الجراح لا تنزف غير الدم

د. عبد الله الطنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

(1)

ـ ويحك أيها الشيخ إن دستوركم الذي تزعمون أنه صالح لكل زمان ومكان يقول : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه .. بقلبه .. أليس كذلك ؟ عصر الانقلابات مضى إلى غير رجعة ، ولكنكم عملاء ، عملاء انقلابات ..

نظر الشيخ إلى غباء المحقق وفقهه العجيب في تفسير الحديث الذي يحسبه قرآناً لأنه لا يعرف ما القرآن وما الحديث ، وكظم غيظه ، مع أنه ـ لو أراد ـ قادر على إفحامه ، والسخرية من جهله وغبائه ، فقد عرف الشيخ بثقافته الواسعة ، وقوة حججه المنطقية ... غير أن المحقق (الفقيه) ما لبث أن استأنف قائلاً :

ـ ومع ذلك ، تتمسكنون أمامنا كالفئران ، وتزعمون أنكم دعاة .. مجرد دعاة إلى الله وإلى كتاب الله .. هه .. أنتم مجرمون .. عملاء ..

والتفت إلى أحد الزبانية وأمره محتداً :

ـ لا تتركه قبل أن تكسر يده أو رجله ،عذبه حتى الموت ، أو تنفرج شفتاه ..

ومضى إلى سبيله ، تاركاً الشيخ بين يدي جلاده ، الجلاد يمسك بهراوة غليظة ، يهوي بها على الشيخ المكبل بالقيود .. وهو يتميز من الغيظ لهذا الصمت الممزق للأعصاب .. إنه يتلقى الضربات دون أن يصدر عنه إلا الأنين المكبوت ، مصحوباً بالكلمة الخالدة : (احد .. أحد) الأمر الذي أحنق الجلاد ، وأثار مشاعره الدينية ، فتوجه إلى الشيخ موبخاً ، وهو يصب عليه جام غضبه بهراوته التي كانت تنزل حيثما تشاء .

ـ أحد .. أليس كذلك ؟ تزعم أنك شيخ تفهم الإسلام وتقول أحد .. أليس كذلك ؟.. خذ هذه يا ابن الأحد .. وهذه يا نصراني يا مجوسي ..

ثم توقف قليلاً يلتقط أنفاسه المتسارعة تسارع ضربات الهراوة وقال في غيظ :

ـ لا تقل أحد يا شيخ .. ولا سبت .. والله لأمزقنك إذا ما عدت إليها .. نحن إسلام قل جمعة .. جمعة .. فهمت ؟

وارتسم طيف ابتسامة على فم الشيخ ، لهذه الغيرة العجيبة على الإسلام ، والفهم الأعجب لما يقرؤون ويسمعون ويصدران عن الجلاد وسيده ..

لمح الجلاد طيف الابتسامة ، فأهوى على الشيخ بضربة عاتية ، كسرت له ذراعه المدماة ، فصدرت آهة حيية شقت سكون الظلام الملون بأنات المعذبين ، الشامخ بصمودهم المتسامي إلى عليين ، ثم غاب الشيخ .. طار على أجنحة وردية ، حملته إلى بيت من نور ، جدرانه من كافور ، سكانه من الشهداء الذين طالما تاق الشيخ إلى رؤيتهم .

وانطلق لسان الشيخ تشاركه قسمات وجهه وجوارحه ، حتى يده المكسورة حاولت مشاركته في رد تحيات مستقبليه من الشهداء ..

قال الشيخ :

ـ أجل يا سيدي .. جئتكم وأنا في شوق أي شوق إليكم .. لطالما تطلعت إلى ربي ، راجياً أن يرزقني الشهادة لعلي ألتحق بكم .. ولكن يبدو أنني لست أهلاً لها ..

ـ لا يا شيخ .. حذار من مثل هذا التفكير ، فأنت على الطريق .. ومن سار على الدرب وصل ..

قال الشيخ :

ـ هيهات .. فقد سبقتموني منذ سنين ، وأنا حبيس هذا الجسد الصلب ، يمسك بي فلا يفلتني ..

قال الشهيد :

ـ لا عليك ، فجسدك الطاهر ، يتضمخ بأشذاء المجد وهو يهوي تحت ضربات الجلادين ..

ـ أنا أرثي لهؤلاء الجلادين ..

ـ ونحن كنا نرثي لحالهم ..

