فاصلة، الثورة لم تنتهِ بعد!
فاصلة، الثورة لم تنتهِ بعد!
م. موفق أبو حمدية
(1)
في حساب السنين هو طفل ! ، وفي ميزان الألم والدم هو شيخٌ مقوّس الظهر ، تبارى مع المصائب فأكسبته التجربة وسلبت منه الخوف ، ولحسن حظه أنها لم تمنحه الشيب . أحلامه تغيرت من خوف السقوط إلى حب الطيران ، ومن اللعب مع الأطفال إلى تمني اللعب بآلات الكبار ، همه أن يثأر لأخيه ، ثم لنفسه التي ُسلبت منها براءة الطفولة والأهم : التسبب بإعاقة في رجله ستجعله أعرجاً مدى الحياة .
وضع بطانية صوفية على نافذة بيته وأسند يديه عليها بصعوبة ، كانت الشمس تجمع أشلاء أشعتها القانية بعد يوم دمويّ آخر ، "غابت لكنها ستشرق غداً" قال في نفسه . الجوع يقطع أوصاله البرعميّة ، لكن جوعاً من نوع آخر سَلب لبّه ، هو الجوع للاستلقاء تحت أشعة شمس الحرية ! . الاسم : أحمد ، العمر اثنا عشر عاماً ، الهواية : مشاهدة مسيرات الحرية وأعراس الشهداء والمشاركة فيها .
(2)
وقف أمام المايكرفون ، ارتشف الماء من كأس كان بجانبه ، نظر إلى ساعة يده ، همس : "الاثنين ، المغرب ، الساعة الخامسة وعشر دقائق ... حَكم الوقت" ، عبّأ قِرَبَ رئتيه هواءً ، تسللت إلى فكره عنوة صورة المسجد بثلثه المهدم ، وباقيه الذي لا يُرضي وضعه إلا من "منع مساجد الناس أن يذكر فيها اسمه" ، استعرض الدماء ، والصيحات ، والدموع ، فصاح بمقام الحزن الصَّباويّ : " اللهُ اكبرُ اللهُ اكبر .." . الاسم : أبو خالد ، العمر : خمسين عاماً ، لا هواية له سوى : انتظار الفرج!.
(3)
أغلقت الباب ، جلست على سريرها ، استقبلت القبلة ، وبدأت في تلاوة أذكار المساء ، صوتها عَذْب ، جاءت أمها فتحت باب غرفتها ، ثم أشارت لها أنِ استمري ، وما زالت تردد : "اللهم ما أمسى بي من نعمة أو بأحد من خلقك ، فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشكر " ، فلما انتهت قرأت ورد الإمام النووي الذي أوصاها والدها بقرائته ، ثم رفعت يدها ، داعيةً على طاغية الشام بالهلاك ، ولشهداء بلادها بالرحمة ، وللمجاهدين بالحفظ والرعاية . وما إن أكملت دعائها حتى نوالتها والدتها كأس ماء بارد ، وثلاث حبات من التمر قائلة لها : "تقبل الله صيامك ، سمّي على بركة الله .."
الاسم : خلود ، العمر : تسعة عشر عاماً ، الهواية : كتابة اللوحات المطالبة بالحرية ، والدعاء لمن يطلب !.
(4)
اقتربت منه ، التفت إليها ، ابتسمت في وجهه ، ثم أعطته تمراً وماءً ، قالت له : "تقبل الله يا ابني .." ، ثم نادت :
- " أيها الصائمون ، أنضع الطعام الآن ، أم ننتظر أباكم ؟"
- فردت خلود : "لا مشكلة ، فلننتظر أبي كالعادة " ، وكذلك كان رأي أخاها الذي لم يبالِ بالسؤال أصلاً .
دخلت والدتهم إلى المطبخ ، اطمأنت إلى جاهزية الطعام ، وحسدت نفسها أن أكرمها الله بصائميْن في بيتها هذا اليوم ، فصيام النافلة غدا "روتيناً" تفخر الأم باهتمام أبنائها بأدائه ، وهذا يضفي جواً إيمانياً يبعث على السكينة في بيتها ، وبالأخص مع اقتراب ميعاد الآذان الذي يصدح بإعلانه أبو خالد ، زوجها ذو الصوت الشجي .
الاسم : إم خالد ، العمر : خمسة وأربعين عاماً ، الهواية : تطبيب الأفئدة المجروحة رغم أنها صاحبة القلب الأكثر جرحاً ! .
(5)
المائدة ازدانت بالكبة السورية أكلة خلود المفضلة ، مع صحن سلطة الخضار لأحمد ، تتناثر على السفرة أيضاً عدة صحون من "مونة" أي بيت شاميّ . دخل أبو خالد ، وجلس الجميع على طاولة الطعام ، تبادلوا نظرة الحب والاشتياق لبعضهم ، هدوء قطعته إم خالد بمجاملة زوجها :
- صوتك اليوم في آذان صلاة المغرب ، كان فيه سحر غريب ، ولكأني أسمع الآذان لأول مرة منذ فترة "قالتها مبتسمة" .
فرد عليها :
- جزاك الله خيراً إم خالد ، منذ شهرين ونصف ، نسينا مقامات الفرح واستعضت عنها وبدون إرادة مني بما تسمعين ، بالضبط منذ ما جرى في حينا وقصف مسجدنا ... رحم الله خالداً ، لقد كان استشهاده ابتلاءً ، لكنه لا يقاس بما نرى ونسمع عن عائلات أخرى ، لكن إيماننا وصبرنا بالله يخفف كل ألم ، هيا لنبدأ بسم الله الرحمن الرحيم .
امتدت الأيدي لتمزق الخبز الذي وقف أحمد في الطابور ساعة كاملة حتى حصل عليه ، وفجأة ، انفجار عظيم ، حول السباق بين الأيادي إلى تسابق بين الأرواح ، لم يأكل أحمد وخلود من أكلتيهما المحببة ولو لقمة واحدة ! ، فقد حلّا ضيوفاً على مائدة أعظم وأكبر وأطيب من تلك التي تحلقوا حولها قبل قليل ، وغدت الآن رماداً في رماد .
أم خالد التقت أخيراً بابنها الذي قُتل في معركة من معارك الثوار قبل شهرين ونصف ! ، وكم كانت فَرِحة بمنزله في الجنة وزوجاته الحوريات جمالاً واسماً ، أبو خالد التقى أخيراً بصدى صوت آذانه في السماوات العلوية ، ومن المهم أن يعلم الناس أنه ما زال يؤذن ! .
الاسم : عائلة أبو خالد ، العمر : أبداً ، الهواية : " في الجنة تسرح!" .
(6)
كان الدمار أوسع من أن يصفه قلم أو لسان ، ما عادت الصرخات مقترنة بالصدى ، لأن الصدى ملّ إلا أن يزغرد لرصاص الثورة ، برميل الموت حصد دماراً وأرواح عائلة لكنه لم يحصد إلا لعنات ودعوات تتكرر على لسان الناس يوماً بعد يوم ستتجمع لتكون منجلاً يحصد النظام الطاغية وشبيحته ، فالموت والقتل فاصلة في حياة الثورات ، تنبئنا أن الثورة لم تنتهِ بعد.
الاسم : شعب سوريا ، العمر : هنا الشام حيث التاريخ بدأ وبأمر الله ينتهي ، الهواية : التسابق نحو النصر أو الجنة.!