انسلاخات إنسان

انسلاخات إنسان

أمل محمد الزعبي

" 1 "

كان إنسلاخه الأول وهو جنينا عاريا من شوائب الحياة ... إنسلخ من عالمه المظلم النقي وجاء الى الدنيا باكيا خائفا يترقب ما سيأتي ... فلقد غادر موطنه الأول بعد أن قضى تسعة أشهر يرتع فيها بالنعيم والأمان ...

" 2 "

بحضنها الدافيء الممتد ككون اتسع لجسده الصغير كان يأوي ويغفو ويصحو ... نبض قلبها هو أعذب الألحان ...صدرها كان موطنه الثاني وملاذه كلما قرصه الجوع والبرد والخوف ...وحين إنتصبت هامته ونبتت نواجذه تحتم عليه إنسلاخه الثاني ... فكان فطاما أليما مفجعا له ...

" 3 "

أغرته الأشياء من حوله ... فبات يقفز ويهرول ليكتشف بأصابعه تارة وبفمه تارة أخرى فتمتد يد أمه تعاقبه بحنان تارة وبقسوة تارة أخرى كلما إشتدت شقاوته ...ما أسرع الزمن يمضي به ! ...سنوات حملته ليضع قدمه على باب الرجولة ...فكان إنسلاخه الثالث عن أطهر عمر ... عمر الطفولة ...

" 4 "

يااااه ! ... حقبة من الطيش والشغف بالحياة تدفقت في عروقه دماء الشباب غزيرة حارة تشعل في روحه وجسده عشق الحياة بكل أطيافها وجنونها وصخبها ... ما ألذ دقائق العمر فيها ! وما أجمل النبض حين إنتشى سامقا باسم الحب ! ... لكن ولأنها هكذا هي الحياة لم تكتمل فرحته ...تحتم عليه انسلاخه الرابع ...حين فارقته تلك الانثى التي وضعته وجاءت به هنا ... فكان يوما عسيرا أطاح به في هاوية اليتم والحزن ...

" 5 "

لبث في صومعة حزنه أعوام ... ربما تظاهر بالابتسام ... ربما عربد مع أقرانه في الشوارع ليلا ... ربما غنى مع القمر ... وربما راقصت أنامله بتلات الزهر وأجنحة الفراشات ... لكنه ما نسي أمه يوما ...

وفي ليلة ما ... قرر أن يرتدي قناعا ... بعد أن أرهقه ضعفه واستسلامه ... أراد أن يكون رجلا أقوى بكل المقاييس البشرية ... فكان إنسلاخه عن ذاته !

" 6 "

غادر وطنه ... وتمازج مع كل أنواع البشر والحضارات ... بنى لنفسه مملكة رسمها كما أراد بذاته الجديدة ...حلق في السماء وغاص في البحر ... سافر عبر الصحراء وقضى أياما وليالي هائما بجبال الجليد ... في مدنه لم يرَ الا نفسه يزهو بذكاء جعله ينافس بني زمانه ... أعوام أكلت من عمره وشربت من صحته وعبثت بطمأنينته ... ومازال في كل ليلة يأوي بها الى فراشه يشتاق الى ذاته الأولى ...تفترسه ذكريات كان فيها انسانا قديسا لم تدنسه فيها همزات الشيطان ... كانت تغفو عيناه مطبقة على دمعة حارة تحرق جوف المقل ... كان يبكي انسلاخه الاول ... ويندم على انسلاخه الآثم الاخير !

ملاحظة : لم يكن ذلك هو الانسلاخ الاخير.