الحكومة العراقية لازم تروح للسويد

الحكومة العراقية لازم تروح للسويد

حيدر الحدراوي

[email protected]

مرض جدي مرضا شديدا , واعتلت صحته , فلم يفلح اطباء العراق بشفائه , فقرر ابنه الاكبر والذي يسكن في السويد , ان يعالجه هناك , في السويد , كان لا بد لي ان ارافقه , فجهزت اوراق السفر , وان اوان الرحيل .

ودعنا الاهل والأصدقاء , و أوصوني بجدي خيرا , وألحت جدتي عليّ مرارا وتكرارا (( دير بالك على جدك )) , لم اعرف ما كانت تقصد , لكني فهمت ان هناك اسرارا تكمن خلف هذه العبارة , فركبنا الطائرة على بركة الله .

كلانا لم يركب طائرة من قبل , كنت اجلس بجوار جدي , نظرت الى جدي , وجهه قد اصفر وامتقع لونه , فقلت له :-

ماذا بك .

قال : الطيارة تطير ؟ .

واشار بكفه في الهواء , يرسم طيران الطائرة في الجو , قلت ( نعم ) , فقال :

- واذا عطلت لا قدر الله .

اجبته ساخرا :

- اكو فيترجي بالجو

قال : لو رايحين بسيارة هواي احسن وائمن

- شنو انت خايف .

- أي والله خايف

واخيرا وليس اخرا , هبطت الطائرة في المطار , فقلت لجدي :

- وصلنه .

- الحمدلله

اثناء نزولنا من الطائرة , نظر جدي الى الارض وقال :

- شلون مبلطين الكاع اتكول صابونة .

كانت هناك طائرة بدأت بالتحرك , فأنخلعت العجلة الامامية , و سقط مقدم الطائرة على الارض , وسار محتكا بالارض عدة امتار وتوقف , هرعت سيارات الاسعاف والاطفاء ورجال الانقاذ الى الطائرة , فرمقت جدي بنظرة وقلت ( عينك باردة ) .

وبينما كنا نروم الدخول في بناية المطارانفتح الباب حين اقتربنا منه , انبهر جدي وفزع فسألني :

- منو فتح الباب ؟

- جدي هذه الباب ينفتح وينغلق اوتوماتيك .

فقال جدي :

- اتكول بيه جني يفتح ويصك

فلم ينغلق الباب مرة اخرى مهما حاول عمال الصيانة !

وفي داخل بناية المطار, زاغت عينا جدي الى بعض الفتيات , فوقع نظره على احدى الفتيات ترتدي كعبين , فقال لي ساخرا :

- شوف هاي شلون تمشي بهذا الكعب ما تزلك ؟

فما هي الا خطوات , وانقلبت الفتاة على الارض , صارخا بصوت ملئ القاعة صداه !

فجأة , توقف جدي , وقال لي :

- انت منا وروح , ارجع بطيارتنا , خليني وحدي

- شلون اخليك بوحدك , هو هذا حجي

- ولك كلبي كام يرفرف , اشوف نفسي رجعت شاب , بس اني لابس دشداشه , روح اشتريلي بنطلون وقميص نص ردن .

- جدي هاي شبيك , متكلي شجاك .

- انت ما تشوف العالم

وفي مكان ما في المطار , التقينا بخالي , الذي أتى مسرعا نحونا , فعانق ابيه عناقا حارا , وانهمرت الدموع من عينيه , فسالت على خديه , وتدحرجت على الارض كالامطار , موقف يهز المشاعر , فقد مرت سنين طوال لم يرى احدهما الاخر , واخيرا التقى الاب بأبنه , رمقت جدي بنظرات استعجاب , فلم يكن باكيا , بل كانت عينيه تتلصص هنا وهناك , فقد كان يطارد ببصره النساء , الى هذه وتلك , ويتجنب النظر الى العجائز , بالرغم من ان العناق مستمر , لا يريد احدهما ترك الاخر , فطلبت منهما الانفصال , وهذا ما حدث , فهمس جدي بأذني بكلمات سرا , لم يسمعها ابنه : ما اريد علاج , اريد من هاي .

واشار بسبابته الى احدى الفتيات , مكشوفة الساقين , شقراء , قصيرة الشعر , ممشوقة القوام , بيضاء البشرة , بارزة الصدر , فقلت له :-

- جدي وينك اوين جروخك , رجال شايب ومريض اشكاعد تحجي

- اسكت .... اسكت ولك

فقاطعنا خالي قائلا :

- شكو ؟ ... اشعدكم

- لا ماكو شي بس نريد نرتاح شويه .

فقال خالي : هسه نروح للبيت وترتاحون .

فركبنا في سيارة خالي , انطلقت بنا , لم ينزل جدي نظره من النافذة طوال الطريق , انبهر بجمال الطبيعة الخلاب , حيث الاشجار الباسقة , والازهار بكل الوانها , والمروج تصبغ الارض باللون الاخضر , ما يبعث الامل في النفوس , ويريح الباب العقول , وينعش القلب المعلول , لكن كان لجدي راي اخر , فألتفت الي وقال :

- لو جايبين جم صخله حتى نرعي بيهن هنا .

