فعلته و كسر كلمتي و عصى طلبي ..
عزّ عليّ يا أبا عاصم ما حصل لأحمد .. ي
كفيه ما أصابه و الثمن الذي دفعه نتيجة لاستهتاره و ركضه خلف السراب الزائف الذي لا يقدم شيئا سوى العذاب والدمار وا لألم ..
بعد أن أنهت أم أحمد كلامها حول ما جرى بينها و بين أحمد .. قمت من فوري و تناولت سماعة الهاتف .. حدثته حديث الأب المشتاق الملتاع على ابنه ومصاب ابنه .. طلبت منه أن يحجز في أقرب موعد و على أول طائرة قادمة إلى أرض الوطن ، فليس غيره الملجأ و الملاذ و السكن ..
هذه هي قصة حزني و ألمي يا صديقي العزيز .. أوَ لا يحق لي أن أبكي على ولدي الكسير و أرثي لحاله البائس ؟
-بلى يا أبا أحمد .. وليت شبابنا يفكرون في مغبة تصرفاتهم قبل الإقدام عليها .. ليوفروا على أنفسهم و على أهليهم عناء لا يعلمه إلا الله .