ما بين القاهرة ونيويورك، حكاية غزيّ مجنون

يسري الغول*

[email protected]

راحة تملأ صدري، كأني وصلت، رغم أني لم أخرج من الشقة بعد...

صليت الفجر، ارتديت ملابسي، ثم ودّعت صديقي د. ثابت العمور بحرارة، قبل أن أخرج من الشقة لأتنفس مع الصباح أريج القاهرة، ركبت التكتك وصولاً إلى رأس الشارع عند مترو فيصل، وهناك ركبت سيارة أجرة للوصول إلى مطار القاهرة (Terminal 3)، حيث كان موعد وصولي مناسباً لصعوبة إجراءات التفتيش بخلاف رحلاتي السابقة. فما أن وصلت حتى استقبلتني تلك المضيفة السوداء بلطف وسألتني قبل أن أصل كونتر الحصول على التذاكر وتسليم الحقائب عن أي سوائل أو طعام موجود لدي في الحقائب الخاصة بي، وغيرها من الأسئلة التي لا اذكرها الآن، بعد ذلك توجهت لختم جوازي والانتظار أمام صالة (G2)، ثم صعدنا الطائرة، الحلم، ولم أكن أصدق أنني حقاً نجحت في اجتياز تلك العوائق الخرافية. وفي الطائرة ترحب بنا المضيفات، أجلس بجوار رجل أمريكي مسلم، جاء إلى القاهرة كي يتعلم العربية هو وزوجته وأبناؤه، نتحدث قليلاً ثم أنشغل بمشاهدة بعض الأفلام، ثم التحليق بخيالاتي حين النظر من شباك الطائرة والموسيقى تأخذني حيث تريد.

ما أثار انزعاجي هذه الرحلة وجود امرأة ثقيلة الظل تجلس في المقعد الأمامي لي، تتحدث كأنها تريد المشاجرة مع المضيفات أو أي من الذين يتحدثون معها، لدرجة أن كرهت نفسي من صوتها ولغتها الغبية. وما زاد حنقي أنها كانت تقوم بإمالة المقعد إلى الخلف حتى أشعر بأنه سيجتازني دون استئذاني. تحملت ذلك لعدم رغبتي بالمشاجرة مع تلك المتعفرتة، ولعدم الإساءة للفتاة الجميلة التي بجوارها صامته، والتي ظننت أنها أختها أو صديقتها. المضحك أنني اكتشفت في اليوم التالي لوصولي نيويورك بأن الفتاة التي كانت بجوارها هي زميلتي خلود من سوريا، والتي كانت (مخنوقة) من جارتها ثقيلة الظل مثلي تماماً.

في الطائرة، وقبل أن نصل أرض المطار قامت المضيفة بإعطائنا أوراق كي نقوم بتعبئتهم وتسليمهم عند النزول لمطار  JFKبنيويورك. وقد طلبت مساعدة الشيخ الأمريكي الذي بجواري في بعض الأمور لكنه لم يكن يعرف الإجابة أو حتى كتابة كلمة مانهتن، فأدركت بأن انجليزيتي أفضل منه. وبعد أكثر من 11 ساعة ونصف ونحن معلقون بين السماء والأرض، نزلنا بهدوء ثم توجهنا إلى صالة الوصول، هناك قمت بتسليم جوازي، وفحص بصمة الأصابع والعيون مجدداً. وحمدت ربي أن الأمر كان سريعاً، لأن تعبئتي للورقة كان دقيقاً بخلاف كثيرين كانوا قبلي بالطابور. وعند البوابة كان شرطي آخر يطلب الجواز، نظر إلي  بتفحص ثم سألني عن سبب مجيئي وانتهى كل شيء، لأجد نفسي على أرض الولايات المتحدة الأمريكية، الحلم الذي طالما تمنيت ولوجه. 

في الخارج وقفت في طابور آخر للحصول على سيارة تقلني حيث أريد، وحين جاء دوري سألني الأمريكي الشاب عن وجهتي، فأجبته: "مانهتن". صعدت، فأخبرني السائق بأن الأجرة هي 50 دولار ولكنه يريد البقشيش لتصبح 60 فأعطيته 55 $ وأبلغته بما معناه (بوس إيدك واسكت). ما اكتشفته هناك بأن البقشيش يؤخذ عنوة بخلاف أوروبا أو أي مكان آخر، فالبقشيش يُكتب حتى ضمن قائمة الحساب عند دخولك أي مطعم مع الضريبة طبعاً.