- جدي ممنوع الصخله تركب طيارة !!! .

في هذه الاثناء , رن هاتف خالي النقال , فقال جدي :

- هاي موسيقه لو تكول غزال يبجي عله امه .

تناول خالي الهاتف بيده اليمنى , محاولا الرد , غير مكترث بكلمات جدي السحرية , لكن هيهات ان يعمل النقال , فقال خالي لي بصوت منخفض :

- ابوي بعده على طبعه

- من شب على شئ شاب عليه

- راح اشتري نقال جديد بس اضبط التنبيه بالاهتزاز .

اوقف خالي سيارته امام سوق او محل لا اعرف بالضبط , فاشترى نقالا جديدا , اسود اللون , صغير الحجم , ضبط التنبيه بالاهتزاز , وادار محرك السيارة , وبعد مدة غير طويلة , وصلنا الى بيت خالي , كان البيت مبني على طراز البيوت السويدية , تتقدم البيت حديقة جميلة , فيها بعض الاشجار و الاثل , وازهار قليلة متناثرة هنا وهناك , وفي وسط الحديقة , توجد منضدة وحولها عدة كراسي , قرر جدي ان يجلس على احداها , قبل ان يدخل البيت , فجلسنا حول المنضدة , وضع خالي نقاله الاسود على المنضدة , وبدأ يسأل ابيه عن حاله واحواله , وعن اوضاع العائلة في العراق وما شابه , وجدي يجيب على كل سؤال , في غضون ذلك , اهتز نقال خالي , فبادر جدي قائلا :

- شنو هذه موبايل لو تكول برغوث يكمّز اتكمّز .

كالعادة , لم يعمل النقال , لا غرابة في ذلك , خيم الصمت علينه مدة , فقطع جدي ذلك الصمت قائلا :

- شوف كل هذي البيوت ولا واحد منهم جاني صخول

- جدي الظاهر ميحبون لحم الصخول

فنهض جدي من كرسيه , وقال ( اروح انام احسن )

فذهب كل منا الى فراشه , بعد ان استقيظت , كان الليل قد ارخى سدوله , وسكنت الاصوات , وتزينت السماء بالنجوم , كان جدي وخالي يتبادلان اطراف الحديث , فقطعت حديثهما مسلما , فردوا السلام , اخبرني خالي انهما قد تناولا عشائهما حين كنت اغط في نوم عميق , لم اكن اشعر بالجوع بعد , تفحص جدي احد الفوانيس المعلق على الحائط للزينة , وقال :

- مابيه نفط , امليه كبل لا تنطفي الكهرباء

- هنا ما تنطفي الكهرباء

- هاي شلـــــــــــــــون ....

- مو هاي المنطقة قريبه على بيت رئيس وزراء السويد

- ها ... ها .. يعني بنفس الخط ويه بيت رئيس الوزراء .. اذا هيجي معقول

فأدار جدي وجهه الى خالي , وقال له :

- خوش تسوي خذتلك بيت قريب على الوزير .

فأجابه خالي ضاحكا :

- بالضبط

فقال جدي لابنه :

- اريد اروح للحمام , كوم شغل الجوله , حتى يدفه الحمام

لم يتمالك خالي نفسه من الضحك , ولم اضحك بدوري , فأني اعرف مزاج جدي , لا يعجبه الضحك , انزعج جدي , وزجر خالي بعدة كلمات , وذهب كلاهما للحمام , وبعد مرور ساعة او اكثر , خرج جدي من الحمام , وخاطب خالي :

- الماي صار حار , منين اطفي السخان .

- هو يطفي بوحده

- هاي شلـــــــــــــــــون .... مو خاف ما يبقه ماء بارد

********************

في صباح اليوم التالي , ذهبنا الى المستشفى , ادخل جدي الى احد الغرف , قررنا ان وخالي ان نتبادل المناوبة , ابدأ مناوبتي في الصباح حتى العصر , حيث يكون خالي في العمل , اما خالي فيبدأ بالمناوبة من العصر حتى اليوم التالي , حيث اذهب للتجول هنا وهناك .

غرفة جدي كانت على قدر كبير من النظافة والاعداد الحسن , جلس جدي على السرير , وجلس خالي على الكرسي المجاور للسرير , وبقيت واقفا امام النافذة , اتأمل النظر للمروج الخضراء , واختلس النظر للناس في الخارج , في تلك الاثناء دخلت الطبيبة , كانت على قدر من الجمال الاخاذ , انفتن جدي بها , وربما اغرم بها , فقد كان جدي يقيم الجمال , طلبت من جدي الاستلقاء على السرير , وغطته , قاست الضغط , وتفحصت صدره بسماعة الاذن , وتكلمت مع خالي بلغة لم افهمها , وانصرفت , لم يغير جدي النظر الى ما سواها حتى اغلقت الباب خلفها , واعلمني خالي انهم سيجرون لجدي تحاليل وفحوصات كثيرة , و هذه اجراءات تستغـرق وقتا طويلا , لذا طلب الاذن بالذهاب و اخبرني بانه سيعود عصرا او قبل ذلك , وانصرف , ما ان خرج خالي , حتى بادرني جدي القول :

