الوريد ... والوليد
الوريد ... والوليد
محمد عبد المجيد الصاوي
غزة ـ فلسطين
هو هناك يداعب شعرات لحيته المبيضة ، كما تلاعب أوجاع عمره قلبه العصفوري .
لا يدري .. منذ ثمانية وعشرين يوما وهو على هذه الهيئة ، خمس ساعات متواصلات يقضيهن ، ما بين فنجان قهوة وكأس شاي ، وشراب مختلف ألوانه ، وأعقاب سجائر تمتلئ بها المنفضة ، وأنفاس أرقيلة تروح وتغدو .
ما أثقله من شاطئ ، ذلك الذي يمتد على اتساع نظراته التي لا تزال تمتلك حدتها ، يا لرتابة هذه الأمواج التي تبعث فيه روح الحياة التي طالما كره فيها ، انبعاثه الأحمق ، يلهث وراء لقيمات المال الفاخرة .
ينعم نظره بالمارة ، والمقيمين والمحلين والمرتحلين ، هي وجوه محببة ، متقاطعة في ملامحها واستدارات وجوهها . فيها بعض من ماضيه وبقايا من أحلامه الضائعة ..
أشيلك، يا ولدي ، فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..
وشعرك حقل من القمح تحت المطر..
ورأسك في راحتي وردة دمشقية .. وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي..
وأجمع كل ثيابك وحدي
وألثم قمصانك العاطرات..
ورسمك فوق جواز السفر
وأصرخ مثل المجانين وحدي
وكل الوجوه أمامي نحاس
وكل العيون أمامي حجر
فكيف أقاوم سيف الزمان؟
وسيفي انكسر..
تلك السهام النزارية ، مازالت تقتله تارة وأخرى تحييه .
فحسن : قد رحل في السابعة والعشرين ، كما تغادر الدموع المقل .. كما ينادي الفجر عشاقه .. حان للنور أن يتجلى بكم وعليكم .
هو جرح العمر الأكبر ، هو الربيع الذي لم تلده شتاء ، هو السماء التي بزرقتها الحانية تمتد حوله ، هو الشريان الذي سلم للقضاء والقدر أن يغادره ، بعد أن غادره الوتين .
ليغدو بقايا أزمان لا روح ولا ريحان فيها .
آه يا خالد ، ما كان منك .. أن تذرني وكؤوسَ اللعنة تلاحقني ، لتلحق أنت في ركب حسناء ...
**********
يعود من تجليات حزنه ، لواقعه الذي يخرج له لسانا ، فيبتسم له :
لماذا اليوم اشتريت شريحة جوال ؟
وأخرجت أحدث موبايلاتك ..
ولمَ كنت سعيدا بلحظات الخوف والقلق .. وأن تبحث عن نوتة الأرقام ؟
ما سر تلك اللهفة التي تملكتك عندما عثرت عليها ؟
وما الداعي لنشوة غمرتك ، وأنت تمر بناظريك على الأرقام ؟
منال ابنتي/ غزة ، أحمد أخي / غزة ..
***************
منذ شهر وأنت هنا في هذه البقعة ، ولم تُشعِر أحدا بقدومك ، وضعت لنفسك قفصا أبيت أن تحطم أغلاله المخملية ..
تستيقظ قبل صلاة الفجر بساعة ، لتتلوَ آيات القرآن ، ثم صلاة الفجر في المسجد المقابل للفندق الذي تنزل فيه ..
بعدها تتناول وجبة إفطارك الدسمة ، لتجوب بعد انتهائها ، شاطئ غزة مع ساعات الصباح الأولى ..
ثم فترة نوم تستمر قبيل الظهر ، وبعد ذلك تبدأ رحلة لذيذة مع الغزالي في إحيائه . وساعة من نوم أخرى .
ثم تقيم كعادتك على الشاطئ ..
بعدها تهيم شوقا وتعود شوقا في شوارعك الغزية ، لتأوي إلى نوم يحطم ما تبقى من لحظات لهوك العابث .
لمْ يرَك أحد من أولئك الخمسين الذين يحفظون ملامحك ولا يتيهون أبدا عن سحنتك التي لا تفارقها ابتسامتك البلهاء ، خلال ذلك الشهر ..
أمعقول ؟؟
*********
هاهي يده ترتعش يخرج الرقم من الذاكرة ..
_ السلام عليكم .. بنيتي
_ بابا ..
_ دموع تقرع أذنه ..
_ ينتقل الجوال إلى يد أخرى ..
_ أبي أنا خالد .. أين أنت منذ شهر ونحن يقتلنا البحث عنك .
***********
.. هناك : وقد كان القدر يخبئ بعضا من خير جم غفير ..
كانت للفرحة باللقاء معانٍ كاد يكدر صوفها بكاء ..
.. هناك بكى على غير عادته وأبكى ..
ضم خالد إليه .. دفنه في الصدر .. بعد أن أعلنت العينان استراحة مقاتل من افتراس محياه الغض الرطيب .
منال تلك الدمشقية الغزية ، والتي فيها كل جمال الشام الأولى .. زوجته التي رحلت منذ خمسة عشر عاما ..
قد أخذها بكل طفولتها وحزنها على زوجها الذي لاقى ربه في اليوم الذي وطئت به قدماه هذه البقعة .. بعدما أيقظته لتجده قد لفظ أنفاسا أخيرة ..
أحمد .. ذلك الشقيق الذي بترت قدميه في عدوان آثم لعين .. وما هزئت به الأيام ولم تقوَ على ذلك .. ها هو يبادله حبا ولد معهما .. وظنَّ .. عليٌّ أنه مضى مع ريح الغربة .
حينها ..
أدرك أن الوليد ..
قد رأى النور .
وأن الوريد لم يقطع ..