قصص من الحصار
قصص من الحصار
النهاية
في أحد العمليات العسكرية للثوار وبعد جهد كبير بذله الثوار حصل المقاتلين على غنائم كثيرة من العتاد والزخيرة والطعام وخرج الثوار فرحين يحملون غنائمهم وإذا بشخص محسوب على الثوار يصرخ ضارباً فرح الثوار بنار من الشتائم والصراخ ويقطع عليهم عودتهم إلى مقرهم, قال أريد كل الزخيرة وأريد كل السلاح الذي خرج وبدأ يشتم ويسب الله ويفعل ما لايمت للثوار بخلق ولا لأهل حمص بقرابة أو مبادئ, فسرق بعض العتاد وهرب بعيداً عن الثوار أمام دهشتهم واستغرابهم وهو يسب الله ويسبهم وخرج من المكان يعبر الطريق متجهاً إلى الطرف الأخر فإذا بقناص تابع للنظام يطلق عليه النار ويرديه قتيلاً وسط ذهول الجميع, سرق ماليس له وشتم الثوار وسب الله ثم أنهى الله حياته على هذا الحال, علماً أنه كان ودوداً خدوماً نشيطاً في المنطقة المحاصرة ظاهر الجهد, سألت عنه فعرفت أن من أبرز صفاته أنه ماذكر شخص أمامه إلا شتمه ولا ترك شخصاً عرفه إلا اغتابه, نسأل الله أن يطهر قلوبنا وألسنتنا, والحمد لله رب العالمين.
جبل
أبو حامد رجل في عقده الرابع يسعف الجرحى ويجلب الطعام للمرضى ويلبي حوائج المحتاجين, ذات يوم كان جالس في بيته فسمع صراخ جاره بعد سماع صوت انفجار فخرج ملبياً ندائه مسعفاً له إلى أقرب مشفى ميداني وما إن عاد إلى بيته حتى وجد منزله يشتعل بعد أن تهدم جزء كبير منه حتى أكلت النار ما تبقى فلم يبقى صغير في بيته أو كبير حتى أكله الحريق, استرجع وطلب عوضه من الله في صورة جميلة من صور الصبر التي اعتاد عليها الناس في الحصار, انضم أبو حاتم إلى منزل جاره الشاب الذي أسعفه يخدمه ويشرف عليه ونشأت بينهما علاقة طيبة تعدت علاقة الجار بجاره فتراهما أخان منسجمان في الأفكار والأراء محبان لبعضيهما ماضيان في صورة جميلة من صور التأخي وبعد أكثر من شهرين بقليل أراد أبو حامد الخروج للسعي وراء خدمة بعض الجرحى لكن صديقه الشاب أصر على الخروج بدلاً عنه وبعد ساعة استبطئه أبو حامد فخرج باحثاً عنه ليجده مضرجاً بالدماء بعد أن أصابه قناص مرمياً في وسط الطريق ثم عاد ليجد البيت الذي كانا يسكناه مهدماً مدمراً, ولم نرى من أبو حامد في الأيام التي تلت وفاة صديقه إلا الصبر والصمود على الرغم من الحزن الشديد الذي ظهر جلياً على وجهه وتعامله وتعابيره, ولايزال أبو حامد يخدم الناس يعيش في مسجد الحي.
في جورة الشياح...(45دقيقة)
أنا في جورة الشياح والسير لن يكون في الشارع بل ضمن البيوت من خلال فتحات ضمن الجدران, أصوات قذائف الدبابات قريبة للغاية وأسقف البناء الذي تسير فيه تسقط وتخر جدرانها, أصوات تحليق الطيران مسموعة وقذائف الهاون من عيارات ثقيلة وصواريخ تنسف الطوابق العلوية في أبراج جورة الشياح الضخمة, تتسارع دقات القلب حتى تكاد تشعر أنه سيقف وإن لم يقف خوفاً ورهبتاً سيقف بعد أن تسقط عليك قذيفة أو صاروخ أو جدار أو سقف, أصوات الرصاص بالكاد تشد الانتباه أمام كل هذه الأصوات, وتظهر كل مشاهد الحياة أمام عينيك للحظة ثم تقطعها قذيفة عابرة أو جدار ينهار, تتوقف للحظات في مكان أمن للالتقاط أنفاسك ثم تعاود المغامرة من جديد, وأحياناً تدخل إلى منزل تجد فيه شباب مرابطين يعيشون في عالم أخر تملئهم الطمئنينة والسكون, منهم من يحرس مدخلاً ومنهم من يغط في نوم عميق, في طريقك عبر المنازل غرف نوم وجلوس وصالونات ومطابخ تمر عليها عابراً وقد مر عليها من سكنها لعشرات السنين, أشياء مدمرة بالكامل تدمر معها ذكريات جيل كامل من البشر, في أحد المنازل أشاهد ذلك الدكان الذي طالما اشتريته منه أشيائي وأسترجع صوراً من الماشي ثم أمضي في الطريق مدركاً أن احتمال العودة إلى حيث كنت قليل للغاية وأخيراً وصلت إلى المكان الذي كنا نقصده, أنهي ما جأت من أجله سريعاً وبعد أقل من ربع ساعة على وصولي أحسستها أيام نعود من حيث جئت على الرغم من قلة تركيزي أمام هول ما أسمع وأرى ألاحظ تغير في بعض ممرات الطريق الذي يرشدنا إليه الشباب المرابطون أسأل مرشدي عن السبب فيخبرني أن الطريق الذي سلكناه أغلقه ركام سقف أو جدار, وأمامنا تمضي مجموعة من الشباب تسحب أحد الشباب المصابين, وعندما أصل إلى المنزل الذي يطل على دكان مشترياتي أحاول أن أملئ عيني مرة أخرة ربما تكون الأخيرة عليه, لا أجد إلا ركاماً وبقايا انفض رأسي وأشك في أنني شاهدته في طريق الذهاب, أصل إلى النقطة التي بدأت منها لأعود إلى حي الخالدية بعد خمسة وأربعين دقيقة من الموت.