ـ إنهم مجرد موظفين ، يريدون إطعام أولادهم .. اتخذوا الجلد مهنة تدر عليهم أرزاقهم .. إنهم مساكين .. اللهم اغفر لهم ، وانتقم من سادتهم ..

كان الجلاد قد توقف عن الضرب بعد أن رأى الشيخ في غيبوبته ، جلس يستريح ريثما يفيق الشيخ ليستأنف عمله .. إنه يسمع الآن الحوار من جهة واحدة .. يسمع كلام الشيخ فيظنه هذياناً .. ولكن .. ما بال الشيخ يصمت ريثما يسمع ليجيب ؟.. ترى من يكلمه ؟..

وتخيل الجلاد ملائكة السماء قد حفت بالشيخ تباركه وتلعن جلاديه .. وسمع الشيخ يتحدث عن أولاد الجلادين فهب واقفاً ، وقد أخذته رعشة .. يكاد يموت من الهلع .. إن الملائكة ستقتص منه .. إن عزرائيل سيسبقه إلى بيته لينتزع أرواح بنيه ..

ـ رحمتك يا رب ..

قالها الجلاد من أعماقه ، وأكب على قدمي الشيخ يقبلهما ، وعلى وجهه ينضح الماء لعله يفيق من إغماءته ، والشيخ في ملكوت آخر ، يتلقى دروس البطولة والجهاد من أرباب البطولة والجهاد ، ولكن نوءاً يزعجه ، بما يهطل عليه من ماء ، وبرعوده التي تهز له قدميه ..

فتح الشيخ عينيه ليرى جلاده ، مكباً على قدميه ، يسفح الدموع الغزار ، ويرجو منه أن يدعو الله له ولأولاده .. إنه يخشى على صغاره أن يتخطفهم الموت ، انتقاماً لهذا الرجل الصالح ، ولزملائه المشايخ الذين جيء بهم إلى هذا المكان ، ليلقوا مصارعهم ، على أيدي الجلادين من أمثاله ..

وتذكر الجلاد أوسو ابن زميله الجلاد ضرغام الذي هشمته سيارة أحد الحجارين وفرّ دون أن يستطيع أحد معرفة صاحبها .. ربما كان الناس يعرفون السيارة وصاحبها ، بل هذا مؤكد ، ولكنهم لا يريدون أن يدلوا الجلاد أبا الغلام ، كي يضيع دم الغلام .. إن الناس كل الناس يحقدون علينا .. لماذا يا رب ؟ إنها مهنتنا .. صحيح إنها أحطّ المهن ، ولكنها قدرنا .. حاولت مراراً أن أستقيل .. رجوت منهم أن يعفوني ، ولكنهم يصرون على إبقائي ..

ـ آه يا شيخ .. والله أنا مظلوم وزوجتي تكرهني ، أولادي يكرهونني .. الناس من حولي يتوددون إليّ ولكن أعماقهم تكرهني .. لو استطاعوا قتلي خلسة لما قصّروا .. حتى أبي وأمي .. هل تصدق أن أمّاً تكره ولدها ؟ لقد بكت كثيراً وهي تقصّ عليّ أخبار ما تسمع عن جَلدي لمن يقع بين يدي .. أختي لا تكلمني منذ سنتين .. قل لي بربك .. ماذا أستطيع أن أفعل أنا ؟...

نظر الشيخ ملياً إلى الجلاد ، وتذكر يوم كان طالباً يدرس في الجامعة ، في بلد آخر ، وكانت المحنة قد لحقت إخوانه من المؤمنين ، وراح الزبانية يتعقبون من يحسبونه من أهل الدين والصلاح .. تذكر ذلك المخبر ذا الوجه الجهم ، الذي كان يتعقبه ، ويبقى الساعات الطوال أمام بيته ، حتى لقد حزن عليه ، فخرج إليه ذات ليلة باردة ، ودعاه إلى زيارته ، ووعده أن يساعده في كتابة تقرير عنه ، لأنه نصف أمي ، وقدم له طعاماً وشراباً ، وكتب له تقريراً يرضي سادته ، والمخبر ينظر ويعجب لهذه الأخلاق التي ما كان يتخيل مثلها لدى البشر ..

تذكر الشيخ هذا ، وهو يرنو إلى جلاده ، ثم قال :

ـ قم يا أخي .. لا عليك .. أخشى أن يراك أحد المتجسسين عليك ، فينزل بك عقاباً أشد من عقابي ..

