بَعدَ الرَّحِيلِ

د.فاطمة محمد العمر

د.فاطمة محمد العمر

[email protected]

لَم تُصدِّقْ عَينيهَا ..

إِنَّه هُو .. هو فِعلاً ..

عَانقَتهُ بِلهفةٍ ..

مَسحَت جَبينَهُ المُتعبَ بِراحةِ يَديهَا ..

تَخلَّصَ منهَا بِضحكتِهِ المُعتادةِ: مَا رَح أَطِير ..

جَلسَت إلَى جِوارِه ..

تَأمَّلت مَلامِحَ وَجهِهِ المُتعبَةَ ..

بَسمتُهُ تُشرقُ بَراءَةً وَوَداعَةً ..

طَبعَ علَى جَبينِها قُبلةً حَارَّةً وَهمسَ بِصوتٍ خَافتٍ: اعذُرِينِي ..

لَم تَعد تَشعرُ بِالحَنقِ الَّذي كَادَ يَقتلُها أَوَّلَ رِحيلِهِ ..

أَجابَتهُ بِبسمَةٍ: طَمّنِي .. كَيف صِرت ؟!!

- كِتير مرتَاح .. الحَمدُ لله ..

عَادَ يَتشاغَلُ بِهاتِفِهِ ..

لم تَشعرْ بِرغبةٍ فِي الحَديثِ ..

تُريدُ أَن تَتأَمَّلَهُ فَحسَب ..

عَدَّلَت وَضعَ المِخدَّةِ وَراءَ ظَهرِهِ ..

ابتسمَ لَها بِشرُودٍ ..

رَاحَت تَعدُّ لَه الشَّايَ الَّذِي يُحبُّهُ ..

تَرمقُهُ مَرَّةً بَعدَ مرَّةٍ ..

يَبتسمُ لَها ..

هَمسَت لِنفسِها: لَم تَتَغيرْ بَسمَتُهُ ..

لَم يَتغيرْ فِيهِ شَيءٌ ..

يَنسَابُ الاطمِئنَانُ فِي أعمَاقِها!!

حَملَت إِليهِ الشَّاي: مُهنَّد عَم يَسأل عَنك كِتير

ارتَشَفَ رَشفةً سَريعةً كَعادتِهِ: البَركَة فِيك ..

بَس نَدَى لازم تُشوفَك .. كِتير مِشتاقتلك ..

- يَا رِيت!! بَس مَا فِي وقت ..

اعتَرَضَت: خَليك شُوي .. لَحقان عَالروحة!!

لَم تنتظر الرَّدَّ ..

مَوجاتُ الاطمِئنانِ فِي أعمَاقِها تَمتدُّ وَتَتوزَّعُ فِي كُلِّ مَساماتِ الرُّوحِ ..

سَألتهُ: مِن وين هَالقمِيص الأَبيض ؟

أَشرقَ وَجهُهُ بِابتسَامةٍ عَذبةٍ ..

مَدَّت يَديهَا إليهِ ..

شَيءٌ فِي أعمَاقِها يَدعُوها إِلَى ضَمِّهِ ثَانيةً ..

شَعر بهَا ..

استكَانَ فِي أحضَانِها: أَعرفُ أَن لا شَيءَ يُمكنُ أَن يُرضِيكِ ..

تَختَلِطُ المَشاعِرَ ..

رَغبةٌ خَفيَّةٌ تَدعَوها لِتوَبِّخَه ..

تُريدُ أَن تَصرخَ بِهِ: لمَاذَا ذَهبَت دُونَ أَن تُخبِرَنِي ؟

لا تَستطِيعُ أَن تُحرِّكَ لِسانَهَا!!

تَشدُّهُ إليهَا ..

تَسمعُ صَوتَها: قَلبِي زَعلان بَس وَالله مِن كل رُوحِي رَضيَانة!!

تُضيفُ: بَس عَم أَشتاقلك كِتير!!

بَسمتُهُ المُشرقَةُ تَمسحُ بَعضَ أحزَانِها ..

شَيءٌ فِي أعماقِها يَمنعُها أَن تُطالبَهُ بِعدمِ الرَّحيلِ ..

شَيءٌ خَفيٌّ لا تَدرِي كُنهَهُ يَسري فِي عُروقِها فَتستَسلِمُ لَيديهِ اللَّتَينِ تُبعدَانِ يَديهَا عَنهُ!!

يَقفُ شَامِخاً كمَا الجَبلُ الأَشمُّ ..

استِسلامٌ عَجِيبٌ ..

هُدوءٌ فِي أَعماقِها ..

وَإحسَاسٌ بِالرِّضا لا تَملكُ وَصفَهُ!!

كَانت تَظنُّ أنَّها عندَما تَراهُ سَتمنَعُهُ بِكلِّ قُواهَا مِن الرَّحيلِ ..

لَكنه هَا هو أَمامَها يُلملِمُ أَشيَاءَهُ ..

يَنتَعِلُ حِذاءَهُ ..

يَتناوَلُ سُترتَهُ ..

يَبتسمُ لهَا ..

عَجزٌ يُقيدُهَا فَلا تَتحرَّكُ ..

يَعودُ إِليهَا بَاسِماً ..

يَطبعُ قُبلةً علَى جَبينِها المُتعبِ: سَلِّمِي عَلَى وَالدِي ..

لَحظاتٌ ..

صَوتُ البَابِ يُغلقُ مَعَ ارتِفاعِ صَوتِ المُؤذِّنِ: اللهُ أَكبرُ .. اللهُ أَكبرُ ..

حُرقةٌ فِي خدَّيهَا ..

تَمسحُ دَمعةً ..

تَشدُّ جُفونَ عَينيهَا ..

تَلتفِتُ إِلَى جَانبِ السَّرِيرِ وَتُنَادِي زَوجَها: حَجِّي .. حَجِّي الفَجر أَدن

يَنهضُ الزَّوجُ مُتثاقِلاً مِن سَريرِهِ ..

يَبتَسمُ لَها: صَباح الخِير يَا حَجة ..

خِيرإِن شَالله .. لِيه عَم تِضحكِي وَتبكِي مِن الصُّبح!!

تَهمِس لَهُ: الشَّهيد بِيسلِّم عَليك.