أثناء الطريق كان حديث الرجل دافئاً، فهو باكستاني مسلم، ويعرف أبو عمار، ولعل ما أزعجني أنني فررت من السياسة وأحاديثها الجوفاء، لأكتشف بأنها لا تنتهي كأنها إكسير الحياة. وحين وصلنا مانهتن، وتحديداً فندق الأمم المتحدة بلازا ميلينيوم. وجدتني في أحد أفلام هوليود، رجل اسود يمسك كلبه الجميل بزي رسمي، يلقي بابتسامته للعابرين قبل ولوج المكان.

في الفندق تحدثت مع الريسبشن (الاستقبال)، فكان بجعبتهم حقيبة ورقية تحتوي على رسالة ترحيب وبرنامج الزيارات المتوقع في الولايات المتحدة وأشياء أخرى، شكرتهم، ثم حملت أشيائي وصعدت إلى غرفتي الوثيرة في الطابق 33 لأكتشف جمال وروعة مانهتن، النهر الذي يلف المدينة، المطر الذي يرسل ترانيمه للشعراء، الأنوار التي تغطي المكان لوحة تجريدية فاتنة. ولحسن حظي كان مقر الأمم المتحدة الدائم أمامي، بجماله الخرافي، وألواحه الزجاجية السامقة.

***

ولجت الغرفة، حصلت على حمام ساخن، أغمضت عينيّ لاستيقظ مع الفجر. لم أدع الفرصة تفوتني، فقمت وحصلت على عدد من الصور لي داخل الغرفة، وفي الخارج تبدو المدينة غارقة في اللذة، الحياة.

في الصباح نزلت كعادتي مبكراً، حيث لم يكن أحد سوى صديقي لاحقاً معاذ الدبلوماسي الأردني، يدخن سيجارته في الخارج، أو (يدوزن) كما يقولها بلغته المحببة إلى قلبي. ومعاذ أبو دلو، يعمل في السفارة الكندية بعمان، كمدير لقسم السؤون السياسة هناك.

***

جلست في لوبي الفندق أتمعن المارة من خلال الزجاج وهم يتدثرون ملابسهم للوصول إلى أماكن عملهم. وحين دخل معاذ مجدداً ابتسمت، وسلمت عليه، تعارفنا ثم عاد مجدداً لطبع قبلة في فم سيجارته الملعونة، فخرجت معه كي أتأمل مقر الأمم المتحدة الذي لا يبعد سوى عدة أمتار عن الفندق. بعد ذلك بدأ أعضاء الوفد بالنزول، أكثر الأصدقاء حباً لقلبي عبد الله من الجزائر، روية من إيران، سيف من عمان، محمد من اليمن، أشرف من تونس، بشارة من اليمن، نائلة من لبنان، خلود من سورية، وياسمينا من المغرب.

أربعة أيام قضيناها في نيويورك، مانهتن، حيث الحياة التي لا تنقضي بانقضاء اليوم، كأنها في دائرة لا تنتهي، تدور، تدور والزمن ليس له أي وزن أو حساب. نستيقظ وقد أخذ التعب منا مبلغاً بسبب سهرنا اليومي في التايم سكوير (time square) تحت المطر والأضواء الباهرة. لنتجهز لمحاضرات جديدة ولقاءات مميزة مع عدد من صناع القرار والساسة والاقتصاديين والفاعلين في المجتمع الأمريكي.

ففي اليوم الثاني لنا في نيويورك، توجهنا إلى أحد مقار الأمم المتحدة هناك والمقابل للمقر المركزي، تناولنا طعام الإفطار، وكنا أثناء ذلك نتحدث ونضحك كأننا التقينا منذ عشرات السنين حتى أن زميلتنا الإيرانية أبلغتنا بأنها تشعر بأنها تعرفنا منذ سنوات.

كريمة منسقة البرنامج، رحبت بنا هناك مجدداً بوجود السيد جون كريستوف أحد أهم مسئولي البرنامج. تلا ذلك عدد من المحاضرات والمناقشات مع العديد من دبلوماسيي الأمم المتحدة.

