الحب المقتول (بين الحقيقة والوهم)

الحب المقتول

(بين الحقيقة والوهم)

هائل سعيد الصرمي

[email protected]

كلما اقترب الموعد المضروب للزفاف ازدادت فرحة سمية وصفوان, وفاضت فرحتهما فلم تسعها أرض ولا حوتها سماء , حتى جاء اليوم الموعود الذي جمعهما في قفصٍ ذهبي جميل , طُرِّزَ بجواهر الأشواق , وزُيِّنَ بألماس الحب...وبدت سمية في غاية الجمال والحسن الذي أدهش الحضور  فربا...

أنشدتْ أنغامه سيفونة من ربا صفوان شدوا طيبا... 

بلغت أنغامه عرض المدى ينثر الدر ويلقي الذهبا..

في زفاف ماتعٍ بانت به نجمة الحسن تواري الشهبا.

وبعد أن استراحت مواكب الأفراح , وأناخ في ربوعهما الانشراح , وتم لهما الوصال ,غادرا العريسان موطنهما نحو مدينة الأحلام , لقضاء أيام العسل.

كانت سعادتهما لا توصف...لقد مرت الأيام كطرفة عين وومضة برق, كأنها حلم جميل سرعان ما انقضى وارتحل , ولولا انتهاء فترة إجازتهما , لاستمرا في متعتهما يسبحان بين أنهار الغبطة , وبحار الأنس , ويرتعان من حدائق الوصال كما ترتع الضأن في الوادي الخصيب.

عادا وهما يصطحبان كأسا دهاقا مترعا بالآمال ؛ ليرشفا منه الحياة السعيدة الآمنة المطمئنة ,عادا والسعادة تغمرهما , والأحلام تندفع من بين عينيهما , كاندفاع الجداول بعد غيثٍ مطير!! وقد عزما أن لا يدعا فرصة من ليل أو نهار تمر بهما إلا ويرشفان من كأس الهوى ما لذَّ وطاب , ويقطفان من خضروات البهجة , وفواكه المسرَّة أحلى ثمار العمر , ولن يسمحا لشيء من المنغصات بأن يعكر صفوهما , أو ينال من حبهما وأنسهما هكذا كانا يأملان..

ها هما فانظر إلى حسنيهما أملين انفلقا من أملِ ...

ها هما والفل في برديهما ضوع الآفاق بالحسن الجلي ...

أشرقت أحلامهم ثم همت فـرحة مفعمة بــــالأمـلِ. 

فهل يدرك المتمني ما يأمِّله أم يعترض سير الحياة بلاءُ؟.

ما أن سمعتْ ناهد بعودتهما حتى انتفضتْ كانتفاضة المَمْسُوسِ من الجن.. عاد وحش الاكتئاب من جديد ينهش قلبها, فقد كانت حديثة عهد به ؛ حيث أصيبت 

بصدمة نفسية بعد أن علمتْ بزفافهما , وظلت فترة لا يعرف الأطباء سببا لمرضها.

لكنها هذه المرة تماسكت ؛لأنها قد نسجت أحقادها في خطة مدبرة ومكيدة مُعزَّرة عزمت عليها , كانت بمثابة المُسكن الذي يخفف ألم الاكتئاب المخيف , فلم تذهب إلى الأطباء كما فعلت سابقا , إنه وحش كاسر مؤذي يدهمها كلما نبا إليها أريج سعادة , أو وميضُ هناء يمر بصفوان وسمية , فلا تستطيع التخلص منه إلا بإيذائهما , كيف تهدأ بالاً وهي تراهما يرفلان اليوم بسندس الحبور, وأثواب الهناء؟...وهاهما يرتديان تاج الأنس بهذا الزفاف , كيف يتم نزع هذا التاج المتلألئ الذي يثير كوامن غيضها وحقدها , إنها لا تستطيع أن تراهما ينعمان في بساتين السعادة! ولا قدرة لها على تقبل ذلك , وكذلك يفعل الحسد بأصحابه إن تعاظمَ وأطلق سراحه.

يا لمصيبتها!! لقد انهارت مرات عديدة قبل أن تسعفها نفسها الأمارة بما أوحته من خطة لعينة وتدبيرٍ مقيت , ولعلها قد طابت بما زين الشيطان لها من مكر , واطمأنت إليه بل وعزمت عليه عزمةً من دونها مفاوز الموت وقطع الرقاب.

يا الله !! كم أكل الحقد قلوب أصحابه ؟! وقتل الحسد حياة أربابه ؟!!. 

