الأصابع القذرة
الأصابع القذرة
ثناء محمد كامل أبو صالح
[email protected]
لامستها أمها برفق فانتفضت مذعورة.. سألتها : إيمان حبيبتي.. ألا تأكلين
شيئاً ؟ طالعتها بنظرات كئيبة وتكومت على
نفسها تخفي وجهها بين ركبتيها, وارتفع نشيجها هادئاً حزيناً, يحز قلب أمها بسكين
صدئة اقتربت منها أكثر .. حاولت احتضانها
.. فردتها عنها بقسوة, همست لها : حبيبتي .. أخبريني عما .. وغصت بدمعها وماتت الكلمات على
شفتيها, وابنتها مازالت في بكائها الموجع ..وامتدت يد الأم تربت شعرها, فانتفضت
كعصفور جريح يائس ورفعت وجهاً خطت الدموع على صفحته خطوطاً قاسية, وقالت وهي تصر
على أسنانها : ألا تعلمين ما بي ؟ ألا تعلمين ؟؟ فلم السؤال إذن ؟ لم السؤال ؟؟ - ولكن .. ولكن يا ابنتي ذلك قدر
الله.. قاطعتها بعنف : يسهل عليك قول ذلك ..
فأنت لم تمري بما مررت به .. أحست الطعنة نافذة في قلبها.. فهمست
بأسى : أعلم والله .. لقد كان أهون علي لو كنت مكانك, ولكن .. ولم تدر ما تقول أكثر هتفت إيمان بحدة : إذن دعيني .. دعيني
وشأني - ولكنك ابنتي .. وحيدتي , ومنذ أيام
لم تأكلي شيئاً .. أرجوك تعلقت نظراتها الخابية بالفضاء وهمست
كأنما تحدث نفسها : منذ أيام ..هه لا تقلقي يا أم .. لقد أكلت .. منذ شهور وأنا
آكل .. آكل الصبر وأشرب المرار حتى عافت نفسي الحياة .. - ولكنك قد.. قاطعتها بحدة : قد أموت ؟ يا ليت يا
أم .. يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً .. ليتهم قتلوني قبل أن .. قبل أن .. وغصت بدمعها من جديد, وانهارت باكية
وهي تصيح : أرجوك اخرجي .. أقفلي علي الباب .. أغلقي النوافذ .. سدي كل شق يتسرب
منه صوت أو نور.. اقتليني.. ادفنيني حية.. دعيني أموت .. أرجوك .. وقامت الأم تجرجر أذيال يأسها, لا
تكاد ترى طريقها من خلال الدموع, وقلبها يلهج بالشكوى إلى الله .. يا رب .. يا حكيم
يا عليم .. إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي .. ولكن .. الصبر يا رب .. ***** أيام أخرى مضت وإيمان في غرفتها تنهض
لصلاتها فقط, وتأبى أن تذوق زاداً أو حتى شربة ماء تسمعها أمها تناجي ربها طيلة الليل,
تضرع إليه أن يأخذها .. أن يريحها من عذابها .. تراها تفرك جسدها بقماشة مبللة كأنها
تريد نزع جلدها الذي لامسته الأصابع القذرة, فتلسعها سياط الأسى ويتفطر قلبها حزناً
وألماً على وحيدتها ولا تملك سوى اللجوء إلى العلي القدير ترجوه وتلح في الرجاء وتكاد مأساة إيمان تنسيها اختفاء أحمد
الذي خرج يبحث عن أخته لما تأخرت في عودتها إلى البيت .. فلم يرجع .. تراه حي ترجى
عودته, أم ميت فتدعو له بالرحمة ؟؟ وهي بين هذين تتلاطمها أمواج الحيرة
والقلق, فلا تجد لها خلاصاً سوى بالدعاء .. يا رب .. أفرغ علينا الصبر .. **** وتحاول مجدداً مع ابنتها لتأكل شيئاً
.. تهمس إيمان وقد أنهكت جوعاً وألماً :
يا أم دعيني أرجوك .. - يا
ابنتي ارحميني .. ما صدقت أنك عدتِ إلي ..أتريدين قتل نفسك ؟ وترفع إليها بصرا ومض فيه بريق الحقد,
وتهتف وهي تصر على أسنانها وتضرب بقبضتيها على بطنها : بل أريد قتله هو .. قتله هو
.. قتله هو .. وسقط الطعام من يد الأم .. وارتفعت
الكف تكتم شهقة الفزع, وهرولت بعيداً بعيداً .. بينما انكفأت إيمان على وجهها تنتحب
وتنتحب .. أخيرا باحت بما قد يعجل موت أمها
مريضة القلب . ***** بكت الأم بمفردها بعيداً عن عين
ابنتها .. بكت البراءة والصبا .. بكت الطهارة
والحياء .. وتمنت لو استطاعت أن تحضن ابنتها
لحظتها, لو أخبرتها أنها الآن قد انتظمت في قافلة الأحرار الأبطال .. وأنها أنبل
وأشرف من أي وقت مضى, ولكن .. هل كان بإمكانها قول ذلك ؟ الكلام سهل .. والواقع مر مرارة
الحنظل .. تتخيلها وقد امتدت أصابع العهر إليها
تمزق عنها حجابها - الذي ارتضته لنفسها وهي طفلة العاشرة, ولم يفارق رأسها قط -
وتخدش حياءها وهي التي ما عرفت ما يخدش الحياء قط ؟؟ يا الله كيف احتملت تلك اللحظة ؟؟ ترى كم صاحت ؟؟ كم استغاثت؟؟ كم رجت
وتضرعت وهي الأبية الكريمة ؟؟ آه يا حبيبة .. ماذا أملك أن أفعل لك
؟ كيف أخفف عنك؟ أية قوة يمكنها أن تنسيك تلك اللحظات ؟؟ ترى هل هي لحظات ؟؟ أم ساعات ؟ أم
أيام وليال ؟؟ ترى هل هو واحد أم اثنان أم عشرات ؟؟
وابن من منهم هذا الذي تحمله ابنتها في أحشائها ؟ هي تعي تماماً أن كلمات الدنيا كلها
لن تخفف شيئاً من ألم الحبيبة العفيفة يا رب إليك المشتكى.. يا رب أعنا على
ما أصابنا .. يا رب اهدني لما يخفف مصابها لك الله يا حبيبة .. لك الله ..
