ابوكاليبس !
حيدر الحدراوي
يصر الاستاذ ان يعطي دروسا عملية لطلابه , ولا يكتفي بالدروس النظرية , ذات يوم قدم الاستاذ من جهة المقبرة القريبة من المدينة , ولم يأتي من وجهته المعتادة , لاحظ الاحمق ذلك , حيث كان جلس قريبا من مكان الدرس , فقرر ان يراقبه .
في يوم الجمعة وقبل ان ترسل الشمس أشعتها , ترصد الاحمق قريبا من دار الاستاذ , فشاهده يخرج باكرا , متوجها نحو المقبرة , فسار خلفه , من دون ان يشعر به , حتى دخل في قبر معد سلفا , تمدد فيه كالميت , وصاح :
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ! .
وقف الاحمق مذهولا عما يحدث , حتى سمع الاستاذ يقول :
ارجعناك ... عد وأستأنف العمل ! .
نهض الاستاذ وخرج من القبر , واقفل عائدا متوجها نحو قاعة الدرس , فقال الاحمق :
ان الامر في غاية البساطة ! .
*********************************
في الجمعة التالية , حضر الاحمق قبل الاستاذ , واختبأ بين القبور , وظل مختبئا حتى رمق الاستاذ مقبلا , مرتديا كفنا ناصع البياض , نزل في القبر , أستلقى وتمدد , وبعد مضي نصف ساعة صاح الاستاذ كالعادة :
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ! .
انتهز الاحمق الفرصة فصاح :
ارجعناك ... عد وأستأنف العمل ! .
نهض الاستاذ من القبر حالما سمع النداء , نفض الكفن مما علق به من التراب , وتوجه نحو قاعة الدرس .
*********************************
في الجمعة التي تلتها , كمن الاحمق في مكانه المعتاد , وجلس منتظرا الاستاذ , ما ان شاهده حتى اختبأ جيدا بين القبور , تكرر نفس المشهد والاحداث , صاح الاستاذ كالعادة :
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ! .
فرد عليه الاحمق :
ارجعناك ... عد وأستأنف العمل ! .
نهض الاستاذ ينفض التراب عن ملابسه , فارتعب الاحمق عندما شاهد خمسة اشخاص يخرجون من بين القبور , مرتدين الاكفان , مطأطأي الرؤوس , يسيرون ببطء نحو الاستاذ , فشيعهم بأنظاره يخرجون من سور المقبرة , ليندمجوا مع نبض الحياة في المدينة , وليتلاشوا بين صخبها وجنونها ! .
*********************************
وفي الجمعة التي تلتها , جلس الاحمق في مكانه , حتى سمع صوت الاستاذ :
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ! .
فصاح الاحمق بصوت عال , يملئه الحماس والثقة بالنفس :
ارجعناك ... عد وأستأنف العمل ! .
فشاهد الاستاذ يخرج من القبر , التفت يمينا ويسارا , فشاهد اثنا عشر شخصا يخرجون من بين القبور , مرتدين اكفانا ناصعة البياض , انتابه الرعب والهلع , عندما شاهد احدهم يمر امامه , غير مباليا لوجوده , وكأنه لا يراه , مطأطأ الرأس , يسير ببطء خلف خطى الاستاذ , شيعهم بأنظاره , وشاهدهم يعبرون سور المقبرة , حتى أختلطوا وتواروا بين الناس , فأقسم ان لا يعيد الكرة ! .
*********************************
وفي الجمعة التالية , تردد كثيرا , وفكر طويلا , يخير نفسه بين الذهاب وعدمه :
هل اذهب ؟ ... اخشى ان يخرج عددا اكبر من الموتى ! ... في المرة السابقة كدت اموت من الرعب ! .... ان لم اذهب سيكون الاستاذ في انتظاري ... سأذهب هذه المرة ... هذه المرة فقط ! .
جلس في مكانه المعهود , يتأمل شروق الشمس على تلك القبور , فرائصه كانت ترتعد من الخوف , فلم يسمع صوت الاستاذ مناديا الذي كان يكرر النداء كل خمسة دقائق :
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ! .
واخيرا , أفاق من تأملاته , وسمع النداء , فرد عليه بصوت مرتجف خائف , يتلفت يمينا يسارا :
ارجعناك ... عد وأستأنف العمل ! .
نهض الاستاذ , نفض التراب من على كفنه , وتوجه نحو بوابة المقبرة , يسير بخطى ثابتة , مطأطأ الرأس , بينما حلّ الفزع على الاحمق , عندما شاهد ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا يخرجون , ينبعثون , يتدفقون من بين القبور , يسيرون بهدوء وترو , يتبعون خطى الاستاذ , رؤوسهم محنية , انظارهم متجه نحو الارض , لا يرفعونها ولا يلتفتون , مروا به من جميع الجوانب , وهو يحدق بهم مرعوبا , منبهرا , تمالك نفسه وسار خلفهم نحو البوابة , لكنهم سرعان ما اختفوا بين زحام المارة .