.. وبعد أن تناولنا طعام الغداء في أحد المطاعم القريبة من المكان، توجهنا إلى فضائية بلومبرج الاقتصادية (Bloomberg)، وهي فضائية اقتصادية عظيمة، اكتشفنا هناك بأن العمل له رونقه الممتع، فالمكان مجهز بكافة سبل الراحة، حتى البصرية، حيث تنتشر أحواض السمك، بالإضافة إلى الطعام الموجود بكل رقعة من المبنى، فبإمكان الموظف تناول الطعام في أي وقت، المهم إنجاز العمل. كانت تقودنا فتاة شقراء داخل المبنى لتعطينا انطباعاً سريعاً عن تلك المؤسسة الدولة. التي تحتوي جميع مكاتبها على جدران زجاجية لضمان شفافية العمل.

هناك، حصلنا على كرنيه يسمح لنا بدخول المكان ذو شكل جميل وبه كلمة سر واسم مستخدم للانترنت. وحين انتهينا من جولتنا تلك تم إعادة الكرنيه حتى أنزعج كثيرون منا لرغبتنا بالاحتفاظ به.

.. ومع أريج المطر في مانهتن توجهنا إلى منزل السفير التركي بالأمم المتحدة لتناول طعام العشاء، حيث تمت دعوة عدد  كبير من المسؤلين على شرفنا، وسعدنا كثيراً لحضور المسئولة الألمانية عن البرنامج والسيد جون كريستوف وغيره ممن أشرفوا على البرنامج الخاص بنا. كان السفير التركي مؤدباً هادئاً، يضج وجهه بالحياء، حتى حديثه كان لبقاً، ودمثاً كخلقه.

***

اليوم التالي، استيقظنا كالعادة عند السابعة، وانتظرنا كريمة في اللوبي حتى تأتي وبعد أن جاءت، توجهنا إلى ذات المقر للحصول على جرعة جديدة من المعلومات، وأجمل شيء في ذلك اليوم أننا ذهبنا إلى (البرونكس)، لأنها تمثل الوجه الحقيقي للسكان المهاجرين، حيث الأفارقة والعرب وأمريكيون لاتينيون. كان البرفسور إسماعيل، والذي يعتبر أحد أعلام تلك المنطقة، قد دعانا لتناول طعام الغداء وهو الأفضل في رحلتنا إلى الولايات المتحدة، وجبد غداء دسمة للغاية، هناك غنينا وسعدنا براحة ملؤها الحب والاحترام لأناس همهم أن يبنوا مجتمعاتهم، ويصنعوا جيلاً فريداً حريص على بناء الدولة والإنسان. ولقد طنت الكلمة في أذني ذات لقاء: ليس مهماً من أنت، المهم ماذا ستقدم؟ كيف ستخدم هذا المجتمع؟

.. بعد تناول طعام الغداء وقد صار وزني عربي بالتمام، خرجنا في رحلة حول المدينة وذهبنا إلى أماكن تعليم الأطفال هناك، وتدريبهم على تحقيق هواياتهم، كان المطر قد بدأ بالنزول، فصار التقاط الصور سريعاً. ثم ودّع بعضنا الآخر، وعدنا بالمترو إلى مانهتن، ولعلي هنا بحاجة للقول بأن مترو القاهرة أجمل بكثير من متروهات نيويورك (من الناحية الشكلية على الأقل).

وفي مساء ذلك اليوم، ونحن ما زلنا متخمين بالطعام خرجنا مع المطر للذهاب إلى أحد أفخم مطاعم مدينة مانهتن، للقاء السيد رون بردر، مؤسس مؤسسة التعليم من أجل التوظيف، وأحد أغنى رجال العالم. تناولنا طعام العشاء معه، والحقيقة لم يكن يتسع في معدتي مكان للطعام، فاكتفيت بتناول الحلوى فقط. تحدثت مع ذلك الرجل الذي أخبرني بأنه قام بدعم الجامعة الإسلامية وعدد من الجامعات الفلسطينية. كما قام بزيارة الضفة الغربية أكثر من مرة فدعوته لزيارة غزة.

اليوم الأخير لنا في نيويورك، كان أيضاً مثقلاً بالمحاضرات لدرجة أننا كنا نغفو دون أن ندري، فيصير الواحد منا يلمز صديقه ويضحك، فتمتعض المنسقة الأمريكية وتطلب إيقاظنا، وكنت في كثير من الحيان لا أعرف كيف استيقظ. فالنعاس يدب في أوصالي بلا رحمة. وهو ما يؤكد لنا بأن الرحلة كانت شاقة رغم متعتها.