في اليوم الثاني حملتْ نفسها بعد أن تزينت وأخذتْ من سوق النَّفاق هدية متكلفة وذهبت إليهما في شقتهما المستأجرة , وقدمت لهما التهنئة , متصنعة البسمة الصفراء على وجهها , متكلفة حسن الحديث وقلبها يغلي كغليان القدر إذا نضج محتواه , ونفسها تتهتَّكْ مرارة وحسرة !! ولهيب الغيرة يلسعها كلسع الحية الرقطاء , لتسري في دمائها سموم المكر , كما يسري النفاق على لسانها المعسول.

لم يهدأ لها بال , ولم يقر لها قرار منذ ذلك الحين, وظلت تزور سمية وتحاول استمالتها بالكلام الجميل والهدايا الجذابة , حتى بدأت سمية تشك بهذا الاهتمام الزائد وتتخوف مما وراءه ؟!! وكانت تعلم أنها امرأة شريرة , لكنها مؤخرا بدأت تتأثر بحديثها , وقد تسلل إليها حسن الظن بها , خصوصاً بعد أن أخبرتها بأنها تغيرت وشعرت بالندم لطيش أيامها السالفة. 

هكذا صدقت سمية ما تنسجه ناهد من معسول القول .. وغلب عليها هذا الظن. ومع مرور الأيام انبسطت معها واستأنست بها وبادلتها الصحبة والهدايا والمشاعر وأصبحت من أحب صديقاتها , وكان زوجها يحذّرها منها مرارا وتكرارا فلم تلفت إليه , واستمرت في صحبتها وهي تعلم أنها صحبة سوء... وعندما بلغت الثقة بينهما حدا لا يختلجه ريب شرعت ناهد في تنفيذ ما زين الشيطان لها من مكر.

وفي أحد الأيام دخلتْ ناهد على سمية في مكتبها وهي تحملُ كأسين من الفراولة الطازج , وبعد أن ألقت التحية ووضعتهما على الطاولة , تناولت أحدهما وقعدت متكئة على كنبة بجوارها , وبدتْ عليها علامات الارتباك , وهي تقاوم رعشة القلق التي ظهرت في اهتزاز الكأس بين يديها , حاولت إخفاء الارتباك الذي ظهر بين عينيها لتمنعه بابتسامة خفيفة . 

ثم قالت: عساك بخير يا سمية , تفضلي اشربي كأسك فإن للفراولة أثراً في حيوية الجسم ونشاطه , كما أنها تساعد على صفاء الذهن , والتفكير الجيد , فهو أجود من الليمون الذي نحتسيه , ولا نشعر بأن أحماضه مؤذٍية. 

وقبل أن تتناوله سمية ـ شكرتها وقالت: دائما مبادرة بكرمك وطيبة قلبك , لا حرمني الله منك!.

ثم تناولت الكأس , وبدأت تشرب رويدا رويدا...حتى أتمته فخرجت زفرة من صدر ناهد كأنها حطتْ حملا ثقيلا من على صدرها...أثارَتْ انتباه سمية ـ مما جعلها تقول: يبدو أنك لم تنامي بالأمس جيدا , فالأرق , والقلق ظاهران عليك.

ـ هو ذاك... واستمرتا بالحديث هوينه ثم صمتتا , وبعدها قطعت ناهد سلاسل الصمت , وبدأت تُلمحُ بأن لديها عملا وترغب بالانصراف , و قبل مغادرتها ظهر عليها انبساط كأنها تعانق نشوة نصر بلقاء حبيب , أو عودة فقيد بعد يأس وطول انتظار , لذلك جاء الارتباك مصبوغاً بهذه النشوة , وتضاعف بها أكثر من بدايته... انصرفت وكأنها انفكت من عقال. 

ساور سمية بعض الشك من ارتباك ناهد , وتساءلت : عن سبب ذلك الارتباك , ولكن سرعان ما استدركته بالنفي وسكنت نفسها وذهب خوفها , وانشغلت بما في يديها من عمل وفجأة داهمها نعاس شديد فلم تسطع أن ترفع رأسها وغابت عن الوعي في مكانها. 

مرت الأيام ...وتراجع إقبال ناهد على سمية , فلم تعد تتردد عليها ولا تلاطفها كما كانت تفعل , وأثار هذا استغراب سمية , وحاولت أن تجد له تفسيرا , وتربط بين ما كان منها في ذلك اليوم من ارتباك وبين هذا الجفاء والتغير , لكنها لم تكترث لهذه الظنون ولم تلق له بالا.

وفي إحدى الأيام أصيب أحد أقرباء صفوان بطلقٍ ناري أثناء خروجه في مسيرة سلمية تطالب بالحرية من نظام مستبد طال فساده وأسن بقاؤه.