وحسبنا هو ونعم الوكيل . *** تحاملت الأم على نفسها وتجاوزت عتبة
الغرفة, لتجد ابنتها متكومة على حالها .. وقفت مترددة لا تدري ماذا تفعل ولا كيف
تبدأ شعرت إيمان بأمها فرفعت بصراً خابياً
وهمست : أماه .. ماذا أفعل ؟ بدا واضحاً أن الحيرة تقتلها .. ضمتها
إليها بحنو .. فلم تبتعد.. ربتت على شعرها بكف رفيقة حنون, وتراءت لها الأصابع
القذرة تعبث بالشعر الطاهر .. ضمتها بقوة كأنما تريد أن تزيح الصورة المتخيلة من
ذهنها, ولكن إن استطاعت هي ذلك, فمن يملك أن يطمس الواقع المؤلم من ذهن الصبية ؟ همست إيمان وهي في حضن أمها : ماذا
سنفعل يا أم ؟؟ احتضنتها أكثر .. وردت : سنترك الأمر
لله .. أليست ثورتنا كلها لله ؟ انتحبت إيمان بهدوء في حضن أمها .. ثم
رفعت وجهها وسألت وهي تشير إلى بطنها : أسألك عن هذا .. ما نفعل به ؟ هذا ؟؟ اخترقت الكلمة سمع الأم كحربة
مسمومة .. الحفيد الذي طالما منت نفسها به, وحلمت أن تحضنه كما أمه من قبل, الحفيد
الذي طالما هددت ابنتها مداعبة بأنها ستحبه أكثر منها .. اليوم ..ماذا نفعل به ؟؟ كررت إيمان السؤال وهي لائذة بحضن
أمها .. آه يا ابنتي .. أمك التي كنت تباهين
القريبات والزميلات بصلابتها ورباطة جأشها في حالكات الأيام ..هي اليوم ضعيفة
حائرة.. أذابت صلابتها وهدت حيلها مصيبتك, ولكن .. لابد أن تبقى قوية أمامها ..
لابد . همست في أذن ابنتها : لن نفعل شيئاً
.. كما قلت لك سنترك الأمر لله انتفضت إيمان مبتعدة عن الملاذ الآمن
وصاحت : إنه ابن المجرم .. شرقت الأم بدمعها وهتفت : لا .. بل هو
ابنك .. حفيدي وأعولت إيمان متوسلة : أمي أرجوك ..
أنقذيني للحظة ..لم تعرف الأم بم تجيب, ثم
قالت : يا حبيبتي.. المصيبة كبيرة, ولكن لن ندعها تفقدنا إيماننا وعقلنا..ومثلك .. وانتفضت إيمان : مثلي كثيرات .. أعرف
ذلك, ولكن كيف .. كيف أبقيه في جوفي ؟؟ يذكرني كل لحظة بما حل بي ؟؟ كيف ؟؟.. غصت الأم بدمعها وردت بصوت يرتجف : يا
حبيبتي .. وهل إذا تخلصت منه ستنسين ما .. ما حدث ؟ همست إيمان كأنها تحدث نفسها : إذن
ماذا أفعل ؟؟ ماذا أفعل ؟ يا الله يا الله .. يا الله .. ماذا أفعل ؟؟ - ها أنت قلتها يا حبيبتي .. ليس لنا
إلا الاستسلام لمشيئته سبحانه .. يا بنيتي ألم يكن ما وقع لك بإرادته سبحانه؟ أليس
هو اللطيف الخبير بعباده ؟؟ رفعت ابنتها إليها بصراً حائراً ..
وهي تردد بذهول : نعم .. نعم .. نعم.. ولكن يا أم .. لو ارتضيت بقاءه في جوفي, وحتى
ولو ألقمته ثديي مبللة الحليب بدموع الأسى؟ هل سأشعر به يوماً قطعة مني ؟؟ هل يمكن
أن يكون غداً طفلي الذي حلمت به ؟؟ وماذا أقول له لو سألني يوماً عن أبيه .. وحتى
لو كذبت عليه .. ألن يعرف الحقيقة يوماً من الناس ؟؟ وطفقت الأم ترجو ابنتها أن ترأف
بنفسها وبها .. لكنها انتفضت تصيح : ولكن لا ..لا.. وما أدراني أنه لن يحمل جينات
المجرم ..بل ويفوقه إجراماً ؟؟ لا .. لا ..فليمت إذن.. واندفعت تضرب بطنها بقبضتيها وتردد :
ليمت.. ليمت أفضل لي وله . وانهارت أخيراً تنشج بصمت وتئن أنيناً
يذيب الكبد, وأمها عند قدميها تغسلهما بدموعها الطاهرة وتشكو الأمر إلى خالق
الأكوان وحده .