في انتظار جائزة نوبل

إياد الصفدي

لم يتصور حسين الغزاوي أن حياته كلها سوف تنقلب ظهرا على عقب ، بعد الزيارة لمدينة طولكرم، للمشاركة بمهرجان شعري كبير.

بعد أن ألقى قصيدة في المهرجان لدعم الانتفاضة، تغيرت حياته.

الحقيقة أن حياته تغيرت دقيقة بعد دقيقة، خلال إلقائه القصيدة.

انطلق صوته بشكل ناري، وكانت له وقفة مميزة على المنصة، تمرن عليها منذ تلقى الدعوة للمشاركة في المهرجان الشعري الوطني في طولكرم .وكان بين كل بيت شعر وآخر يحك رأسه حكة شاعرية متقنة. وأحيانا كان يضرب على الطاولة بقوة شديدة تتلاءم مع قوة كلمات القصيدة. ووصلت اللحظة الشعرية قمة تجليها عندما طلب وهو يلقي قصيدته الوطنية بنبرة حادة: أعطوني ماء.. فضحك الجمهور وصفق له طويلا. فقال حسين الغزاوي لنفسه: "أصارحك بالحقيقة يا حسين الغزاوي أنت شاعر كبير".

بعد المهرجان كان عشاء. وعليه تغير أسلوب حسين في الحديث. صار يدقق أكثر في اختيار الكلمات. ويتكلم على مهل شاعرا بقدرته الكبيرة على شد الأنظار والآذان. كأنما يعد جواهر وليس ثرثرة بكلمات لا تعني في النهاية شيئا. لاحظ حسين الاهتمام بحديثه، فقال لنفسه :"يجب يا حسين أن تكون مسئولا أكثر، أن تختار كلماتك بهدوء وتمعن، يجب أن تستعمل صياغات تراثية لتبرز معرفتك بالتراث، أن تذكر أسماء فلاسفة في حديثك، لتسحر المستمعين باتساع عالمك الفلسفي، يجب أن تطلق تقييمات تدل انك مفكر، وطبعا وطني.

بعد انتهاء العشاء الفاخر، ركب السيارة مع صديقه عائدا إلى "فلسطين48"، حيث ولد وما زال يتمسك بتراب وطنه، ويكرس شعره للقضية الوطنية، ويبدو أن العشاء الثقيل جعله يرتخي في مقعد السيارة، صامتا، ولم يكسر الصمت إلا قول صديقه له :"الليلة ظهر شاعر كبير في سماء فلسطين". تظاهر حسين بالانضباط وخنق انفعاله، ولكنه كاد يطير من الفرح لولا أن الشبابيك الزجاجية للسيارة مغلقة تماما، وعقله قال له بسرعة ان التواضع ميزة حسنة، واترك للآخرين أن يمجدوا شعرك ودورك الوطني والثقافي. أضاف صديقه بعد دقيقة: "قصيدتك الليلة رفعتك إلى مستوى الأدباء العالميين الذين حصلوا على جوائز نوبل".

فابتسم بصمت، رغم انه في داخل نفسه كان شعور العظمة يملأه بثقة الوصول إلى المليون دولار، قيمة جائزة نوبل الهامة التي تمنح لأبرز الشخصيات في مختلف مجالات الحياة، ومنها الإبداع الأدبي.

منذ تلك اللحظة بدأت مرحلة جديدة من حياة حسين الغزاوي.

صار في الصباح يشرب القهوة بدون سماع الأخبار. وفلسف الأمر لنفسه بأن الأخبار هي موضوع الحياة الجارية اليومية، وهو مشغول بالخلود، بالقضايا المصيرية لٌلإنسان.

حاول أن يجعل حياته طبيعية مع زوجته وأولاده، إلا انه في صميمه قال لنفسه: " يجب ألا أضيع الوقت بالذهاب إلى محل الخضرة والبقال لشراء البنادورة والبصل والجبنة والبيض، وهل يجب أن أجلس مع الأولاد لأساعدهم في دروسهم، واشرح لهم دروس القواعد ومسائل الحساب، وأحفظهم التاريخ والجغرافيا؟ هل أضيع وقتي الغالي جدا في مواضيع لن تقدمني نحو المجد خطوة واحدة؟".