ـ ولكني خائف .. خائف من الله أن يغضب عليّ وينتقم مني بأولادي ..

ـ سأدعو لك الله .. اللهم تب عليه ..

(2)

كان الليل قد انتصف ، عندما حضر المحقق يتمايل يمنة ويسرة ، امرأة لعوب تأبطت ذراعه ، وراحت تسنده بيدها ، وتسكره بضحكاتها الغنوج ، وتدغدغ مشاعره المسترخية بكلماتها المثيرة له :

ـ يا الله .. يا بطل .. يا أبا المجد ..

والمحقق أبو المجد يهذي :

ـ أين أنت يا كلب ؟.. يا ابن الكلب .. يا أوسو يا ملعون ..

ويسرع إليه بعض كلابه ، ولكنه يركلهم بقدمه ، فيهوي على الأرض ، ويتقيأ ، والمرأة اللعوب تغمز بعينيها لأولئك الكلاب ـ حسب تعبيره ـ وتأمرهم بدلال أن يساعدوها عليه ، لعله يصحو من سكره ..

جلس أبو المجد على السرير المعد لبعض الأمور المهمة ذات الشأن ، وأجلس إلى جانبه المرأة اللعوب ، وانطلق لسانه يلاحق يديه اللتين تعبثان بجسد المرأة ، والمرأة اللعوب تغريه بيديها اللتين تدفعانه برقة ، ولسانها الأفعواني يثير مشاعر الوحش في نفسه ، وإذا هو ينتفض فجأة ويصيح :

ـ أين أنت يا أوسو يا كلب يا ابن الكلب ؟

ويأتي أوسو متمهلاً شاحب الوجه ، ساهم الفكر :

ـ أمرك سيدي .

ـ لعنة الله عليك وعلى سيدك .. أين الشيخ ابن الكلب ؟

ـ في زنزانته يا سيدي ..

ـ ماذا فعلت به ؟

ـ كسرت يده .

ـ فقط يا كلب ؟

ـ هذه أوامرك يا سيدي .

ـ سوف ترى أوامري يا ابن الفاعلة .. اذهب وائتني به فوراً .. فهمت ؟ أسرع .

قال أوسو وهو يسرع الخطا :

ـ أمرك يا سيدي ..

قالت المرأة اللعوب :

ـ عهدي بك بطل الأبطال .

ـ لا يا شيخة .

ـ إي والله .. ولكني أعجب ، لمَ يتركونك في هذا المخفر الصغير ، ولا يسلمونك رئاسة التحقيق .. رئاسة الشعبة كلها .. بل لماذا لا يجعلونك وزيراً ؟ أنت أفضل من الوزير ومن كل المحققين ..

قال أبو المجد ، ونفخة العظمة قد مدت الآفاق أمام عينيه الغائرتين الصغيرتين :

ـ لا يا شيخة ..

ـ والله لا أبالغ ..

قال يستحثها على المزيد من الإطراء ، ويداه تعبثان بشاربه الغليظ :

ـ بالله عليك لا تبالغي .

وقالت تستحثه على اقتحام الأهوال ، بارتكاب أعتى الجرائم :

ـ لقد عاشرتهم جميعاً .. فرداً فرداً .. فما وجدت من هو في مثل فحولتك .. والفحولة هي الرجولة .. أنت أفضلهم .. أفضلهم ..

صفق أبو المجد :

ـ يا ابن الكلب أسرع .

وأسرع إليه أحد أبناء الكلب :

ـ أمرك سيدي ..

ـ إذا صفقتُ فأسرعوا ..

قالت المرأة اللعوب :

ـ اسمعوا لسيدكم .. بل لسيد العالم .. اقتدوا بي .. أما أنا .. فشبيك لبيك عبدك بين إيديك ..

قال أبو المجد في تعاظم :

ـ ضع المنضدة في الساحة .. هيا أسرع ..

وهرع المسكين ينفذ طلب سيده ، بينما قام أبو المجد إلى الخزانة الحديدية المقفلة المكتوب عليها " سري للغاية ـ لا تفتح إلا من قبل المسؤول " وفتحها ، وأخرج منها زجاجتي ويسكي وبعض القلوبات والفواكه والموالح ، وقال للمرأة اللعوب :

ـ هيا احملي معي هاتين الكأسين .