*********************************
ذات يوم , بينما كان الاحمق يتجول في الشوارع , مرّ بقرب مدرسة الاستاذ , دفعه الفضول ان يلقي نظرة من الداخل , فشاهد جمعا غفيرا من التلاميذ جالسين , والاستاذ مسترسل في درسه :
الانسان ليس مادة فقط ... بل روحا ركب مركب الجسد , ما للارض سيعود للارض , اما الروح اما ان تسمو وترتفع , او وتلقى في المهالك فتقع ! .
اجال الاحمق نظره في جميع الزوايا , وقال في خلده متبجحا :
لقد أحييت جميع هؤلاء التلاميذ ! .
فجأة , توقف الاستاذ عن الكلام , ووقع نظره على الاحمق الذي كان واقفا , بينما كان الجميع جلوسا , فما كان من الاحمق الا ان يبتسم ابتسامه بلهاء واتخذ له مكانا بين التلاميذ , أنهى الاستاذ الدرس , وفتح التلاميذ له طريقا للخروج , فسار ببطء وتوقف مقابلا الاحمق وحدق فيه طويلا , أختلت عضلات وجه الاحمق , وبدأت تتحرك بغير اتزان , لا يعرف ماذا يفعل ؟ , هل يبتسم ام ماذا ؟ ! , بادره الاستاذ بالابتسامة , فابتسم , وقال له :
هل تريد ان تحيي المزيد ؟ .
وجمّ الاحمق ولم يعرف بماذا يرد , اصطكت اسنانه , فنطق الايجاب , فقال له الاستاذ :
اذا عليك ان تأتي الليلة الى المقبرة , بعد منتصف الليل ! . .
في نفس المكان ؟ .
كلا ... ابعد قليلا .
نعم ... نعم ... سأكون هناك في الموعد .
كان يتمنى ان يعفيه الاستاذ من هذه المهمة , لكنه فكر كيف علم الاستاذ بما قاله في خلده ! , بينما كان الاستاذ يهم بالخروج , أعترضه احد التلاميذ , محتجا على اختيار الاحمق :
استاذ ... لكنه احمق ! .
فرح الاحمق بهذا الاعتراض , وظن ان الاستاذ سيعفيه من هذه المهمة , لكن الاستاذ حدق فيه وقال للتلميذ :
للحمقى دور كبير في تكامل المؤمنين ... لولا وجود الحمقى كيف ستتكامل انت ايها المؤمن ؟ ! .
اعترض طالب اخر , فقال :
استاذ ... لعله منحرف ايضا ! .
فأجاب الاستاذ بروية :
للمنحرفين دور كبير في تكامل المؤمنين ... لولا وجود المنحرفين كيف ستتكامل انت ايها المؤمن ؟ ! .
توجه الاحمق الى المكان المحدد , هذه اول مرة يدخل فيها المقبرة ليلا , فكان الصمت مطبق , والظلام دامس , يردد في خلده :
ليت الاستاذ قبل اعتراض المعترضين ... فأنا احمق لا انفع لهذه الادوار ! .
وبعد انتصاف الليل , سمع صوت الاستاذ مناديا :
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ! .
فرد الاحمق بصوت عال , متلكأ ومرتجف :
- ارجعناك ... عد وأستأنف العمل ! .
فشاهد حشودا غفيرة تخرج من بين القبور , لا يراهم , لكنه يرى بياض الاكفان , يسيرون بخطى ثابتة , فزع منهم , واسرع نحو شارع تسلكه السيارات نهارا , فشاهدهم يتوجهون نحوه , اشتد فزعه , فتعثر بحجر وسقط , لم يقو على النهوض , فأخذ يزحف للخلف , وانظاره نحوهم , ويقول :
زومبي ... زومبي ... زومبي ! .
مروا جميعا بجانبه , لم يعبأ احد بوجوده , ولا بصرخات استغاثته , بل لم يلتفت اليه احد , استمروا بخطاهم الى الامام , فبقي وحده متشبثا بقبر قديم , واغمض عينيه خشية ان يرى المزيد منهم , حتى سمع صوت شيئا يسقط بالقرب منه , ففتح عينيه , فأذا بكرة بيضاء بجواره , وشاهد انوارا تأتي من احد الجهات , تمعن النظر اكثر واكثر , فشاهد اشباحا من نور , فقالت له الاشباح :
أعطنا الكرة ! .
بدأ قلبه بالخفقان , ولم يقو على تناول الكرة , خانته قواه , فقال لهم :
تعالوا انتم وخذوها ! .
تقدم احدهم وتناولها بيده , فقال له الاحمق :
من انتم ؟ .
نحن في روضات من رياض الجنة ! .
هل تريدون ان اعيدكم للحياة ؟ ... فقد أتاني الله تعالى سر الحياة ! .
كلا .. كلا ... كلا ... لا نريد العودة ... نريد البقاء ! .
