مرة ملكة .. دائما ملكة!!

نبيل عودة

كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة

[email protected]

ترك الزمن اخاديده على وجهها وجسدها. الجيل غلبها ولم تعد تنفع الأصباغ. مفاتنها أضحت في سجلات التاريخ  المنسي. تشعر بالم عميق . لم يخطر ببالها ان تصبح نسيا منسيا. مجرد كتلة لحم لم يعد يحتاجها أحد. لم تعد تلك الفاتنة المرغوبة التي امتدت شهرتها طول البلاد وعرضها، حتى قيل ان الرجل لا تكتمل رجولته، الا بعد ان يحظى بخدماتها.

جاءوا من الشمال والجنوب، من ساحل البلاد جاءوا ومن الجبال، جاءوا من الحقول ، جاءوا من المصانع. يقول بعض العارفين ان اسمها كان ماركة مسجلة قصدها العديد من السياح أيضا، فهل حقا ساهم جمالها وفتنتها في زيادة عدد السياح القادمين الى البلاد؟

بعد عمر طويل اكتشفت انها لم تعد الملكة المتوجة التي تلقى التودد والتذلل امام سريرها من شخصيات لا تعد ولا تحصى. بعضهم اناس عاديون لم يترددوا في صرف معاش الشهر من اجل ساعة بقربها، بعضهم صرفوا عليها بطيب خاطر وتنافسوا للفوز بها  في نهاية الأسبوع. بعضهم ادعى انه سائق سيارة أجرة ولكن شخصيته اوحت لها انه شخصية كبيرة في جهاز الأمن او الشرطة او الوزارة. حتى رجال دين تخفوا كأشخاص عاديين ليقتربوا من معبدها ويتنشقوا رحيقها الساحر . آخرون لم يخفوا هويتهم، يدفعون المطلوب بطيب خاطر بل ويضيفون حبة مسك بكرم حاتمي ، يهمهم رضاء الملكة!!

رغم ان مهنتها تثير المتاعب الا ان احدا لم يجروء على الاقتراب منها. تعلم انها محمية وانها فوق اي قانون.  الفنادق تستقبلها بترحاب واحترام وتخصص  لها احد الأجنحة الفاخرة لتستقبل زبائنها من أصحاب المداخيل الكبيرة. لم تجب منها اطلاقا اجرة الفندق حتى حين تكون لوحدها في نهاية الأسبوع ، مدراء الفنادق ايضا يتسابقون لجني ثمار خدمتهم. كانت النقود تمطر عليها صيفاً شتاءً.

تعلم انها العنوان لمن يبحث عن ليلة حمراء لا تنسى،عن فخر يرويه بين الرجال وهو منتش كالطاووس. ربما بسبب كونها تتصرف كإمراة تعشق ما تقوم به ولا تقوم به مجبرة او  مضطرة او لسبب اقتصادي او اجتماعي ما ، هذا جعلها الملكة المرغوبة التي تعطي زبونها أجمل ما يحلم به من اثبات رجولة ومتعة لا بعدها متعة  .

بدأت تمارس المهنة القديمة بحب وشغف لا يعرف الإرتواء. كانت تتمتع بجمال وجاذبية نسائية وجنسية من الصعب تجاهلها.

بدأت تاريخها الملوكي بعد فوزها بمسابقة ملكة جمال البلاد. تدفقت عليها الهدايا والجوائز. شعرت بقيمة المال واهميته. تدفقت عليها العروض ، بعضها عروض فاضحة بلا  تورية. اول عرض غير فاضح شكليا تلقته من رجل اعمال في الخمسين من عمره، اقترح عليها أن  ترافقه في يخته بجولة على دول البحر الأبيض المتوسط،  وانه سيرافقه في القارب ثلاثة من أصدقائه. ترددت. قال لها انهم سيدفعون لها أضعاف قيمة الجائزة التي فازت بها بمسابقة ملكة الجمال، وانها غير ملزمة بمعاشرة احد ، ما يهمهم ان يتمتعوا بمرافقة أجمل النساء وأن أصحابه رجال مجتمع محترمين.. وان كأس نبيذ جيد بوجود امرأة جميلة، يخلق جوا شاعريا، هو أقصى أمنيات مجموعته.

أجرت بينها وبين نفسها حسابا صغيرا. فهمت ان الدعوة لا تخلوا من مغامرة جنسية، لكن مائة الف دولار مقابل اسبوع ونصف الأسبوع في اليخت مع الرجال الأربعة ، بدون التزام لأي علاقة ... هذا يبدو امراً مغريا.