أسعف إلى المستشفى وتم الاتصال بوالديه فاصطحبا معهما خاله صفوان إلى المستشفى , واللهفة والقلق تأكل قلبيهما , فلما وصلوا وجدوا الفتى في غيبوبة ... أسرع صفوان إلى الطبيب يسأله عن حالته! رد عليه قائلا : لقد نزف كثيرا وهو الآن بحاجة إلى دم , وعلى الفور أعطاه كرت الفحص بعد أن طمأنه بأن نسبة شفائه كبيرة. 

هرع صفوان للتبرع بالدم , وبعد أخذ عينه من دمه للتأكد من تطابق فصيلتيهما وكمية الدم وسلامته...كانت الطامة والمفاجأة المروعة التي لم تكن في الحسبان , ولم تخطر على بال , يا لهول الصدمة التي تلقاها صفوان , فاجأه الدكتور معتذرا له دمك معتل لا يصلح !! لن نستطيع أن نأخذ منك الدم .

اندهش صفوان مستغربا!! : أريد أن أنقذ قريبي فهو مشرف على الهلاك ولست أعاني من شيء , وأظن أن فصيلتي كفصيلته وأنا أولى الناس به , فما يمنع ؟!. 

قال له: قلت لك أنك مصاب , وأولى بك أن تنقذ نفسك وتنأى عن غيرك, بدلا من أن تهلك الحرث والنسل !!.

ازدادت حيرة صفوان وانتفخت أوداجه , وضاق بكلام محدثه , وقال بصوت مرتفع ماذا تعني؟! أفصح يا دكتور , قبل أن أفقد أعصابي ويزيغ عقلي هل عندي فيروس الكبد .

ـ كلا: أنت مريض بفيروس الإيدز وأشك أنك تجهل مرضك!. 

انكمش صفوان وبدأ القلق يظهر عليه , قال وقد ساورهُ الخوف: وظهر ذلك بانخفاض صوته بعد أن كان حاداً , أخبرني ما الأمر فإني لا أعلم شيئا ؟ !.

ـ قلتُ لك: أنت مصاب بفيروس الإيدز! ونقل الدم لأي شخص يعرضه للإصابة بهذا المرض الخبيث , أحضر شخصا آخر كي نسحب منه الدم.

لم يصدق صفوان ما سمع !! وقهقه ضاحكا بهستيرية مجنونة قائلا: لا تتهمني أيها الرجل !! لقد خانتك معرفتك , ليس بي شيء , لقد أخطأت لقد أخطأتُ تأكد مما تقول!!.

تناول الطبيب ورقة الفحص والقاها إليه صامتا وانصرف عنه إلى عمله.

أخذها صفوان وذهب إلى الإدارة ليشكوهُ إليها كان مسرعا كأنما يسير على الجمر دخل على المدير وهو يلهث وقد تغير لونه , والعرق يتصبب من جبينه كأنه خرج مهزوما من معركة ضارية. 

ـ لقد رفض المختص سحب الدم وسخر مني , وأعطاني هذه الرشدة ؛ متعللا بدعوى مزرية ومزورة.

نظر فيها المدير ثم نظر إلى وجه صفوان , وأعاد النظر بين النتيجة وصفوان مندهشا ! أقلق هذا التصرف صفوان أكثر!! وبدأ يرتعش. 

ثم قال : لماذا تنظر إليَّ هكذا؟.

ـ لقد صدقك المختص ولم يسخر منك أنت مصاب بفيروس الإيدز فعلاً !!.

سقط صفوان مغشياً عليه !! ثم أفاق وليته ما أفاق , بعد أن أراقوا عليه دلوا من ماءً ,!! وضربات قلبه تنبض ووجهه مصفرٌ , كأنما مُصَّ دمه من بين عروقه , و لم يبق به قطرةً دمٍ واحدة...

ـ صرخ مُشتطا: مخاطبا من حوله ,لستُ داعراً , فمن أين جاءني هذا الفيروس؟!. وأنا لا أعرف الفحش ولا السوء , هذا الفحص ليس لي , لابد من إعادته. 

وانتفض ـ من سريرٍـ كان قد وضع عليه بعد غاشيته ـ كالأسد متجها نحو غرفة الفحص يطلب إعادته , وبعد الإعادة كانت النتيجة كسابقتها..!