ومضيا إلى الساحة ، حيث وضعت المنضدة ، وقامت المرأة بترتيب الشراب ومستلزماته على المنضدة ، وملأت كأسين من الويسكي وقدمت إحداهما له وأمسكت بالثانية وهمست :

ـ في صحتك يا أبا الأمجاد ..

ـ في صحتك يا حبيبة ..

وكأنه تذكر أمراً :

ـ أين أنت يا أوسو يا ابن الكلب ؟

وتناهى إليه صوت من بعيد :

ـ أنا في زنزانة الشيخ .

ـ لعنة الله عليك وعلى شيخك .. اسحبه من رجله على وجهه إلى هنا ..

ونفذ أوسو أمر سيده بغباء وذلّ ، وكأن طغيان سيده أنساه ما كان منه ومن الشيخ قبل ساعات ..

ـ اقلبه على ظهره يا ابن الكلب .

ـ أمرك سيدي ..

وقلب الشيخ المثقل بالجراح على ظهره ، وأنينه المكبوت ينساب عبر الظلام ..

كرع أبو المجد من كأس صاحبته ، ثم أخرج من جيبه قلماً ذهبياً . وأخرجت من حقيبتها دفتراً وردياً ، وقال لها بتودد :

ـ كالعادة .. اكتبي ما يعجبك من أقوال هذا الكلب .. والكلمة التي تستقذرينها منه دعيها ..

أجابت المرأة وهي تنظر إليه في اشتهاء :

ـ أمر حبيبي على الرأس والعين ..

نظر الشيخ المسجى على الأرض إلى هذا المحقق المتجبر في دعارة وغمغم :

ـ يا لندرة الرجال ..

انتفض المحقق قائلاً :

ـ ويلك يا كلب .. ماذا قلت ؟

فلم يجب الشيخ ..

ازداد اللهيب في رأس أبي المجد .. أرغى كالبعير الهائج وأزبد .. تذكر عشرات الرجال الذين سحقهم بحذائه الغليظ وأذلهم وامتهن رجولتهم ، ولكنه لم يتذكر واحداً في مثل عناد هذا الشيخ الجريح ..

ـ ما اسمك يا شيخ ؟

ـ الفقير إلى رحمة الله تعالى ..

ـ هل هذا اسم يا كلب ؟

قال الشيخ بهدوء :

ـ لا يا سيد الكلاب ..

هاج أبو المجد وماج ، وضرب المنضدة بيده الغليظة فاختلط ما عليها ، وقال :

ـ لا تثر أعصابي ..

تدخلت المرأة اللعوب :

ـ لا تهتم بهذا الكلب يا سيدي .. هدئ روعك .. فأنت تحترق وهو يضحك .. ألا تراه يضحك في سره لأنه أغاظك ؟

ـ أحقاً يا ابن الكلب ؟

قال الشيخ في هدوء :

ـ لا يا سيد الكلاب ..

ـ كذاب ..

ـ لو كنت كذاباً لصرت منافقاً ، ولو نافقت لكنت قاضي القضاة ، ومفتي المفتين في هذا البلد .

ـ اخرس يا كلب ..

قال الشيخ :

ـ ولكن قل لي : هل هذه الفاجرة محققة مثلك ؟

ـ اخرس قطع الله لسانك .. والله سوف أؤدب بك كل من هم على شاكلتك .. انقلابات أليس كذلك ؟.. فبقلبه أليس كذلك يا ابن الكلب ..

وفيما كان أبو المجد يسيل من فمه هذا السيل الثوري ، قام إلى الشيخ وصفعه صفعة قوية على وجهه ، ولكن الشيخ المكسور اليد ، صرف على أسنانه ، ونظر إليه نظرة نارية تحرق من تقع عليه ، الأمر الذي كان له فعل الوشاح الأحمر في حلبة مصارعة الثيران ، فأقعى أبو المجد أمام الشيخ ، ومد يده إلى لحيته يريد نتفها ، ولكن صفعة كالهول وجهها إلى أبي المجد وأتبعها برفسة دحرجته دحرجةَ (أم علي المدعبلة) فعوى أبو المجد من هول المفاجأة والصفعة والركلة في آن واحد .. وقام ينفض أوحال الإهانة عن بدنه ، ولكنه لم يستطع أن ينفضها عن نفسه .. صرخ :