وبعد تفكير قال لنفسه: "صحيح أن الابن غال، ولكن المجد أغلى، والخلود لا يقدر بثمن. يجب أن أعطي كل الوقت للشعر، للخلود، للحصول على نوبل". 

في أحد الأيام أراد احد أصدقائه الخبثاء أن يمازحه، تكلم مدعيا الرصانة الكاملة. قال له:

-       لدي ملاحظة ثقافية حول نشاطك الشعري، إذا سمحت لي ؟

-       تفضل.

-       اعتقد انك إذا تركزت بشكل كامل، معتنيا بتطوير تجربتك الشعرية، فقد تدخل عالم كبار الشعراء من أوسع أبوابه،ويصير أسمك مقرونا بأسماء عظماء الشعراء أمثال السياب  والجواهري ونزار قباني  والشابي ومحمود درويش وأدونيس ومظفر النواب. وأقول أكثر ، إذا طورت نزعتك الواضحة للحداثة ، فقد تتجاوز جميع كبار الشعراء العرب وتكون أول من يحصل على جائزة نوبل من الشعراء العرب.

بعد تفكير بما قاله صديقه، وبعد أن رتب الإجابة في رأسه، قال:

-       جائزة نوبل هامة ، ولكن الأهم النضال من أجل حقوق شعبنا، أنا لا أفكر بالجائزة كهدف لنفسي، إنما بتطوير الشعر النضالي، وإذا قاد هذا الأمر لجائزة نوبل ، فسوف تكون جائزة نوبل لشعبنا كله.

-       هل افهم انك غير معني بجائزة نوبل؟

-       بالطبع هي حلم كل أديب، إنا أيضا أحس ذلك في داخلي باني أقترب بسرعة من جائزة نوبل ولكني لا أتكلم حتى لا يظن جمهوري أن هدفي ليس الشعر وتحديثه والمواقف الوطنية، إنما جائزة نوبل..

تغيرت حياة حسين الغزاوي، صار شاعرا يدعى للمنابر ولا يفوت مناسبة دون المشاركة. أهلنا في المناطق المحتلة يرحبون به دائما، ويكرمونه بعد كل أمسية بعشاء فاخر. أما داخل "فلسطين48" فلا عشاء ولا تكريم، ويظنون أن الشاعر يشبع من بعض التصفيق!!

صارت كل خطوة يقوم فيها جزءا من نمط حياته المحسوب بدقة. جزءا من مشروع حياة. صار يقوم بالواجبات الاجتماعية ليصبح شخصية اجتماعية مرموقة، مثل التعازي والمشاركة في الأفراح. وتوصل إلى ضرورة التصرف بتواضع مع الناس، وهذا لا يتعارض مع العظمة والشهرة والخلود.

وبدل الحديث في القضايا اليومية صار حسين يتحدث عن آخر كتاب قرأه.

وكان يسال نفسه أحيانا بهمس لا يسمع:" كيف كان يتصرف أحمد شوقي؟ كيف كان يتعامل نزار قباني مع الناس؟ هل محمود درويش منغمس بالناس أم منعزل؟" وبعد الخوض في هذه الأسئلة المصيرية، يقول حسين لنفسه بصوت أقوى من الهمس:"كن يا حسين متواضعا، تصرف كانسان عادي،مع انك فعلا عظيم ، وطريقك أضحت واضحة نحو المجد، وجائزة نوبل تقترب بسرعة، إلا أن التواضع هو من  مميزات الخالدين... ولا أقول هذا مجاملة لنفسي."

هذا التغيير العميق والجذري في حياة حسين ومسيرته الثقافية، قلب وضع العائلة كلها رأسا على عقب.صارت زوجته تشعر انها بحاجة أن تقدم طلبا رسميا للكلام معه، أو لطلب شيء منه، وخاصة أن يقوم ببعض المهمات للبيت والأولاد. مثلا :

-       حذاء ابنك أمير بحاجة إلى  إصلاح، خذه يا حسين غدا وصلحه عند الكندرجي .

هذا يشعره بالذهول. حسين بعظمته يحمل الحذاء لتصليحه عند الكندرجي؟ قال لنفسه:" هل تريدني بكل عقلها أن أحمل الحذاء ، وآخذه إلى الكندرجي لإصلاحه؟ هل يليق بي أن أقف بالدور، وأنتظر حتى يتم إصلاح الحذاء؟ هل وقتي رخيص إلى هذا الحد؟ يا لتعاسة عديمي الثقافة، وجهلهم بكيفية معاملة العظماء".

مواقف عديدة مثل هذه جعلته يفكر تفكيرا عميقا جدا، بأن المبدع الحقيقي العظيم يجب أن لا يتزوج، وأن لا ينجب أولادا للعالم. يجب أن يحب المرأة فقط، بدون زواج، وان لا يبقى على امرأة واحدة لأن الحب مصدر الهام للشعر، لا أكثر ولا اقل.

وذات يوم سمع في الإذاعة أن أدونيس هو بين المرشحين لجائزة نوبل لهذا العام . وخلال أيام قليلة اتصل بأربعة أدباء لكي يرشحوه لجائزة نوبل. وقد طبع التوصيات بالعربية والانكليزية على ورق صغير، وطلب من أصحاب  التوصيات أن يوقعوا بخط اليد في نهاية التوصيات. وأرفق مقالات نقدية عن شعره تبرز دوره الحداثي والتجديدي  في الشعر العربي المعاصر، وكونه أحدث ثورة في الصياغة والصور الشعرية، وانه تجاوز المحلية إلى العالمية في الشعر، ولم يكن من الصعب الحصول على مراجعات نقدية بهذه الروح التي تشتهيها نفسه. المقال يكلف أقل من ثمن حذاء جديد. وجمع التوصيات والمقالات ، بعد ترجمتها إلى الانكليزية، وأرسلها بالبريد المسجل إلى لجنة نوبل. وقال لنفسه:" ها قد قطعنا ثلاثة أرباع الطريق"؟

وبدأ الوقت يمر بطيئا، بطيئا جدا. ثقيلا، ثقيلا جدا.وأحس الشاعر الكبير حسين الغزاوي أن الوقت من الآن وحتى صدور التوصيات بمنحه جائزة نوبل، هو دهر كامل.

أدى التوتر الشديد والقلق العميق والترقب إلى تغيرات في مسلك شاعرنا، في تعامله مع زوجته – تلك المرأة البسيطة التي لا تفقه أنها متزوجة من شاعر عظيم.كذلك تغير مسلكه مع أولاده، كان يقول لهم:" ليس كل الأولاد مثلكم أبناء شاعر عظيم"؟ ولكن من أين للأولاد أن يفهموا معنى ذلك؟ وتغير مسلكه مع الأصدقاء، ومع أهل البلد. ويقول لنفسه: "عندما تنشر توصيات لجنة جائزة نوبل سيفهم الجميع أهمية الإنسان العظيم الذي يعيش بينهم".

طال الانتظار وبات يشعر بالإرهاق من طول الترقب. ألهى نفسه بكتابة قصيدة عصماء يلقيها يوم استلام جائزة نوبل. وقال لنفسه:" لا تفكر طول الوقت بجائزة نوبل، انس الموضوع كليا، وعندها يمر الوقت بشكل أسرع. اخرج من التفكير بالجائزة، كرس وقتك لقصيدة الفوز، أكتب إقرأ، العب مع الأولاد قليلا، أشعرهم انك ما زلت تحبهم. اهتم بزوجتك واشرح لها ما ينتظرها".