عندها أصيب بصدمة نفسية فظيعة لم يصب بمثلها في حياته ؛ إنه يرى الموت بين عينيه!! وبدأ يفكر وهو يرتعش من أين جاءهُ هذا المرض الخبيث؟! وتذكر ما كان قد نسيه في زحمة أيامه بحسن ثقته...تذكر تلك الصورة اللعينة التي تُظهر فيها سمية مع شاب يعانقها , ولم يهتد إلى هذا الشاب أهو قريب أم عشيق يومها رجح قرابته لها وأطفأ شكه بثقته بها, أما الآن فقد تغير الأمر تماماً وأصبح الشك يقينا . 

صعق وذاب كيانه وتهتكت أعصابه , كأنما خر من السماء تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق , إن اللغز القديم انفكتْ شفرته بنتيجة الفحص المروعة. 

ازدحمتْ بعد هذه النتيجة صور الخيانة في مخيلته !! فانهارت قواه !! وشعر بانتكاسةٍ أطاحت به أرضا !!, انهار كل شيء في حياته ...كل ما بناه طوال عمره تهاوى أمام عينيه في لحظة , كما يتهاوى الجدار الخرب الذي أكل الدهر عليه وشرب , يا لحمقه وخيبته , لقد داهمه سيل جارف من الهموم لا طاقة له به! بل لا طاقة لأحد مهما كانت قوته وصلابته !! أي مصيبة هذه التي انقضت عليه كما ينقض الثعبان ليلدغ متصيدا أو متخوف !!.

كيف يصنع بمن ملَّكها عمره ووهبها حياته , وأعطاها مالم يعطِ أمه وأباه؟...! فخانته وقتلته أبشع قتله , كان يظنها الطاهرة العفيفة , وهي الفاجرة العاهرة , كيف لم يتنبه لهذا من قبل ؟! لقد أعماه الحب أن يراها على حقيقتها!!. وخدعته المودة والطيبة التي كانت تبديها له كذبا وزوراً. 

هكذا حدّث نفسه وسكب الشيطان بعقله سمومه حتى أصبحت وساوسه يقينا في مخيلته , تتجاذبه كما تتجاذب الضباع بقايا ميتة الأسد , حتى أسلمته لها. لقد طغى هذا الشعور واستولى عليه .. أكان خباً فيما مضى يا لغبائه كيف استطاعت هذه الفتاة أن تخدعه وتستولي عليه وهو من هو؟!...يا للعار الذي ألحقته به و يا للفضيحة!!.

ها هو الموت أمام عينيه يريد أن يبتلعه , لكنه مقتول في ذهوله وغيرته أكثر من الموت نفسه الذي يحيطه , فمصابه في عرضه أشد عليه من مصابه في نفسه.

وفجأة صاح صيحة خر على أثرها مغشيا عليه...اجتمع الناس حوله وأسرع الأطباء إليه وبعد أن أفاق نَهَرَ من حولهُ وانتفض انتفاضة المغبون وولى مهرولا نحو باب المستشفى كأنه أراد أمراً هاما ...فهو مسرعٌ إليه , يخاطب نفسه كالمجنون خدعتني الخائنة وقتلتني والله لن أموتَ حتى تموت.

واستمر لاهثا يسابق خطا الريح في شوارع المدينة متجها نحو منزله , لا يلتفت لشيء , حتى وصل وهو مشنج القوى مشدود الأعصاب مشتت الذهن مذهولاً !! كأنما يلاحق الموت والموتُ يلاحقه !! فدخل غرفة نومه وأخرج مسدساً من دولابه , ثم اتجه إلى المطبخ ـ حيث زوجته سمية تعد طعام الغداءـ وبينما هي منهمكة تطهو ـ وقد سمعتْ جلبةً عرفتْ من خلالها قدومه ـ فنادت: صفوان , هل وصلت؟! لقد عدتَ مبكراً , أخبرني كيف حال قريبك؟!!. 

وفجأة وثب أمام باب المطبخ , وهي تحدثه وعيناها على النار حتى لا يتلف الطعام , ولم تلتفت إليه , إلا عندما سمعته يقول: فعلتِها يا خائنة !! فعلتِها يا فاجرة! قتلتِني بفجورك أيتها الساقطة.............!!.

تسمرت في مكانها كأنها جدار حائط , وقد تغير لونها وانكمش ظلها , وخنقت الفجيعة أنفاسها وغرورقة الدموع في عينيها , فبدت كأنها عرجون ذابل هشمته العواصف في شتاء قارس , والعرق يتصبب منها كشلال منحدر بعد يوم مطير! وكلماته تنهال عليها كأنها صواعق من السماء , فلم تسمع غلظة موحشة بهذه الصورة , ولا فُحشا مقذعاً بهذا القدر؟! من أحد طيلة حياتها , هل هذا صفوان ـ الذي لم تر منه نكأة قبل الآن قط ـ؟! أم شبح عفريت؟! ما الذي حصل؟!!.