ـ أين أنتم يا أولاد الكلب ؟

وأسرع أولاد الكلب إلى الشيخ الجريح ، يفثؤون حُمَيّا غضب سيدهم المهان .. وراحوا يتناوشونه من كل جانب .. تذكر الشيخ عندئذ كلاب القرية عندما تجمعت عليه ذات يوم ، عندما ذهب إلى القرية معلماً ، فصرخ فيها ، فولت الكلاب الأدبار .. تذكر تلك الحادثة ، فتبسم وتبسمت معه جراحه النازفة ، وقال في سره : فلأجرب مع هؤلاء الكلاب .. وصرخ كالهزيم :

ـ يا هو

وتجاوبت الأصداء في الساحة ، وفرّ الزبانية من حوله ، وخرّ السيد وصاحبته على الأرض مختبئين خلف المنضدة .. وقهقه الشيخ .. فارتد إلى كل من أولئك صوابه ، فقاموا إليه بسياطهم ، يشوون بها وجهه ويديه ورأسه وسائر بدنه ، والشيخ يجأر بشكاته إلى الله .. أحد .. أحد .. يا خونة . أحد أحد .. يا خونة .

وتدخل المحقق أبو المجد :

ـ هيا اتركوه وانصرفوا ...

فتركوه وانصرفوا إلا أوسو ..

ـ مالك يا أوسو ؟

ـ سيدي أرجوك ..

ـ قل ........ مالك ..

ـ أرجوك يا سيدي .. أولادي ..

ـ مالهم أولادك ؟

ـ أخشى عليهم من هذا الشيخ .

ـ وما عساه يفعل هذا الشيخ ؟ ألا تراه يسبح في دمائه ؟.. ألم تسمعني أقول لزوجته : لا تفكري بحياة زوجك .. عندما تخرجين من السجن ، فتشي لك عن زوج غيره ؟.. لقد حكمنا عليه بالإعدام وانتهى الأمر ..

قال أوسو في هلع :

ـ أولادي يا سيدي أرجوك ..

صرخ أبو المجد :

ـ يا كلب ما لهم أولادك ؟ ممن تخاف عليهم ؟ من أتباع الشيخ ؟

ـ نعم يا سيدي ..

ـ اطمئن يا أوسو .. لن يصلوا إليهم .. وسترى كيف نؤدبهم .. سنمسك بهم واحداً واحداً .. سنقطع دابرهم .. سنبيدهم .. هكذا الأوامر ...

ـ ولكنكم لن تستطيعوا الوصول إليهم يا سيدي ؟

ـ كيف يا كلب ؟

ـ يا سيدي إن خطيب الجمعة حدثنا عنهم وقال : إنهم ذوو أجسام نورانية ..

نهض أبو المجد محتداً :

ـ هل أصبحت من جماعة الشيخ يا كلب ؟

ـ لا يا سيدي .. لا .. أنا أحقر من أن أفكر بالملائكة .. فكيف أكون منهم ؟

ـ وما دخل الملائكة يا كلب ..

ـ الملائكة أصحاب الأجسام النورانية ، كما قال خطيب الجمعة ، هم أتباع الشيخ وأنصاره .. لقد حدثنا الخطيب عن هؤلاء في غزوة بدر ..

تدخلت المرأة اللعوب :

ـ لا يا أوسو .. ثخنتها .. هذا الشيخ من عملاء الإمبريالية والصهيونية .. والملائكة خرافة سخيفة ..

احتج أوسو :

ـ لا يا امرأة .. لا يحق لك أن تتحدثي بأمورنا الدينية ..

توجهت المرأة إلى المحقق :

ـ أرأيت ؟ أسمعت ما يقوله هذا الأفاك ؟

تساءل أوسو :

ـ ما معنى الأفاك يا هذه ؟

قال المحقق :

ـ الأفّاك يعني أنت .. يعني البهيم .. يعني عديم الشرف .. يعني الرجعي .. يعني العميل .. الديماغوجي ..

ـ والله عجيب .. أنا عديم الشرف وهي الشريفة ؟

ـ اخرس يا كلب .. هيا اخرج من هنا قبل أن أنزل بك عقابي ..

ولّى أوسو مدبراً ، وصوت الشيخ يلاحقه :

ـ يا حسرة على العباد .. يا حسرة على الرجال !.

