كم أدين لك حبيبتي
كم أدين لك حبيبتي !
إيمان شراب
وحّد الثائرون صفهم ، هتفوا هتافات تقشعرمنها الأبدان وتضطرب وتثور معهم ، ففهمت فتح روما وسقوطها في أيدي المسلمين بالتكبير فقط – كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - !! وصمد الثائرون ضد البطش والقتل والتفريق ، فنجحوا وفرحوا وفرحنا معهم ...
فرحنا من أجلهم ، وفرح معبر رفح لأنه سيمارس إنسانيته التي حرمه منها حسني واليهود .
أخذت الأماني برؤية الأحباب تستيقظ من سبات طال .. سأرى والدتي وخالتي وعمي .. سأرى أخي وأولاده وأحفاده الذين لم أرهم منذ تاريخ بعيد .. عشر سنوات لم أرك يا أمي !! كيف أصبحت حبيبتي ؟ أسمع صوتك شابا جميلا ناعما حنونا فأطمئن ، لكنك قلت لي مؤخرا وبعد أن فتح المعبر التاريخي أبوابه ، قلت لي : لم يسلم من المرض سوى صوتي بنيّ ، ولعل الله أطال في عمري لأراك ، ألن أراك ؟ اشتقت إليك وإلى ظـُـرفك وعطفك ! اشتقت إلى صخبك ومرحك ؟ أأنت كما أنت حبيبي ؟ لا أنساك وأنت تمسح دمعتي أوتقف معي في المطبخ تعاونني وتعد القهوة لنشربها معا ! لا أنساك ويدك تمر فوق رأسي تدهنه بالزيت ليهدأ الصداع ...
إيه يا أمي ! لعن الله اليهود ومن والاهم ! سأراك يا غالية وسأرى الأحبة – بإذن الله- .
سأرى بلادي التي أعتقد أنها ما ازدادت إلا خرابا وصلابة وعنادا ..
عزمت وسافرت إلى مصر مع زوجتي والأبناء ، والنية غزة .
لم يكن هناك أي مشكلة في الدخول إلى غزة عبر المعبر ، لكن المشكلة التي اصطدمت بها هي عدم قدرتي على الخروج إلى مصر إلا بعد زمن يبتعد كثيرا عن تاريخ انتهاء إجازتي !! الأمر صعب ، ولا مجال للتأخر لأنني أصلا على المحك ، وفي أي فرصة قد يُستغنى عن خدماتي ليستبدل مكاني بابن البلد !
بينما أنا في القسم المصري من رفح حسبما يدّعون افتراء .. بينما أنا في عالم آخر لا يمكّنني من رؤية شيء حولي مهما صخب وتنوّع وتلوّن .. إذ بشاب أسمر يظهر فجأة أمامي ..
قال : نفق ؟
قلت : نعم ؟
قال : بضاعة أم أنفار ؟
عدت لأقول : نعم ؟
قال : لدينا أنفاق لكافة الأغراض ، ننقل السيارات والحيوانات والأثاث والأدوات الكهربائية والملابس والتموينات الغذائية .... ولدينا أيضا أنفاق للناس .
ابتسمت متعجبا : هل تقصد أنفاقا ممتدة من هنا لغزة ؟
قال : نعم ، أخبرني عن طلبك ، وأنا سأحل لك المشكلة .
ضحكت من هذا العجب وكأنني شخصية في أحد الأفلام ! خفت للحظة أن يكون مخبرا أو أي شيء .. لا أدري .
سألته : وهل يسافر الناس من هنا لغزة عن طريق النفق ؟
قال : طبعا ، إليها ومنها وكل يوم .
قلت : وما فائدة المعبر المفتوح ؟
قال : كل له ظرفه ، وعموما أيام الإجازات والمناسبات يزدحم المعبر ، فيصعب أن تخرج إذا دخلت لأن المعبر له حد معين من الأرقام يسمح لهم بالخروج .