كانت يد صفوان خلف ظهره , وهو يزبد ويرعد والرضاب يسبق كلماته الفجة الغليظة , كما يسبق الغثاء السيل الهادر, وكان المسدس في قبضته والزناد على إصبعه , لم يمهلها ! وقد تسمرتْ كأنها عود قضيب , أو جذع طلح يابس قرضته الأيام وغبره الدهر بكلكله !! وسرعان ما وجه إليها فوهة المسدس وأطلق على الفور ثلاث رصاصات في صدرها النحيل, أردتها أرضا تتخبط في دمائها , وهي تقول: ماذا صنعتُ وماذا جنيت؟! وكانت آخر كلماتها : لمَ قتلتني؟! ماهي جنايتي يا... ؟! ولم تستطع اتمام الجملة , وكانت تتدحرج وتزحف بين دمائها وتمد يدها كأنها تستغيثُ به لينقذها من صراع مرير , والموت يشظيها لينزع روحها من جسدها... وصفوان ينظر إليها كأنه صخرة أو وحش كاسر, لم يرق لها وهو يشاهد تلك الدماء تتدفق , وهي تتلوى كما تتلوى الحمامة المذبوحة , وفي يدها ملعقة قد التصقت في لحمها كما يلتصق الساطور إذا ضرب به لحم الجزور , من شدة قبضتها عليها أثناء خروج روحها الطاهرة ...خرجت أنفاسها وعضت نواجذها العليا على شفتها السفلي وصعدت إلى باريها , ولسان حالها يقول: 

وقوم يُقتلون بغير ذنب وعاشوا كالملوك وهم صيام

فيا ربي أنلني برد عفــوٍ بقربك كي يشرفني المقام

فإنا نسوةٌ ضعفاء ننسى وهــل يغني صيام أو قيام

وكم أحبابنا ظلمونا غيا ولو سألوا لمَ انفرط اللجام

غوت أهواؤهم قتلت خطانا فما بان الحلال ولا الحرامُ

إذا لم تهدهم دربا سويا تُغرد في نواحيه الحمام

لعاشوا كالبهائم في ضلال يغطيهم عن النور الظـلام

فخذني في جنان النور إني أأمل أن يرافقني العظام

فمن يستمطر الرحمات غوثا ينعـم بالهناء فلا يضام

فربك يصطفى من يرتجيه وينصر من بشرعته استقاموا

فاضت روحها وهمد الجسد فوق دمائها الطاهرة التي ملأت المكان...يا لهول ما صنع صفوان بحمامته الجميلة!!. 

لقد خر جاثيا على ركبتيه مذهولاً غير مصدق أهو في يقظة أم منام؟...أيشاهد حلما أم فلما , أم حقيقة أمامه ؟! لم يتمالك نفسه انهار بجوارها كأنه ميت!.

فاق من غاشيته والمسدس بين يديه , فوجهه ووضعه على رأسه ثم ضغط الزناد لكنه أبى , لفراغه من الرصاص , فسقط مرة أخرى على الأرض لا يدري كيف يتخلص من نفسه ؟! كانت حالة صفوان الصحية سيئة للغاية , وكانت تبعث على الشفقة وكأني به الآن وهو يحدثني بحاله من غير حديث رغم وحدته وصمته. 

كادَ رغم الصَّمتِ أنْ يُخْبرني عن لهيبٍ يتلظـى في حشاهُ

عن سماواتٍ جثتْ في صدرهِ وسكا كينٍ تشظي منتهــاه

كِادْتُ أن أزجره من سخطي مُذْ هَوَى من بينِ عيْنيْهُ رجاهُ 

وقيود الصمت كم تمنعني والأسى في خافقي نبض أساهُ

ليتني أنقذه حتى أرى ما الذي صار وأصغي لشــكـــاهُ

قال لي من غير قولٍ صمتُهُ: يفقد الإنسان مقهوراً رؤاه

مبحراً في عالم الموت الـذي لم يكن يعلم يوما منتهــاهُ

لم أكن أعلم أن الموت مخـبــوءً يواري بين شرياني دجاهُ

سادرا في عالم الغيب الذي أضحت العينان عن قرب تراه

فجأة يطرق بابـــي ويرى أنني المعـنـــيُ وترديــني يــداهُ

وبعد هنيهة من استرخائه كأنما اهتدى لأمر...أدخل يده في جيب معطفه واستخرج التلفون وبصعوبة شديدة تلمس رقم الشرطة واتصل بهم يطلب حضورهم إليه , وهنا بدأت القصة تأخذ مسارا آخر لتتكشف الحقائق وينجلي المستور.