في اليوم الأخير لنا هناك، حضرنا عدداً من المحاضرات وجلسنا مع عدد من قادة الأديان. ثم مع السيد عباس باقري، الاقتصادي البارز وعالم التخطيط المالي. ثم اختتمنا جلستنا في ذات المبنى بجلسة أخرى مع الفرنسية الرائعة بيندكيت دي مونتالر، حيث تحدثت عن الحالة السورية وغيرها من القضايا السياسية، ودور وموقف مجلس الأمن منها، وحين كنت أسألها تضحك وتجيب ثم تطلب مني ألا اكتب ذلك في مدونتي، فأعدها بذلك.

بعد الانتهاء من المحاضرات توجهنا وحدنا عبر المترو إلى جامعة كولومبيا للقاء أحد أعضاء وفد تحالف الحضارات من أمريكا. وهناك فقدنا خلود لشدة الازدحام بالمترو، فعادت إلى الفندق واكتفت بالنوم.

ما بقي لي أن أذكره هنا، هو أن تلك الأيام كانت مليئة بالحياة رغم وعورتها، فهناك تكتشف الحياة، المغامرة، الجنون.  ففي أحد المرات خرجت لتناول طعام العشاء مع أصدقائي الذين دفعوا بنا إلى أحد المطاعم الفخمة والغريبة، وحين ولجنا المكان وجلسنا على طاولة منعزلة عن الآخرين، اكتشفت من خلال قائمة الطعام أن ليس بينها ما يناسبني، كما أن أسعارها مرتفعة جداً، فقررت الخروج والعودة إلى التايم سكوير، حيث تناولت العشاء في الماكدونلدز. كنت أضحك بأن أصدقائي (لبسوا) خازوق مرتب، إلا أنني حين التقيت بهم في اليوم التالي، أبلغوني بأنهم تناثروا خلفي كالبخار وتركوا المكان.

تلك الليلة لم أهتدي إلى الطريق لأنني سرت في الاتجاه الخاطئ وقد كان الليل يوشك على الانتصاف. ولكن بعد السير باتجاه الخريطة اهتديت إلى الفندق، الجميل أنني وجدت العمال الأمريكيون يقومون برصف الشوارع ليلاً، فسعدت لأننا لا نجد ذلك في بلادنا التي تعوزها الأمكنة والدروب.

في تلك الرحلة، أذكر بأني كنت أذهب كل يوم مع زملائي إلى مقر مجلس الأمن والجمعية العمومية، نمارس نفس الطقوس الأمنية، بخلع الحزام الجلدي، ووضعه مع الكاميرا والحقيبة وأشياء أخرى تحت جهاز الفحص، ثم ندخل لنكتشف المكان من جديد، فيلاحقنا النوم والنعاس مع كل ورشة عمل أو محاضرة.

هناك كنا نستمع إلى صناع القرار، نلج الباب بهدوء ثم نغادر كما دخلنا. نلتقط لبعضنا الصور ونتحدث كأننا بالفعل ضمن طاقم موظفي مجلس الأمن. وذات مرة استوقفني أحد الدبلوماسيين الأتراك بعد زيارة لمكتب المسئول القطري في مقر الأمم المتحدة وسألني، هل أنا الفلسطيني؟ فأجبته بأنني من غزة ومن أحد مخيماتها. فقال وكان وجهه يوحي بحزن:

-       إنني أعشق غزة، وحين أتحدث عنها أنسى أنني دبلوماسي أصلاً، فغزة تعني لي كل شيء.

لقد تأثرت كثيراً بما اخبرني به ذلك التركي، وتوقفت عنده كثيراً وتساءلت: لماذا يذبح أربابنا غزة؟ يقطّعون لحمها ويبيعونها بثمن بخس؟ غزة التي أصبحت مزاداً تباع فيه البطولات، ويموت فيها الأبطال؟ غزة التي نعشق فنقرر أن نهجرها كي تبقى كبيرة في عيوننا. غزة التي هي غزة. لا وصف لها إلا الجنون. والجنون ليس إلا أن تموت في حب غزة.

               

* عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين