كعادتها وعادته

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

كعادته، الصباح حين يأتي جميلا، برائحة القهوة الممزوجة بالهيل، وكأن الألفة بينهما امتزجت لتضفي على قلوبنا إحساسا جميلا، إحساساً له مذاق ذو نكهة لا تعادلها أي نكهة! هي وقهوتها وقلبي واشتياق الحرف للمعنى، ندخل في مرجل واحد وتنصهر العناصر لتشكل ذاتها بأجمل صورة وأبهاها.

كعادتها، وهي ترتب شؤون ليلها ونهارها لتبوح له بذلك الإحساس، ربما تراجعت، ربما أقدمت، ربما ترددت، ربما تكبرت، وربما تواضعت، ربما جادت، وربما بخلت، حالاتها كعادتها معه، يصعب عليه أن يفسرها، يشتاق إليها وتشتاق إليه، يكتب لها، وتكتب إليه، بعيدان ظلا، متفقان روحا، يهربان كالعادة لفنجان من القهوة الصباحية أو المسائية، يدخلان في علاقة من البوح المشرد والمتناثر في أرجاء الكون هنا وهناك، الكل يعلم بما يكن أحدهما لصاحبه، ولكنه الخوف والجبن والتراجع ما يجعلهما أشبه بصامتين محترقين وجعا.

كعادته، يكون مفرّغا من كل شيء إلا من الحنين، يحاول أن يردد آخر حرف في سفر كتبه على بريق عينيها، يحاول أن يغزل لها أغنية فيروزية، أو مقطعا شعريا، أو مشهدا قصصيا، أو موقفا مسرحيا، ليقول لها فقط حروفا أربعة، إن غابت عنه أو حضرت، هذه هي ترنيمته الأبدية "أحبك" يا عاشقة الورد، ويا سيدة الطقوس.

كعادتها، تخجل وتتوارى وراء كل ما تفكر أنه يحجبها عنه، تحاول أن تفتش عن لغة حيادية فيفضح الشوق حروفها المنتصبة، لا تستطيع أن تتوارى، تختبئ لحظة في رشفة من فنجانها، فتشي الرائحة بعبير حنينها، فيتسرب إليه معانقا ومخبرا أنها ما زالت هناك تبادلك القبل.

كعادته، يستقبل النهار برحيق وردة مزروعة في حديقة منزله، يراها تنتظر محبوبة غابت وتاهت في الطريق إلى قلب تحول إلى رماد وهو ينتظر قدومها، يصعب عليه أن يصدق أن الوردة غدت أكثر عقلانية منه، ربما بكى للحظة في سره لأنها لم تعد هنا، لأنها لم تعد تشمّ رائحة المكان وتشرب معه فنجانا من قهوة الأمل.

كعادتها، وفي كل يوم جمعة أو عطلة أو دوام، تفتش عن قهوتها بين زحمة الأرواح، لا تجد إلا ظلين منكسين حزينين، لقد نسيت أن ظلها لم يعد معها، انسخلت عنه وانسلخ عنها، وقف بعيدا يراقبها، لم تعد تعرف أنها امرأة بلا ظل، وبلا مكان وبلا قلب، كلها سرقها حنين الشوق فذهبت إليه، لم يعد لها من كيانها غير ظل الظل، فماذا تبقى من مسافة لتكون أجرأ لتنام بين أحضانه لتستعيد أشياءها بين يديه.

كعادته، يربي الظلال ويحرس المعاني، ويقلم الأوجاع كل صباح، ينظف ما تراكم من قيح حول جراحه، يطمئن على أن قلبه ما زال هناك يحوم كطير من منى حيثما حلت وحيثما رحلت، يربي أشواقه، فيطعمها الهوى مع كل لقمة من جملة سائغة في اشتعال الفكرة على سطح الورق، لم يعد يعترف أنها لا تشاركه إحساس القهوة مع كل دفقة من جمال البوح الأبدي، إنها اجتماع واجتماع، لم يعد يعرف أن الفرقة بينهما كقافية القصيدة، لم يعد يعرف أن الأوتار مرخية في لحن الغرام في شدو الأماني المقبلة، كعادته يظل يحرس وردة الأمل، ويربي قلبه في حضن روحها رغما عن بعد هو للروح قاتلها، لكنه جبار أغنية، وصانع للحياة على مرأى شخصها يلوح من بعيد.

كعادتها، وعادته، اعتادا أن يظلا في دائرة مفرغة يدوران حول بعضهما، يقتربان، يبتعدان، يلتحمان، يتحدان، وفجأة يفترقان، يظل يحدثها وتظل صامتة، كعادته وعادتها.