قلت محدثا نفسي : أصبحنا أرقاما ؟
فسمع وأجاب : لا مشكلة يا سيد .. أصبحتَ رقما ، نقطة ، علامة تعجب ، علامة استفهام ! لا تكن عالي الحساسية ، هم ضيقوا علينا ، ونحن فكرنا واخترعنا حلولا لمشاكلنا لنعيش .
سألته : أمتعلم أنت ؟
قال : أحمل شهادة جامعية في اللغة العربية ... هل أجلس أندب حظي وآسف لحالي؟ لا والله ! ما دمت أعمل حلالا ، فسوف أعمل رغما عن الجميع ورغما عن كل شيء .
قلت له مشفقا : لكن العمل في الأنفاق خطير – علما بأنني لم أكن أصدق بوجودها واعتقدت أنها فرية من اليهود لتكون سببا لممارسة إجرامهم - .
قال : الأنفاق موجودة ، نريد أن نعيش أيها الأخ .. ومن جهة الخطر فالعمر مكتوب والسبب مقدر .... المهم ، ماذا قلت ؟
بعد تفكير لم يطل ، وافقت مدفوعا بحماس المغامرة .
في الموعد المحدد حضرنا ، قادنا الرجل إلى أحد المنازل السكنية ، دخلناه وإحساس بالرهبة لا يفارقنا . دخلنا المنزل الذي تتوسط إحدى حجراته ، حفرة مغطاة بغطاء إسمنتي ثقيل وقطعة من السجاد الرخيص .
أنزل الرجل حقائبنا ونزلت خلفه بإذن منه ، وضع الحقائب على قاعدة خشبية أضاف إليها العجلات وبطارية ، فأصبح بمقدورها السير في النفق هي الأخرى .. استقبلت النازلين من عائلتي واحدا تلو الآخر ، مشينا خلفه في صف منتظم فرضه علينا ضيق النفق ، وكثيرا ما خفضنا رؤوسنا ليس لقصر الارتفاع ، وإنما تقديرا لهذه الحلول الإبداعية . سرنا ما يقرب من المئتي متر ، تعثرنا وقمنا ، وضرب رؤوسَنا السقف ، فمسحنا الإصابة وضحكنا وتابعنا .... حتى وصلنا أخيرا نهاية النفق .
لم نصدق سلامتنا وهنأنا بعضنا ، وبقيت النهاية : حيث صعدنا - للخروج من النفق- مصعدا عجيبا من اختراع تجار الأنفاق .. وتنفسنا أخيرا هواء رفحنا .
ركبنا سيارة مثل باقي سكان الكرة الأرضية لنقلنا إلى غزة ، وقد كنت أظن أننا سنعتلي حميرا لها محركات للقيام بهذه المهمة ! وليس مستغربا أن يحدث ذلك يوما لو استمر الحصار والتضييق ، فكل شيء هنا في غزة مختلف .
الكهرباء تكهرب الأجهزة يوما وتمتنع يوما ، ترشيدا للاستهلاك .. وأنابيب الغاز أسعارها تتجاوز المعقول وغير المعقول ، ولا تعبّأ إلا بالطلب وبالرقم .. البضائع والسلع من حجم الذرّة إلى حجم الفيل تدخل عبر الأنفاق ، فتكون أثمانها غاية في الجنون .. والمستشفيات كثيرا ما تعجز عن القيام بدورها .. ومياه الشرب لا تصلح للشرب ولا لغيره و......
ورغم هذا الحصارالمركب .. رغم عدم الشعور بالأمان .. رغم الاحتلال ..
إلا أن الناس في غزة ، جعلوا لهم من كل ضيق مخرجا ، ومع كل سياج نفقا ، فلووا ذراع الحياة وعاشوا .
عدت مرة أخرى إلى مصرعبر النفق لست خائفا ، بل أمتلئ شوقا وحبا وقناعة ورضا وزهدا وحماسا وإصرارا ....
كم أدين لك يا غزة !