وانثالت على ذاكرة الشيخ خواطر جمة حول أشباه الرجال ، وقطعان السوائم البشرية التي أنهكها السير وراء كل ماكر دجال ، يصول بهم وعليهم ، وهم فاقدو الوعي ، يقودهم إلى الجحيم مغمضي العيون ، لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، وأصموا آذانهم عن سماع كلمة الحق التي ترسم لهم الطريق ، وتكشف معالمه .. ولم ينتبه الشيخ إلا على سؤال المحقق :

ـ سألتك ما اسمك ؟

ـ عبدالله

ـ اسمك الكامل

ـ عبدالله القطبي

ـ حدثنا عن نشأتك ؟

قال الشيخ والآلام تمد رؤوسها من كل جرح من جراحات جسمه :

ـ نشأت نشأة دينية ...

قالت المرأة مقاطعة :

ـ دعني يا شيخ أكمل الأسطوانة عنك .. نشأت نشأة دينية ، ونبت في روضة من رياض محمد عليه السلام ، فكنت في يفاعتك زهرة قرآنية تسر المؤمنين ، ما لبثت أن ارتوت من نور القرآن وتأدبت بآداب النبوة ، حتى غدت ثمرة إسلامية يانعة ، تدعو إلى الجهاد في وقت ندر فيه الرجال المجاهدون الصامتون ، وأنت الآن إنسان كامل ، ومؤمن ثائر ، تهتف مع تلاميذك ومريديك : الجهاد سبيلنا .. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا .. هل تريدني أن أتابع ؟

نظر الشيخ نظرة المدهوش إلى المرأة ، وقال :

ـ ما اسمك يا امرأة ؟.

ـ فاطمة .

ـ أنت كذابة .. ليس اسمك فاطمة ..

ـ إذن ماذا تراه يكون ؟

ـ لست أدري .. ولكنك من جنس آخر ..

ـ طبعاً أنا من جنس النساء .. ولست رجلاً ..

ـ أعني أنك أكبر من مجرد مومس .. لست من بنات الليل ..

ـ ومن قال لك : أني مومس ؟ أنا حبيبة أبي المجد .. خطيبته ..

ـ أنت كذابة .. أنت أكبر من ذلك ..

نظرت المرأة إلى المحقق وقالت :

ـ قل له يا سيدي من أكون ؟

قال المحقق :

ـ إنها راشيل يا شيخ ..

قال الشيخ في صوت خفيض :

ـ أنت كالثور الريان .. لا تعرف أكثر من راشيل المرأة التي تبدو هلوكاً لتبتزك .. تبتز كرامتك ورجولتك .. دينك .. فتش عن راشيل يا صاحب السيادة ..

قالت راشيل :

ـ تسمع شتمك من هذا الشيخ القذر وتسكت يا أبا المجد ؟

ـ هل شتمني ؟

ـ لقد سبك بأقذع السباب .. ألم تسمعه ؟..

ـ بلى سمعته ...

ـ وتسكت ؟

ـ لا يا راشيل .. انتظري قليلاً ..

صفق أبو المجد ، فتسارع الزبانية إليه ، ومقلهم تدور في حدقها مغتاظة ..

ـ جهزوا الغرفة الخامسة والتسعين ..

توجه اثنان باتجاه الغرفة ، وهجم ثلاثة على الشيخ يجردونه من ثيابه وهو يصرخ بهم في أنين وأوجاعه تزداد طغياناً مع كل لمسة حتى أغمي عليه .. وعندما أفاق على دلاء المياه التي سفحوها عليه ، حاول أن يضع كفيه على عورته فصرخ من الألم :

ـ خونة .. خونة .. خونة ..

فيما أخذ الزبانية الثلاثة يجرونه من قدميه ، ووجهه إلى الأرض يتلقى الصدمات ، حتى أدخلوه إلى الغرفة الخامسة والتسعين :

كانت غرفة مربعة ، غطيت أرضها بماء خفيف ، وفي زاوية من زواياها جهاز كهربائي ، ألقوه في وسط الغرفة ، وخرجوا ، فيما وقف واحد منهم بجانب الجهاز الكهربائي وضغط على أحد الأزرار ، وإذا التيار الكهربائي يسري في الماء ، وينتقل إلى جسد الشيخ المعرّى فيهزه هزاً عنيفاً ، والشيخ يجأر :

ـ أحد أحد يا خونة .. أحد أحد يا فجرة .. أحد أحد يا فسقة ..

وتتناهى أصوات الشيخ إلى مسامع (المحقق) الذي تساقيه راشيل الكؤوس المترعة بنشوة العهر . ويطرب لتلك الأصوات ، فيصرخ :

ـ ضعوا له تحميلة ..