لم تكن عذراء. كانت قد مارست الجنس منذ وجودها في الصف التاسع، والتهبت شوقا من يومها. ولكن هل ستشعر بنفس الرغبة مع رجال يكبرونها جيلا مرتين ونصف على الأقل؟

رجل الأعمال يبدو اصغر من جيله، بل يشع رجولة فيها اغراء ما. هل سيكون هو الوحيد الذي ستعاشره؟

ترددت . شعرت بخوف ما، خوف المرة الأولى . ولكن الشيك بقيمة مائة الف دولار قبل ان تقرر مرافقتهم، جعلها تلين وتقبل المغامرة.

كانوا اربعة، رغم جيلهم الذي يقارب الخمسين الا ان رجولتهم مصانة بشكل جيد.

مارست الجنس مع رجل الأعمال الذي دعاها ،وجدته يداعبها ويعريها بلا مقدمات وكأنه متأكد ان موافقتها لتلبية دعوته وقبولها المبلغ الضخم، هو اعلان الإمتثال لرغباته التي لم يفصح عنها مباشرة.  لم تعترض ، بادلته الرغبة برغبة مترددة أولا، زادته التهابا، قبَّلها اينما استطاع، تغنجت بين ذراعيه فازداد شبقاً، ثم اندمجت بلعبته. كانت في الغرفة معه لوحده ، ولكن ما ان انتشت وارتفعت حرارة الاندماج حتى وجدت اصدقائه الثلاثة حولها يتبادلون ملاطفتها، شيئا فشئا وجدت نفسها بينهم  متحررة من ترددها ومن خوفها ، تزداد شبقا وشعورا  بانه لو اجتمع رجال الدنيا كلها في اليخت لما أشبعوها .

كان تلك اجمل عشرة ايام في حياتها. جولة على مدن ساحرة،ومطاعم فاخرة، ملأوها بأجمل الهدايا، البسوها أجمل ما الفاترينات من موديلات، اطلبي ونحن خاتم شبيك لبيك بين يديك. بعدها لم تتوقف. رجال اليخت أصبحوا من زوارها الأسبوعيين. رافقتهم مرات أخرى في رحلاتهم الماجنة ..  امتلأ حسابها وامتلأت خزائنها بما تشتهيه نفسها من ملابس وأحذية وميكياجات وحلى وقطع جميلة للزينة. اصبحت قادرة على الحصول على ما كانت تشتهيه نفسها في مراهقتها. تجولت في العالم طولا وعرضا، بمرافقة عشاقها او بدونهم، وفي رحلاتها المنفردة لم تتردد في معاشرة من طابت نفسها لهم، بعد العودة للبلاد أصبح العديد من زملاء السفر من زبائنها الدائمين. بعضهم اليوم محاضري جامعات، كتاب ، صحفيين ، مدراء شركات، مدراء مدارس، اعضاء برلمان ، رجال دين، تجار ، صناعيين  واكاديميين في مختلف المجالات والمهن الحرة.

كانت غارقة في استعراض تاريخها الملكي وتسأل نفسها أين ارتكبت حماقة حياتها، بحيث أضحت اليوم بالكاد تقيت نفسها. كيف لم تفكر وهي في قمة شهرتها وغناها بتوفير ما  يضمن شيخوختها بكرامة؟ هل حقا توهمت انها باقية ملكة أبد الدهر؟ وهل في مهنتها ملكة لا ينزل التاج عن رأسها؟

اليوم لا أحد يلتفت اليها، صغيرات وجميلات من حولها  احتللن الشارع. تشعر بثقل حركتها. حتى الآلة خربت رغم الرغبة الباقية.

باعت بيتها واشترت بيتا بربع ثمنه، كانت تتهاوى تدريجيا. دخلها من تأمين الشيخوخة لا يفي بمتطلباتها. شركة الكهرباء انذرتها بانها ستقطع التيار الكهربائي عن منزلها اذا لم تسدد دينها، وهو يتجاوز ثلاثة اضعاف دخلها من التأمين. البلدية تنذرها بقطع المياه اذا لم تسدد اثمان المياه فورا. بقالة الحارة لم تعد تستقبلها بنفس الترحاب والحماس ، صاحب البقالة لم يعد ينظر اليها ، يرسل زوجته لتخبرها ان الدين ممنوع. نسي انه كان يحبو على قدمية ويديه مقبلا رجليها قبل ان يصل الى مبتغاه. هل تهدده بكشف المستور اذا لم يلب احتياجاتها؟

 بعد تردد انسحبت بشعور من المذلة.