حمودي..أم أبو صقر!؟
يتقدم حاملاً سلاحه مرتدياً جعبته بلحية خفيفة جميلة ومنظر مهيب, يسلم ثم ينضم إلينا على طعام الغداء نكمل حديثنا السياسي حول الأوضاع الراهنة يتكلم الجميع ثم يأتي دوره فيتلكم بكلام يدل على رجاحة عقله وسعة إطلاعه وبعد نظره, بعد الغداء يبدأ بشرح لأوضاع جبهته التي يقاتل فيها فتجده عارفاً بأساليب الحرب متعمقاً بأنواع السلاح, يدخل في نفسي حديث أعجاب بهذا الشاب الذي يحمل صفات الرجولة كلها, أحاول لفت نظر صديقي لتعريفه لي, يقول لي هذا أبو صقر ابن حارتك يسكن في الشارع الذي خلف شارع بيتكم ابن فلان كان يدرس "بكالوريا" ساعدته مرة في مسألة كذا وكذا, يبدأ صديقي بتذكيري أمام دهشة كبيرة مني إنه ذلك الشاب المدلل الذي كان والده يتكلم عنه كثيراً وعن كثرة طلباته وقلة حيلته وكانت أمه تخاف عليه من حبات المطر, نعم إنه حمودي ذلك الشاب ذو التسعة عشر عاماً, أيه..كم غيرت الثورة حمودي وكم غير الحصار حمودي, أهلاً بأبو صقر.
رجل أعمال
في أحد المكاتب الفخمة في مدينة حمص احتجت للدخول إليه المرور بأكثر من ثلاثة مكاتب وكنت مبهوراً بعدد الموظفين الذين يعملون في شركته إنها مؤسسة كبيرة تعمل في مجال تصدير الخضار والفواكه والزيوت وتعمل بإسلوب حديث وعصري من حيث المقايس الإدراية كما يمتلك صاحب الشركة الذي أريد مقابلته مؤسسة تعمل في مجال الكمبيوتر وشركة صناعية معروفة ويشارك في عدد من المشاريع, قابلت صاحب المؤسسة يومها ونشأت بيننا علاقة ودية جيدة, عندما بدأت الثورة وترك الأغلبية أعمالهم التجارية انقطعت عن رؤية الكثيرين ومنهم السيد المذكور, عندما بدأت حمص بالتحرر وبدأت المناطق تقصف وبالتحديد في معركة جورة الشياح التي تعتبر الأكثر ضراوة وشدة في حمص كنت أبحث عن طعام لي ولمن معي فأرشدني الشباب المرابطين إلى المطبخ المركزي للحي وكان الوقت قبيل الإفطار (قبل المغرب) بلحظات وكانت الكهرباء مقطوعة والمكان معتم قليلاً فكنت أسمع صوت رجل يكلم الناس بأسلوب جميل ويعطيهم حاجاتهم ويسكب لهذا حساءاً ولذاك خبزاً وبأسلوب طيب كدت أستغربه في مثل هذا الظروف المتوترة تحت أصوات القصف والرصاص, اقتربت نحوه ببطئ فإذا به يبدأ بإعطائي طعاماً ويسألني كم عن عددنا ويتحرك من مكان إلى أخر ليملئ يدي أحمالاً.
تعودت عيناي على الظلام واستطعت أن أميزه, إنه ذالك المليونير رجل الأعمال الذي عرفته خلف المكاتب وبين عشرات الموظفين صاحب اللباس الفاخر والسيارة الجميلة والمكتب المميز, كانت ثيابه مملوءة بالطحين ويداه مصبوغتان بالحساء وشعره مجعد اقترب إلي ليعطيني الكيس الأخير أخذت يده فقبلتها فترك الكيس متفاجئاً ثم أمعن النظر بوجهي فعرفني وبدأ يبكي وأنا أبكي حتى مضت دقتين من الصمت ثم بدأ يدور بيننا حديث حول الوضع الراهن والناس والثورة ثم أذن المغرب فعدت تاركاً هذا الكبير في عمله الذي يحيى فيه حياة تجعله في قمة الطمأنينة والسكينة.