قطع الزبانية التيار الكهربائي عن الماء ، ثم هجموا عليه ضرباً ولكماً ، حتى غدا جثة هامدة لا حراك فيها سوى عيني نسر لا تعرفان معنى الانكسار ، برغم اللكمات التي أحاطتهما بزرقة داكنة مدماة ، وسوى حركة الروح في سموقها .. ووضع الآثمون شريطاً كهربائياً في دبر الشيخ ، وضغط أحدهم على زر الجهاز ، وإذا الجسم المكدود الجريح ينتفض انتفاضات الذبيح ، وصوت يزمجر كالزمهرير :

ـ أحد أحد ، يا خونة .. أحد أحد يا فجرة .. أحد أحد يا فسقة ..

وتضرب راشيل كأسها بكأس المحقق وتقول في صياح :

ـ في صحتك يا أبا المجد .. يا سيد الأسياد ..

ويجيبها المحقق في انتشاء المنتصر الجبار :

ـ في صحتك يا حبيبة ..

ثم يصرخ :

ـ أخرجوا التحميلة يا كلاب .. وعاملوه من الأمام ..

ويمتثل الكلاب لأوامر سيدهم .. يقطعون التيار الكهربائي ، ويخرجون السلك من دبره ، ويربطون آخر في قبله ثم يضغط أحدهم على الزر الكهربائي في الجهاز ، فيرتعش الجسد المكدود ارتعاشات المقرورين ويصدر عنه صوت إعصار :

ـ يا هو ..

وينقطع التيار .. ويهرب الزبانية ، ويروح الشيخ في غيبوبة ..

أوه .. من هذا ؟.. هذا أنت يا سيد ؟.. من جاء بك إلى هنا ؟ هل جئت لزيارتي ؟.. إنني كنت أتمنى زيارتك .. كنت أدعو ربي في سري وعلني أن يرزقني الشهادة ، لأكون إلى جانبك وجانب إخوانك من الشهداء والصديقين .. مالك يا سيدي لا تتكلم ؟.. إنني أريد أن أستمع إليك ، لا أسمعك مما عندي .. وليس لدي إلا ما علمتني إياه .. لقد كان درسك العملي أعمق من آلاف الدروس النظرية التي تلقيناها في المساجد والمدارس وقرأناها في الكتب والصحف ـ فهيا يا سيد .. يا سيد الشهداء .. دلني على طريق الشهادة .. الشهادة التي تسكنني إلى جوارك .. أنا عبد كليل ومجاهد قليل ، تعلّمَ منك ومن إخوانك الذين سبقوك والذين لحقوك .. تعلمت منكم دروس البطولة والإيمان .. ولكن الشهادة ما تزال مطلباً بعيداً يا سيدي .. قل لي بربك كيف أصل إليها ؟.. كيف أسلك طريقها ؟ إن هؤلاء الآثمين قد عرفوا شوقي إليكم فمنعوني منكم .. هيا يا سيدي هيا ادع الله لي أن يلهمني سبيل الشهداء .. أنا في شوق يا سيد .. في شوق..

وانطلق الشيخ ينتحب .. والزبانية يحيطون به ويسمعون نحيبه .. ويسمعون هذيانه .. ولكن أوسو وحده كان يعرف معنى هذا (الهذيان) .. فقد بدأ يطل على حقيقة هذا الشيخ المكافح .. ولكنه لا يعرف كيف يتخلص .. والمحقق يدخن غليونه في تبجج ، وراشيل تربت على كتفه بيدها ، وعلى أحاسيسه بضحكاتها وغمزاتها .. ويتحرك أوسو في خفة الملسوع ، ويمضي إلى غرفة قريبة . ويأتي بغطاء صوفي يلقيه على الجسد النازف ، وصوت الزمهرير يدوي في أعماقه :

ـ يا هو

تنبه المحقق لفعل أوسو ، فصرخ به :

ـ ويلك يا كلب الأكراد والعرب .. ماذا تفعل ؟

أحسَّ أوسو بالحرائق تلتهم بيته ، وتأكل زوجته وأولاده .. ثم .. ها هي ذي تمتد ألسنتها نحوه تريد أن تأكله ، فيما تأكل .. وضع كفه يتلمس مكان الصفعة التي تلقاها على حين غفلة من سيده ، شعر بالنيران تحرق دماءه ، قفز في الهواء قفزة مروعة وهو يصرخ كالهزيم :

ـ يا هو ..