ولكنه لم يقتنع بكلامه.

أدت التغيرات العميقة في مسلكه وتفكيره إلى الذهاب إلى أستوديو التصوير حيث عمل أكثر من دزينتين من صور مختلفة إحداها عن الأخرى. واحدة  بالبدلة وربطة العنق. وصورة وهو ينظر إلى البعيد، صورة وكفة يده تحمل ذقنه، صورة بملابس صيفية تبرز قامته الرشيقة، صورة مع نظارات قراءة على أرنبة أنفه، صورة وهو وراء الطاولة يكتب، وكرر الصور من زوايا مختلفة، ثم صورة وهو يبتسم ، وهو حزين ، وهو حائر. وغير خلفية الصور في الأستوديو . أبيض وأسود ورمادي وأحمر وغير ذلك. وزوجته من فقر عقلها قالت بألم حين شاهدت الصور:" ليس معنا فلوس لشراء الأكل وأنت تعمل كل هذه الصور؟".

لم يجبها. بل قال لنفسه:"هذه المرأة الشرقية تفكر بالطعام فقط. وما أبعد التفكير بالطعام عن التفكير بالخلود".

في يوم إعلان نتائج أسماء الفائزين بجائزة نوبل، اعتكف حسين في البيت مع ثلاثة من أصدقائه الأوفياء. اشترى ثلاث علب سجائر، عمل غلاية قهوة كبيرة، أغلق الباب بين غرفة الضيوف وبيت العيال وجلس مع الأصدقاء الثلاثة ينتظر.

كانت تلك ساعات مصيرية حقا، مشبعة بالتوتر الذي يصل حد الانفجار والجنون.

-       أنا متفائل جدا.

 قال لأصدقائه.. وهو عمليا يقصد طمأنة نفسه حتى يخفف توتره الداخلي.

-       إن شاء الله ، إن شاء الله أنت تستحقها بجدارة

-       لا شاعر عربي بمستواك اليوم .. والعرب أشعر الشعوب

-       والجائزة لشاعر العرب إن شاء الله

 قال الأصدقاء وهم ينفثون كميات هائلة من الدخان في فضاء الغرفة ويشربون القهوة.

-       لماذا لم تضع قنينة العرق على الطاولة كعادتك ؟

سال الأصدقاء.

-       اليوم أمر وغدا خمر.

قال في رصانة ومهابة محرفا جملة أمريء ألقيس المشهورة.

-       والله جائزة نوبل وقيمتها نصف مليون أو مليون دولار تحل كل المشاكل.

قال احد الأصدقاء. فأجابه برصانة:

-       أنت تفكر بالمال، ما قيمة المال ؟ أنا أفكر بالمجد .

ولم يضحك الأصدقاء تأدبا.

وقطعت الزوجة بصوتها جلسة انتظار نشر أسماء الفائزين بجائزة نوبل:

-       يا حسين، لماذا أنت منعزل في الغرفة مع أصدقائك؟ الولد مريض وحرارته مرتفعة، تعال خذه عند الدكتور.

كاد حسين أن ينفجر. بماذا يفكر هو الآن في هذه اللحظات التاريخية، وبماذا تفكر زوجته؟ ولولا وجود الأصدقاء للقنها درسا لن تنساه كل حياتها.

في تمام الساعة الواحدة ظهرا ، بنشرة الأخبار ، أذاع راديو لندن نبأ الفائزين بجائزة نوبل، وبشكل غير متوقع لم يكن اسم الشاعر حسين الغزاوي بين الفائزين لهذا العام.

حل الصمت لدقائق طويلة. الأصدقاء أيضا صمتوا. أحسوا أربعتهم انه من شبه المستحيل الكلام بعد الصدمة. ولم يكسر الصمت إلا حسين، وهو يقول بصوت هادئ، رصين، حزين ومتسام على الأحزان:

-       يا عمي الصهيونية لن تسمح بأن يحصل شاعر مقاوم فلسطيني على جائزة نوبل...