أخذوا الكرة وانصرفوا , عاد الهدوء ليخيم على المقبرة , لكنه لم يدم طويلا , فبينما الاحمق يهم بالعودة , شاهد كتلا سوداء متفحمة , أحاطت به من كل جانب , فدب الخوف في جسده , وأرتعدت فرائصه , وسقط مغشيا عليه , فلما افاق , وجد ان كتل الفحم لا زالت محيطة به , فصرخ بصوت عال :
من انتم ... وماذا تريدون مني ؟ .
لا تخف ... نحن من المعذبين ! .
وماذا تريدون مني ؟ .
لقد سمعنا حوارك مع أولئك ... وسمعناك قلت ان الله قد أتاك سر الحياة ... نرجوك ونتوسل اليك ان تعيدنا الى الحياة ! .
الان ؟ .
نعم ... الان ... وما المانع ؟ .
الان لا استطيع ... فقد ابتلت ثيابي من الخوف ! .
اذا متى ستفعل ؟ .
غدا ... انشاء الله غدا .
اتفقوا على الموعد , واقسم في خلده ان لا يعود للمقبرة مرة اخرى , لا في ليل ولا في نهار , وان طلب منه الاستاذ ذلك والحّ عليه وأصرّ ! .
*********************************
ذات يوم , مرض الاحمق مرضا شديدا , على اثره فارق الحياة , شاهد انه انشطر الى شطرين, شطر جامد , ثقيل , لا حركة فيه , وشطر هوائي , خفيف , يطير , يسمع ويرى من حوله , يصرخ في القوم ( يا الهي ... ماذا حدث ؟ ... انا هنا ... انا لم امت ... اسمعكم واراكم ... ماذا تنوون على فعله ؟ ) , لا مجيب لندائه , فشاهد ان القوم قد وضعوه في صندوق خشبي , وحملوه , وهو يصرخ ( الى اين ؟ ) , حتى وصلوا المقبرة , فأستبد به الرعب والهلع , فصرخ صرخة مدوية ( لا ... لا ... لقد اقسمت ان لا ادخلها ابدا ! ) , لكن الجمع لا يسمع صرخاته , حفروا له حفرة , وضعوه فيها , وأهالوا عليه التراب , ثم رحلوا , وتركوه صارخا ( لا ترحلوا ! ) ,
وقف وحيدا بين تلك القبور , باكيا , خائفا , مذهولا مما سيحدث له , مرعوبا من مستقبل مجهول ! .
خيم الليل سريعا , وساد الصمت والسكون , انعدمت الرؤيا او كادت , فزع من هذا الهدوء الممل , لكنه سرعان ما انكسر , عندما شاهد الكتل المتفحمة تخرج من بين القبور , تجد بالمسير نحوه , غاضبة , يتطاير من جوانبها الشرر والدخان , أحاطوا به , وقالوا له بصوت اجش حانق :
لماذا لم تف بوعدك ؟ .
فأجاب بصوت متقطع مرتجف :
لقد كنت ...
قاطعوه , فلم يكمل كلامه .
انك لا تدري ماذا فعلت ! .
ماذا فعلت ؟ .
لقد فوّت علينا فرصة العودة الى الحياة ... لعلنا نعود ونتوب ونعمل صالحا ! .
شعر انه يختنق من الخوف والهلع , من الدخان المتصاعد , من احاطتهم به من كل الجوانب , لا يعرف ماذا يقول ؟ , هل يعتذر ؟ , فما نفع الاعتذار ! , حاول الهروب بعد ان احدث فرجة بينهم , لكنه لم يتمكن من الابتعاد , ادار نظره في جميع الجوانب , فشاهد اشباحا نورانية , خاطبهم :
انجدوني من هؤلاء ... اتوسل اليكم ! .
لم يعيروه أي انتباه , وقال له احدهم ببرود :
لقد طلبنا منك ان تناولنا الكرة ... فقلت ( تعالوا انتم وخذوها ) ... الان خلص نفسك ! .
لقد كنت مخطئا هلا سامحتموني ! .
للاسف لم يكن فيك نفع لنا بالامس , فننفعك اليوم ! .
حاول معهم , حتى اعيته المحاولات , بينما هو في ذلك الحال , برق بريق صاعق , وشعّ شعاع انار الارض والسماء , التفت الجميع نحوه , فأذا بكتلة نورانية تتجه نحوهم , تقترب بثبات , بهيبة ووقار , حدق فيه الاحمق طويلا , ففرح وابتسم عندما أتضحت له الرؤيا وعرفه , قال طالبا النجدة :
استاذ ... استاذ ! .
لم يقو على النطق بأكثر من ذلك , لكنه شعر انه قال ما فيه الكفاية , فتراجعت الكتل المتفحمة , وانحنت الاشباح النورانية , ووقف الاستاذ مقابله , وقال بصوت لطيف , كنسمات هواء خفيف :
لقد ساعدتنا , فساعدناك ... لقد اعنتنا , فأعناك ... لقد كنت معنا بالامس , فنحن اليوم معك ... أننا لا نهجر من كان في صحبتنا أبدا ... أبدا ! .