صرخت راشيل مذعورة ، وإذا المحقق يشهر مسدسه ويردي أوسو صريعاً برصاصاته ..

تفجرت ثلاثة ينابيع حمراء من صدر أوسو .. ولسانه يلغو :

ـ يا شيخ خبر أهلي عمن قتلني .. قل لهم : إن دمائي تطلب الثأر من المحقق .. لا تنس يا شيخ اسم أبي المجد .. وإذا لم يستطع أولادي قتله أو قتل أولاده ، فقل لهم يوصوا أحفادي بقتل أحفاده .. سامحني يا شيخ فقد عذبتك مضطراً .. برغم أنفي .. ما كنت أعرف إلا أني عبد مأمور ، يجب أن يخدم سيده .. يا شيخ .. يا شيخ ..

وتدلت أقواس قزح مصجوبة ببرق ورعد وشمس محرقة ، وغابت روح أوسو في أطواء النجيع الذي صار حفرة نار ..

وقف الكلاب حول الجثة الهامدة في ضياع ، بينما انطلق لسان الأفعى :

ـ ويلك يا شيخ كيف تجرؤ على قتل أوسو ..

وانفجرت سحنة المحقق عن برق ورعد ، وإذا الثلوج تغطي رأسه وتتغلغل في عروقه :

ـ أمسكوا بهذا الشيخ .. لا تدعوه يهرب .. ويلك أيها المجرم .. كيف تجرؤ على قتل أحد عناصر الأمن ؟

كان المحقق يصرخ بهذا ، بينما كانت راشيل تضع المسدس بالقرب من الشيخ  والشيخ في ذهول مما يجري حوله ..

ـ ها هو ذا المسدس .. مسدس القاتل المجرم .. أمسكوه ..

تنبه الشيخ لوجود المسدس إلى جانبه ، فاختطفه بيده السليمة ، وصوبه تجاه المحقق وقال :

ـ ارفعوا أيديكم أيها الأنذال ..

ورفع الأنذال أيديهم ..

ـ أديروا ظهوركم أيها الجبناء .

وأدار الجبناء ظهورهم ..

ـ ألقوا أسلحتكم .

وألقى المجرمون أسلحتهم إلى الأرض ..

دوت رصاصة اخترقت رأس المحقق ، فهوى متخبطاً بدمائه السود ..

وانطلقت رصاصة أخرى واستقرت في الرأس الصغير الكثير التلافيف ..

ـ اسمعوا أيها العبيد .

وانصت العبيد لأوامر الشيخ .

ـ لن أقتلكم .. ولكني سأرى مدى شجاعتكم .. وما إذا كنتم لا تزالون تتمتعون بشيء من شرف .. سأسمع شهادتكم أمام المحققين أرأيتم إلى سيدكم كيف قتل زميلكم أوسو ؟..

إن روح أوسو تأخذ الآن بخناق المحقق وخليلته ..

هل تعرفون من تكون راشيل ؟

وأجاب أعتاهم في خزي :

ـ إنها بنت الدكتور حاييم ..

ـ وهل تعرفون ماذا تصنع ؟

ـ إنها صاحبته .. لا يلتذ في تعذيب المعتقلين إلا إذا كانت إلى جانبه ، تسقيه ..

قال الشيخ الجريح المكدود :

ـ اجلسوا أيها العبيد .. بعيداً عن أسلحتكم ..

وجلس العبيد بعيداً عن أسلحتهم ..

ـ لو أردت قتلكم لما منعني إلا الله .

ـ عفوك أيها الشيخ الجليل ..

لا أريد منكم إلا نقل الحقيقة إلى الشعب .. فغداً سيزوّر الآثمون ، وسيقولون أنني رئيس عصابة وربما يتهمون بعضكم ويزعمون أنه من أفراد عصابتي .. لا يا رجال .. تحرروا من عبوديتكم .. عودوا إلى أمتكم .. لا تخافوا الظالمين ..

صفارات الإنذار تملأ سماء المدينة .. هرب الجميع ونزلوا إلى الملاجئ .. وعندما خرجوا من أوكارهم ، كانت سحابة العبير تحمل الروح المجاهدة إلى عليين .. وزقزقة الأرواح التي تحفّ بالروح الصاعدة إلى بارئها تشنف الأسماع بموسيقا ملائكية .

حلب ـ 17/2/1971