حاولت الاتصال بمن كانت تعتقد انهم عشاقها حقا، من الذين عرضوا عليها الزواج في الماضي والانتقال الى مكان لا يعرفهم فيها أحد او الى دولة أجنبية. ردودهم كانت جافة جدا. بعضهم طلب بفظاظة ان لا تتصل به، آخرين اقفلوا سماعة الهاتف بعد ان عرفوا شخصية المتحدث.

خدمة التلفون توقفت قبل ايام. العزلة حولها تشتد. التيار الكهربائي انقطع أيضا، البلدية أعطتها مهلة قصيرة بسبب شيخوختها وتدخل احد الجيران  لمنع قطع المياه عنها  شارحا حالها المزرية بدون كهرباء وبدون تلفون وبدون طعام اولي مناسب.

ذلك الجار الذي لم تكن تعرف اسمه، قرع باب منزلها وقال لها انه سيوصلها بالكهرباء عن طريق توصيلة من بيته  لتضيئ منزلها وتشغل ثلاجتها.وانه اتصل مع مسؤول يعرفه في البلدية كي لا تقطع المياه عنها. بكت بحرقة وهي تشكره. قال: لا داعي للبكاء، أعرف وضعك جيدا، لا تتردي بطلب المعونة مني.

قالت كانها تخاطب نفسها:  لا اعرف كيف تدهورت بي الحال .

قال: لا ضرورة للشرح . كلنا بشر، لنا صعودنا ولنا هبوطنا. عندي فكرة تعيدك سيدة فوق رؤوس كل من يتهربون من الحديث معك اليوم.

- اعرف اني انتهيت واتمنى لو يأتي الموت مبكرا !!                

- اتركي هذه التمنيات لمن كانوا يزحفون على أربعة امام سريرك.

شعرت انه يتحدث من مصدر قوة رغم انها انتقلت لهذه الشقة الصغيرة منذ ستة أشهر فقط ، وكانت تظن انها مجهولة التاريخ هنا. صمتت.

- لدي فكرة لانقاذك مما انت فيه. انا اعمل في الصحافة، سانشر خبرا مع صورتك وانت صبية مرغوب فيها، أعلن فيه بانك تؤلفين كتابا عن حياتك وذكرياتك مع شخصيات مختلفة من مجتمعنا  وما كانوا يقترحونه عليك  وما قمت به من رحلات معهم وما مارسوه معك وما دفعوه بطيب خاطر ونوادرهم وغرائبهم وجنونهم بك  .

- ولكني لا انوي فضح أحد.. لست مؤهلة لفضحهم والتسبب بنزاعات عائلية.

- نحن نتحدث عن مجرد لعبة. لن يكون هناك  كتابا، لا تقلقي.  اتوقع ان يتراكض زبائن الأمس لدفع ما كانوا يدفعونه ايام كنت ملكتهم المتوجة.. على شرط ان لا تذكري أسمائهم بمذكراتك.

- هل سينجح مشروعك؟ انهم يرفضون التحدث معي ..؟

- سنرى.. لن نخسر شيئا. اتوقع ان انقذك من وضعك الحالي ، لا افعل ذلك لأني اريد لهم سوءا بل لأنهم فاسدين ويدعون اليوم ما ليس فيهم.

 ستحدث بذلك هزة أرضية اذا نجحت الفكرة.. هناك شخصيات هامة كثيرة؟-

 لماذا لا تنجح مع المرعوبين من ماضيهم؟ -

- هل يحق لي قانونيا ان اصدر كتابا افضح فيه زبائني السابقين؟

- اتركي القانون نائما، حتى لو قررت حقا اصدار كتاب، القانون لا يمنعك ان تذكري حقائق حياتك واسماء زبائنك. هل وقعت معهم اتفاق بعدم كشف اسمائهم؟

 الن يرسلوا من يعتدي علي؟ بعض زبائني صاروا اليوم من زعماء هذه الدولة؟!-

 لا أظن ان جنونهم سيصل درجة الاعتداء عليك. سيفضحون انفسهم أكثر اذا فكروا بهذه الطريقة.-

بعد يومين صدرت الصحيفة بخبر صغير يحمل صورتها وهي فتية مشتهاة، بانها بالتعاون مع الصحفي اياه ، ستصدر كتاب مذكرات تكشف فيه اسماء الشخصيات الهامة التي مرت في مخدعها ، وما عرضوه عليها ، والى اين رافقتهم في جولاتهم ، وستستعرض نوادرهم وتصرفاتهم وعروض الزواج التي تلقتها منهم.