- شفتها ... شفت الجمال

- جدي عيب

- جا هيه مثل حبوبتك

فتذكرت وصية جدتي , وفهمت سبب ملحتها عليّ وتكرارها لعبارتها الوحيدة (( دير بالك على جدك )) , فقد كانت تعرف جدي جيدا , لذا شعرت بالغيرة , طرق الباب , ودخلت الطبيبة عينها , وطلبت مني ان اترجم كلامها مع جدي , فتسأل وجدي يجيب , لكن بغير الجواب المطلوب , كانت تسأله عن حالته , وجدي يجيب بالغراميات , لكني اترجم بكلام اخر غير ما يقول جدي , واحمد الله انها لم تفهم كلامه ولا تعرف العربية , فطلبت اخذ جدي الى المختبر او الى مكان ما لغرض اجراء الفحوصات اللازمة , انتظرت وحيدا في الغرفة , طال الامر عليّ , قررت ان اتجه نحو مكتب الاستقبال , جلست هناك , اتفرج على المارة , سئمت وشعرت بالملل , حاولت ان اقرأ بعض المجلات والصحف الموجودة على المنضدة , فلم افلح , جميعها باللغة السويدية , خرجت الى باحة المستشفى , تجولت في الحديقة , كنت اهم بتدخين سيجارة , لا يوجد مكان حيث استطيع ادخن , الامر ممل حقا , خرجت خارج المستشفى , ودخنت ودخنت ودخنت , فذهبت لتناول الغداء في مطعم قريب , وشربت شاي واحد واخر واخر , وعدت الى المستشفى , لم يخرج جدي من غرفة الفحص , لا اعرف ما جرى , اخذت مني الوساوس مأخذا عظيما , ماذا حدث لجدي ؟ , هل اكتشفوا امرا خطيرا ؟ , لا اعرف , ليس لي الا الصبر والجلوس بأحر من الجمر , لمحت الطبيبة وقد خرجت , هرعت نحوها مسرعا , زينت وجهها بأبتسامة وبادرتني قائلة :

- كلشي تمام

كلمتني بالعربية , ازددت انبهارا وخجلا , فيما يبدو , انها قد فهمت كلام جدي مغازلا اياها , وقلت لها :

- هل تفهمين العربية .

- انا لبنانية

- انا اسف بخصوص ما قال جدي

- ولا يهمك هومثل ابوي

- هو جدي يحب يجامل

- ولا يهمك ,,, بس الخبر المفرح ان جدك ما بيعاني من شي مره

- يعني شنو

- جدك ميه ميه طبيعي مافي عندو شي لا سكر ولا ضغط ولا تصلب في الشرايين ولا جلطة وقلبه عمال طبيعي ولا بيعاني من أي مشكله صحية

- ما فهمت شلون ... كل الاطباء العراقيين اكدوا انه يعاني من مرض في القلب .

- في مثل سنو ممكن يكون يدلع عليكم ... الانسان لما بيكبر يحب يدلع على اهلو يعني تقدر تقول دلع الشيخوخة .

- اذا انا صدقت هالكلام ... اهلي ما راح يصدقو .

في هذه الاثناء خرج طبيب اخر , وأكد لي ما قالت الطبيبة , وان جدي لا يعاني من شئ البته , فأعادوا جدي الى غرفته , عندما انصرف الاطباء والممرضون , قال لي جدي :

- ولك هاي طلعت تعرف عربي

- لبنانية

- بس خوش بنيه

- بس يكولون ما بيك شي

- جا شلون الطباء العراق يكولون غير حجي ... خاف ما تريدون تكللولي شنو العلة حتى ما اخاف لو يصير عندي قلق .

*****************************

اصر خالي ان نمضي فصل الصيف هنا , في السويد , فرصة يحسدنها عليها ملايين العراقيين , شهرين مرا كساعة , لم نشعر بها , و ان اوان العودة , العودة للعراق العظيم , عراق الانبياء , عراق الائمة (ع) .

في طائرة العودة , عاد جدي لحالته الاولى , فبدا كئيبا , مصفر الوجه , فقد روح الشباب والدعابة التي اكتسبها في السويد , فسألني :

- شكو ماكو بالعراق ؟ .

- ما سمعت اخبار

اشار الى بعض الصحف التي كانت في الطائرة , وقال :

- اقرا ذولي الجرايد

تناولت الجريدة , وبدأت اقرأ لجدي العناوين , وهو يختار العنوان الذي يريد , اقرأ وجدي يستمع , حتى بدت علامات النعاس عليه , فقال بصوت خافت وقبل ان يغط في نوم عميق :

- الحكومة العراقية لازم تروح للسويد