كان اسمها ما زال ماركة مسجلة، أشهر من نار على علم. تاريخ لا يمحوه الزمن. اختفت نسخ الجريدة من الأسواق قبل ساعات الظهيرة. تلفونها الذي سدد جارها ديونه، عاد يرن بقوة طول النهار والليل. كانت اصوات الكثيرين منهم  مألوفة لها. ارادت ان تسألهم لماذا اغلقوا تلفوناتهم بوجهها والآن يصرون على لقائها؟ لكن جارها الصحفي قال لها لا عتاب ولا كلمة غضب. فقط استقبال ضاحك كأيام زمان.

وأضاف بسخرية :"لنر ما في جعبتهم".

اتفقت على لقاء مع من تعتبره اقواهم ماديا.ذلك الذي رافقها في القارب مع اصدقائه الثلاثة، كان قد تجاوز السبعين من عمره، ولكن مبنى جسمه وهيئته لا يكشفان عمره الحقيقي.

كان حديثه حارا. قال لها انه لا ينسى ايامه معها. كانت أجمل ايام عاشها في حياته، لكنه أب لثلاثة بنات متزوجات، وله أحفاد وحفيدات بجيل واع، ولا يريد ان يكشف ماضيه امام أحفاده ، وهو مستعد لدفع ما يساعدها على الحياة، وقدم لها في ظرف مبلغا كبيرا قال انه سيكفيها لسنتين، وانه لن يكون المبلغ الأخير، وطلب منها فواتير الكهرباء ليسددها عندما علم بان التيار الكهربائي قطع عن منزلها وانه سيعطي امرا لمدير شركته بدفع فواتير الكهرباء من حسابه. ورجاء ان لا تذكر اسمه الحقيقي في كتابها او اسم أصدقائه لأن اثنان منهم قد توفيا ، وفي ذكرهما احراج  غير لائق.

بعده التقت ضابط شرطة ببدلته الرسمية، سألها وهو يضحك بشيء من التذلل :"هل تذكريني؟" وكيف لا تذكر من يحب ان يستعمل لسانه ؟

قدم لها مغلفا فيه ثلاثة الاف دولار، ورجاء ان لا تفقده التعيين الجديد الهام الذي يحلم به منذ سنوات. وختم قوله بوعد وحركة من أصبعه :" ساذكرك دوما ، لا تذكري أسمي في كتابك ، ستصلك مني مبالغ أخرى".

بقال الحارة جاء محملا باكياس عديدة، وشيكا بمبلغ غير صغير، ورجاء ان ترى ببقالته عنوانا لها تاخذ ما تشاء.. وانه آسف على معاملة زوجته لها بمنعها من الاستدانة. وأضاف :"طبعا لا تفضحي ما كان بيننا.."

انقلبت الدنيا ولم تعد تميز بين القادمين والمغادرين، المهم ان صندوق المال امتلأ اكثر مما كان يمتلئ عندما كانت ملكة الشارع بلا منازع. حتى مدير البنك صار يستقبلها راكضا نحو مدخل البنك مجلسا اياها في مكتبه ليسجل ما تودعه من أموال، ولكنها لا تذكر اذا كان من زبائنها سابقا.وهل يتوهم احد ان ذاكرتها تقدر على الاحتفاظ بالاف الزبائن؟!

صارت امرأة محترمة يتسابقون لإلقاء التحية عليها ولمساعدتها في حمل احتياجاتها لباب منزلها.

عبثا حاولت ان تقدم لجارها الصحفي بعض المال فرفض. وقالت انها تريد ان تكون بمثابة ام له، ولكنها خجلة من ماضيها. ابتسم وقال انها افضل ام  الآن. وكثيرا ما دعته لتناول الطعام معها، الذي كانت توصي عليه من مطعم فرنسي مشهور يرفض ان يأخذ مقابل الطعام وفقط تدفع للشاب الذي يحضره.. واحتارت هل من علاقة سابقة ربطتها بصاحب المطعم؟ اسمه لم يعن شيئا لها، ثم لم تعد تسأل. حتى لو لم تتصل كانت تصلها الوجبات الشهية يوميا.

الغريب ما حدث بعد ثلاثة اسابيع.

حضر الى منزلها شابان، بالتأكيد لا شيء يربطها بهما، لوهلة دق قلبها رعبا ان يكون وراء مجيئهما اعتداء مدبر عليها، لكنهما يتحدثان معها بلطافة ، يسألان عن تاريخ اصدار الكتاب. قالت انها لم تنهي بعد تسجيل التفاصيل وان الوقت مبكر على صدوره. اخرج احد الشابين دوسية ومغلف كبير  من حقيبة يد يحملها، وقال لها انه يريد ان يقدم لها خدمة كبيرة ها هي دفعة بقيمة 150 الف دولار، وان تدخل الأسماء والتفاصيل المسجلة في الدوسية ضمن كتابها!!